رودولفيو

رودولفيو

رودولفيو

فالانتين راسبوتين

ترجمة د. أيمن أبو الشعر

كان لقاؤهما الأول في حافلة الترام، ربتت على كتفه، وعندما فتح عينيه قالت له وهي تشير إلى النافذة:

  • آنَ أن تخرج

توقفت حافلة الترام فتدافع بين الناس وقفز من الحافلة وسارع خلفها على الفور. كانت شابة صغيرة جدا، لا يزيد عمرها عن خمسة عشر أو ستة عشر عاما، لقد أدرك ذلك على الفور عندما رأى وجهها المدور ذا الأهداب الرامشة والتي حولته نحوه منتظرة أن يشكرها.

  • شكرا… كان يمكن أن أشرد وتقودني الحافلة إلى محطة أخرى.

شعر أن هذا الشكر لم يكن كافيا بالنسبة لها فأضاف:

كان اليوم حافلا… لقد تعبت، كما أنني أنتظر مكالمة هاتفية في الساعة الثامنة، كم هو رائع أنك أنقذتنِي.

يبدو أنها اغتبطت… أسرعا معا يعبران الشارع متلفتين إلى سيارة مسرعة… كان الثلج ينهمر، ولفت نظره تحرك الماسح فوق الزجاج الأمامي للسيارة العابرة… عندما يهمي الثلج هكذا لطيفا منفوشا يبدو كما لو أنهم هناك في مكان ما في الأعالي ينتفون طيورا ثلجية مدهشة، لم يكن يرغب كثيرا في الذهاب إلى المنزل “سأنتظر الاتصال الهاتفي ثم أخرج مجددا” – قرر ذلك في نفسه ملتفتا إليها مفكرا ماذا يمكن أن أقول لها، إذ لم يكن مريحا أن يصمت طويلا، ولكنه لم يكن يعرف على الإطلاق عن ماذا يمكن أن يتحدث معها، وأي شيء لا يجوز الحديث فيه، وظل يفكر إلى أن قالت هي:

  • إنني أعرفك.
  • هكذا إذن – أبدى تعجبه- وكيف ذلك؟
  • أنت تعيش في البناء “112”، وأنا أعيش في البناء “114”، إننا بشكل وسطي نركب حافلة الترام معا مرتين في الأسبوع… ولكنك بالطبع لم تلاحظني.

– هذا مدهش

  • وما هو المدهش في هذا الأمر؟ لا شيء مدهشا على الإطلاق، أنت رجل عاقل، الكبار فقط يثيرون اهتمامك، كلكم أنانيون، أتقول لا؟

أدارت رأسها إلى جهة اليمين ونظرت إليه من جهة اليسار من أسفل إلى أعلى، أصدر نخيرا خفيفا ساخرا، ولم يجبها بشيء، لم يكن يعرف في الواقع كيف يمكن أن يتصرف معها، ما الذي يمكن أن يقوله وما الذي لا يجوز قوله.

سارا صامتين قليلا من الوقت، كانت تنظر إلى الأمام دائما، ثم أردفت وهي لا تزال تنظر أمامها كما لو أن شيئا لم يحدث:

-ولكنك لم تقل حتى اسمك

-وهل ضروري أن تعرفي ذلك؟

  • نعم وماذا في الأمر؟ لماذا يتصور بعض الناس أنني إن أردت أن أعرف اسم أحد ما فإن ذلك قد يثير اهتماما غير طبيعي لديه.
  • حسنا لقد فهمت كل شيء، إذا كان ذلك ضروريا فإن اسمي هو رودولف
  • ماذا؟
  • رودولف
  • رودولف- ضحكت
  • ما هذا؟

ضحكت بقوة أكبر حتى أنه توقف وراح ينظر إليها.

  • رو دولف – كوَّرت فمها وأعادت لفظ اسمه ضاحكة- رو دو لف ظننت أنهم يسمون الفيلة هكذا في حديقة الحيوان وحسب.
  • ماذا؟
  • لا تغضب – لمسته من كمه- ولكن ذلك مضحك، بصراحة إنه مضحك، ما الذي أستطيع أن أفعل؟
  • فتاة صغيرة أنت- عبر عن غضبه
  • طبعا فتاة صغيرة، وأنت كبير
  • كم عمرك؟
  • ستة عشر
  • أما أنا فعمري ثمانية وعشرون عاما
  • نعم لقد قلت لك أنك كبير، ثم إن اسمك رودولف- ضحكت من جديد، ونظرت إليه بمرح من جهة اليسار ومن الأسفل للأعلى.
  • وما هو اسمك؟
  • لن تستطيع أن تخمن
  • ولكني لا أريد أن أخمن
  • وحتى لو حاولت أن تخمن فلن تستطيع أن تحزر.. اسمي ايو
  • ماذا؟
  • ايو
  • لا أستطيع أن أفهم شيئا
  • أهو الأحرف الأولى من تسمية القائم بالأعمال (1)

وجاء وقت الانتقام بسرعة. فراح يضحك دون أن يمتلك القدرة على ضبط نفسه وهو يتهادى مترنحا إلى الأمام والخلف وكأنه جرس، كان كافيا بالنسبة له أن ينظر إليها حتى يعاوده الضحك أكثر فأكثر

  • أيو… – وحشرجت حنجرته- أي يووو…

انتظرت وهي تتلفت في كل الاتجاهات إلى أن هدأ قليلا فقالت غاضبة:

  • أهذا مضحك؟ لا شيء يستدعي الضحك، أيو اسم عادي كأي اسم آخر
  • اعذريني- انعطف إليها مبتسما- ولكنه مضحك بالنسبة لي… مضحك بشكل حقيقي

هزت برأسها غير معترضة.

على الطريق كان بيتها هو الأول، ثم يليه بيته فسألته متوقفة قرب الباب:

  • ما هو رقم هاتفك؟
  • ليس هذا ضروريا
  • أتخاف؟
  • الأمر ليس كذلك
  • الكبار يخافون دائما من الضوء
  • نعم هذا صحيح- وافق معها

سحبت راحة كفها الصغيرة من القفاز ومدتها له، كانت يدها باردة وهادئة، فصافحها

  • هيا أسرعي إلى البيت يا إيو…- وضحك من جديد

توقفت عند الباب

  • منذ الآن ستعرفني في حافلة الترام
  • طبعا سأعرفك
  • إذن إلى حافلة الترام- ورفعت يدها فوق رأسها محيية
  • الذي نركبه عادة – أضاف

بعد يومين سافر في مهمة إلى الشمال وعاد بعد أسبوعين. راحت المدينة تعبق بنكهة ربيعية حادة بعد أن حلت بشائر الربيع الذي شرع ينفخ ما يحاكي الرماد غباشة وغموضا دنيويين، عايش ذلك بعد أن ترك ضباب الشمال، هنا كل شيء كان ساطعا ومبهجا برنينه… حتى حافلة الترام. في المنزل قالت له زوجته لدى وصوله:

  • هناك فتاة كانت تتصل بك يوميا
  • أية فتاة – سأل متعجبا دون اكتراث-
  • لست أدري ربما تعرف أنت
  • لا أعرف…
  • لقد سئمت منها
  • أمر مضحك- وابتسم على الفور بفتور

كان رودولف يستحم عندما سمع رنين الهاتف، وسمع عبر الباب كيف أجابت الزوجة… نعم لقد وصل… إنه في الحمام اتصلي بعد قليل… رن الهاتف بعد ذلك من جديد عندما كان يستعد للنوم

  • نعم – أجاب-
  • روديك … مرحبا بك… وصلت أخيرا من السفر- لعلع صوت فرح في السماعة-(2)
  • مرحبا – قال بحذر- من المتكلم؟
  • لم تعرفني…آخ منك يا روديك… أنا إيو…
  • إيو- تذكر على الفور وضحك لا أراديا- مرحبا إيو هذا أنت إذن، لقد ابتكرت اسما لطيفا لي
  • نعم … هل يعجبك
  • هكذا كانوا يسمونني عندما كنت في مثل عمرك
  • لا تحاول أن تبدو رسميا
  • لا … ماذا تقولين

صمتا قليلا ثم سأل دون أن يملك صبرا:

  • حسنا ما الأمر يا إيو؟
  • هل هي زوجتك فعلا يا روديك؟
  • نعم
  • ولماذا لم تقل لي أنك متزوج يا روديك؟
  • اعذريني – قال مازحا- لم أكن أعتقد أن الأمر هام إلى هذه الدرجة
  • طبعا هام… ماذا هل تحبها؟
  • نعم يا إيو… اسمعيني … رجاء ما من مبرر للاتصال بي بعد الآن
  • بدأت تخاف – قالت عبارتها هذه بنبرة خاصة- أرجوك لا تفكر بشكل خاطئ، عش معها طالما تريد ذلك، أنا لست ضد هذا، ولكن أن تقول لي لا تتصلي… هذا أيضا لا يجوز فلربما اتصل لأمر هام.
  • أي أمر هام- سأل مبتسما-
  • كيف أي أمر هام… آ…آ مثلا لو حدث أنني لم أستطع أن أحل مسألة سريان الماء من خزان إلى آخر… عندها يمكن أن أتصل… أليس كذلك؟
  • لا أدري
  • طبعا يمكن ولا تخف منها… نحن اثنان وهي واحدة
  • ممن أخاف؟
  • من زوجتك
  • مع السلامة يا إيو
  • أنت متعب أليس كذلك؟
  • نعم
  • حسنا قل أنك تشد على راحتي الصغيرة مصافحا ثم تمدد ونم.
  • لا بأس أشد على راحتك.
  • لا داعي لأن تتحدث معها
  • حسنا لن أفعل- قالها ضاحكا-

التفت إلى زوجته مبتسما

  • إنها إيو! هكذا هو اسمها – ثم أردف- إنها فتاة طريفة.
  • صحيح – أجابت بترقب-
  • إنها لم تستطيع أن تحل مسألة سريان الماء بين خزانين، إنها على الأغلب في الصف السابع أو الثامن لا أذكر.
  • وهل ساعدتها على حل المسألة؟
  • لا لقد نسيت أمور الخزانات، إنها صعبة بالفعل.

****

رن جرس الهاتف باكرا جدا في الصباح، لم تكن هناك حتى نأمة ضوء، كانت المدينة لا تزال غارقة في نوم عميق، نوم ما قبل الصباح. نظر رودولف نحو البيت المقابل، ما من نافذة مضاءة، مداخل الأبنية وحدها كانت تشع في صف واحد مثل آلة الهرمونيكا الشفوية بمعدنها اللماع. ظل الهاتف يرن دون انقطاع، اقترب ردودولف من جهاز الهاتف ناظرا إلى ساعته- إنها الخامسة والنصف.

  • نعم إنني أسمعكم- قال بصوت واضح الانزعاج-
  • روديك…روديك…
  • أيو ما هذا؟ الشيطان وحده يمكن أن يعرف ما هذا!
  • روديك – قاطعته- اسمع لا تغضب، أنت بعد لا تعرف ماذا حدث!
  • ماذا حدث -قال مهدئا نفسه-
  • روديك أنت منذ الآن لست روديك بل أنت رودولفيو – قالت ذلك بصورة احتفالية رسمية- رودولفيو اسم ممتع أليس كذلك؟ لقد قلبت الأمور في ذهني، رودولف وإيو معا يكوِّنان رودولفيو، كما عند الإيطاليين، ردد ذلك أرجوك.
  • رودولفيو – امتزج صوته الضجر بقليل من التوهج.
  • فعلا لدينا منذ الآن اسم واحد أنا وأنت… نحن الآن غير منفصلين مثل روميو وجوليت، أنت رودولفيو وأنا رودولفيو.
  • اسمعي – عاد إلى اتزانه- ألم تستطيعي أن تجدي لي تسمية في وقت أفضل؟
  • ولكن كيف لا تفهم؟ إنني لم أستطع النوم، لم أعد أستطيع الانتظار، ثم آن لك أن تستيقظ، رودولفيو تذكر في السابعة والنصف سأكون في انتظارك عند محطة الترام.
  • لن تجديني في الترام، لن أذهب اليوم إلى العمل.
  • كيف ذلك.
  • لدي عطلة استثنائية غير رسمية.
  • ماذا تعني عطلة استثنائية؟
  • أي عطلة غير اعتيادية، لن أذهب إلى العمل
  • آ…آ وكيف بالنسبة لي؟
  • لا أدري اذهبي إلى المدرسة
  • ولدى زوجتك أيضا عطلة استثنائية
  • لا
  • هذا جيد… ولكن إياك أن تنسى أن اسمنا منذ الآن هو رودولفيو.
  • أوه كم أنا سعيد…
  • وضع السماعة في مكانها وذهب لإعداد الشاي وهو يلعن جميع الأبالسة، فعلى أية حال لن يستطيع النوم بعد ذلك، في هذا الوقت شعت في المنزل المقابل بضعة نوافذ.

****

قرع الباب عند منتصف النهار، وصادف انه كان في هذا الوقت منكبا على الأرض يمسحها، فتح الباب ماسكا بيده الخرقة المبلولة التي لم يفكر أن يتركها في مكان ما… وكانت هي.

  • مرحبا رودولفيو.
  • أنت …- تعجب- ماذا حدث
  • أنا أخذت عطلة غير اعتيادية

بدا وجهها كقديسة لم يبد فيه أية نأمة توحي بتأنيب الضمير.

  • هكذا…- أجاب بجدية عاقل- تتسكعين إذن. ادخلي طالما جئت، دعيني الآن أتم تنظيف الأرضية.

جلست على الكنبة قرب النافذة دون أن تخلع معطفها، وراحت تنظر إليه كيف يمسح الأرض بالخرقة وهو منحنٍ.

  • رودولفيو أعتقد أنك لست سعيدا في حياتك العائلية – قالت ذلك بعد دقيقة صمت -. استقام.
  • وكيف استنتجت ذلك؟
  • هذا يمكن اكتشافه ببساطة، أنت مثلا تمسح الأرض دون رغبة، لدى السعداء الأمر لا يكون على هذه الشاكلة.
  • لا تختلقي هذه الأفكار- قال ذلك مبتسما-.
  • وماذا، أتقول أنك سعيد؟
  • أنا لا أقول شيئا
  • أترى
  • الأفضل أن تخلعي عنك
  • ولكني أخافك- قالت ذلك وهي تشرد بنظراتها خلف النافذة-.
  • ماذا…ماذا؟
  • أنت رجل
  • آخ هكذا إذن- ضحك- وكيف تجرأت على القدوم إليّ
  • ولكنك رودولفيو
  • نعم – قال بهدوء – إنني أنسى ذلك، هذا طبعا يجعلني مسؤولا بشكل من الأشكال.
  • طبعا.

صمتت وجلست هادئة بينما راح يفرغ الوعاء في المطبخ، وعندما دخل مرة أخرى إلى الغرفة كان معطفها معلقا على طرف الكنبة، وبدا وجهها غارقا في تأمل حزين.

  • رودولفيو لقد بكيت هذا اليوم – اعترفت له فجأة-
  • ولماذا يا إيو ؟
  • ليس إيو بل رودولفيو
  • ولماذا يا رودولفيو؟
  • من أختي الكبيرة لقد تخاصمنا، فقد أنبتني لأنني قررت أن آخذ عطلة غير اعتيادية.
  • إنها على حق
  • لا يا رودولفيو إنها ليست على حق- نهضت من الكنبة ووقفت بجوار النافذة- ممكن لمرة واحدة. كيف لا تفهم ذلك. هل تدري كم أنا سعيدة الآن، لأني أتحدث معك.
  • صمتت من جديد وراح هو ينظر إليها باهتمام، لقد نهد صدرها من تحت الثوب بتوتر، عشّان صغيران يُعدّانهما طيران مجهولان لكي يفرخا فيهما…ولاحظ أنه خلال عام على الأكثر ستكتمل ملامح وجهها وستصبح جميلة، وشعر بالحزن نتيجة فكرة راودته، مع الزمن سيكون لديها فتاها… اقترب منها وأمسكها من كتفيها وقال مبتسما:

كل شيء سيكون على ما يرام

  • حقا يا رودولفيو؟
  • حقا
  • إنني أثق بك
  • صحيح

أراد أن يبتعد لكنها نادته

  • رودولفيو
  • نعم
  • لماذا تزوجت هكذا مبكرا؟ خلال عامين يصبح بإمكاني أن أتزوجك
  • لا تستعجلي إنك ستتزوجين على أية حال من شاب جيد
  • ولكني أود لو أتزوج منك أنت
  • سيكون أفضل مني
  • كيف – عبرت عن شكها بذلك- هل تعتقد أن هناك من هو أفضل منك
  • طبعا ألف مرة يمكن أن يوجد من هو أفضل مني
  • ولكن ذلك الشاب لن يكون أنت- تنهدت بشكل لا أرادي-.
  • تعالي الأفضل أن نشرب الشاي

ذهب إلى المطبخ ووضع إبريق الشاي على الغلاية

  • رودولفيو

وقفت قرب رف الكتب.

  • رودولفيو، لدينا معا أجمل اسم. انظر حتى لدى الكتاب لا يوجد أفضل من هذا الاسم- صمتت لبرهة- ربما هذا الاسم فقط أك …زيو…بيري… اسمه جميل أليس كذلك؟
  • نعم ألم تقرأيه؟
  • كلا
  • خذيه إذن واقرأيه ولكن دون عطل استثنائية… هل اتفقنا
  • نعم اتفقنا

بدأت ترتدي معطفها

  • والشاي- قال متذكرا-
  • رودولفيو الأفضل أن أذهب…حسنا؟ ولكن لا تقل لزوجتك أنني كنت هنا… حسنا يا رودولفيو؟
  • حسنا – وعدها-
  • شعر بشيء من السأم عندما خرجت، كان مفعما بشيء ما غير مفهوم، بحنين مبهم، إلا أن هذا السأم وهذا الحنين موجودان في الطبيعة على أية حال… لبس وخرج إلى الشارع.

****

حل الربيع مباشرة كما لو أنه انبثق فجأة، حل دون مقدمات تقريبا، وغدا الناس وديعين خلال بضعة أيام… هذه الأيام القليلة بدت له مرحلة انتقالية من موسم الانتظار إلى موسم التحقق ذاك أن أحلام الربيع وهبته السعادة والحب بكل مهارة الوداعة الممكنة.

في مساء أحد هذه الأيام أوقفت رودولف امرأة رزينة بينما كان عائدا إلى منزله

  • أنا والدة إيو – بدأت حديثها- اعذرني أعتقد أن اسمك رودولف
  • نعم – أجاب مبتسما-
  • إنني أعرفك من خلال ابنتي، إنها تتحدث عنك كثيرا في الأوقات الأخيرة- ضحكت، وفهم على الفور أنها محرجة في أن تتحدث معه وتسأله كأم-
  • لا تقلقي صداقتي مع إيو طيبة ولن يحدث أي سوء
  • طبعا، طبعا – قالت بسرعة وهي مرتبكة- ولكن إيو فتاة صاخبة حيوية… إنها لا تستمع إلينا مطلقا، لو تحاول التأثير عليها… أتفهمني… عمرها الآن يدفع إلى القلق، قد تتصرف برعونة… وما يخيفني أنها دون صديقات حتى في صفها أو بين أترابها.
  • هذا أمر سيء
  • أعلم ذلك، أعتقد أنك تستطيع التأثير عليها
  • سأتحدث معها – وعدها – ولكني أعتقد أن إيو فتاة طيبة، عبثا تفكرين بهذه الطريقة.
  • ربما
  • إلى اللقاء، سأتحدث معها، كل شيء سيكون على ما يرام.

 

****

وقرر على الفور أن يتصل بها دون أن يؤجل ذلك خاصة أن زوجته ليست في المنزل

  • رودولفيو – كان واضحا أنها سرت كثيرا- كم أنت رائع إذ تتصل بي… رودولفيو… إنني أبكي من جديد
  • لا يجوز أن تبكي هكذا في معظم الأوقات
  • إنه الأمير الصغير، لقد حزنت من أجله كثيرا، أكان موجودا بشكل حقيقي؟
  • أعتقد ذلك
  • وأنا أيضا أعتقد أنه كان موجودا
  • وأنا أعتقد كذلك أيضا. ولكننا لم نكن نعرف. إن ذلك لمؤسف حقا. ولولا الكاتب إكزيوبيري لما عرفنا أي شيء أبدا، ليس عبثا أن لدى هذا الكاتب اسما جميلا كاسمنا الجميل
  • نعم
  • اسمع بماذا أفكر أيضا، كم هو جيد أنه ظل أميرا صغيرا، من المرعب أن يغدو عاديا هكذا… أما نحن فلدينا الكثير مما هو عادي
  • لا أدري
  • ولكن أنا أدري… هذا أكيد
  • وهل قرأت “كوكب البشر”؟
  • لقد قرأت كل الكتاب يا رودولفيو وأعتقد أن الكاتب اكزيوبيري كاتب حكيم بما فيه الكفاية، بل من الصعوبة أن تتخيل مدى حكمته وطيبته، هل تذكر كيف يطلقون (بارك) حرا ويعطونه النقود، أما هو فيصرفها على الأحذية للأولاد ويبقى هو بدون أي شيء
  • وهل تذكرين (بانافوس) الذي أغار على العرب وسلبهم ورغم أنهم حقدوا عليه لكنهم أحبوه…
  • لأن الصحراء بالنسبة لهم من دونه ستكون عادية… وهو الذي جعلها مثيرة رومانسية
  • إنك رائعة إن كنت تفهمين كل ذلك
  • رودولفيو…- وصمتت-
  • إنني أسمعك – نبهها-

وظلت صامتة

  • رودولفيو – قال لها متوترا- تعال لعندي الآن إنني وحدي

****

مضت إلى المكتبة تجيل ناظرها ثم جلست

  • لماذا أنت هادئة هكذا؟ -سألها-
  • أليست موجودة فعلا؟
  • من، زوجتي؟
  • نعم
  • لا ليست موجودة
  • إنها تبعث على الضجر
  • ماذا
  • مضجرة هذه هي صفتها
  • إين وجدت هذه الكلمة؟
  • في لغتنا الروسية العريقة، لا يوجد ما يناسبها أكثر
  • لا، لا يجوز ذلك يا إيو
  • ليس إيو بل رودولفيو
  • آه نعم
  • لقد اتصلت منذ فترة وصدف أن ردت هي، هل تعلم ماذا قالت لي؟ إن كنت تتصلين من أجل الأواني المستطرقة فالأفضل أن تتصلي بالمدرس، أعتقد أنها تغار مني عليك.
  • لا أعتقد ذلك
  • رودولفيو، الحقيقة انني أفضل منها أليس كذلك، إنني بعد لم أنضج كما يجب، ولكن كل شيء أمامي

ابتسم وهز رأسه

  • ألا ترى أعتقد أنه آن الأوان لكي تتركها
  • لا تقولي كلاما سخيفا – قاطعها- لقد سمحت لك بأكثر مما يجب كما يبدو
  • ولكنك فعلت ذلك حبا اليس كذلك؟
  • لا بل من أجل الصداقة
  • صمتت مقطبة جبينها لكنها لم تطل من صمتها
  • ما هو اسمها
  • من زوجتي؟
  • نعم
  • كلافا
  • يا له من اسم! إنه يليق بشاحنة

غضب منها

-كفى

نهضت فجأة وأغمضت عينيها وقالت على حين غرة

  • رودولفيو إنني غير طبيعية اعذرني لم أشأ…
  • حسنا ولكن لا تنتحبي- حذرها-
  • لن أنتحب

ابتعدت والتفتت إلى النافذة ثم قالت

  • رودولفيو تعال لنتفق على الشكل التالي، أنا لم أكن عندك اليوم أبدا ولم أقل شيئا، حسنا؟
  • حسنا
  • والآن سأمضي وستقول لي عبارة إلى اللقاء هاتفيا
  • نعم
  • ذهبت
  • خلال خمس دقائق رن جرس الهاتف
  • إلى اللقاء يا رودولفيو
  • إلى اللقاء
  • انتظر قليلا إلى أن وضعت سماعة الهاتف

****

لم تعد بعد ذلك تتصل لفترة طويلة، ولفترة طويلة لم يعد يراها، فقد سافر من جديد وعاد في أيار فقط حيث كان الصيف عبر أشعة الشمس يؤكد أنه قد خلَّف الربيع وراءه، كان لديه الكثير من الأشغال في هذه الأوقات، وكان يتذكرها ويؤجل… غدا سأحدثها أو بعد غد، لكنه لم يفعل.

أخيرا التقيا صدفة في حافلة الترام، رآها، ودون أن يملك صبرا راح يدفع الناس خشية أن تمضي. إذ ربما خرجت في محطة أخرى وهو كما يبدو لم يكن ينوي أن يمضي إثرها، ولكنها بقيت، هنا اكتشف أنه سر لذلك أكثر…أكثر مما تسمح به صداقتهما.

  • مرحبا يا إيو- قال ضاغطا على كتفها

التفتت متفاجئة، رأته وبسرور هزت رأسها متمهلة

  • ليس إيو بل رودولفيو- ما زالت على عهدها السابق- إننا ما زلنا أصدقاء أليس كذلك
  • طبعا يا رودولفيو
  • سافرت
  • نعم
  • اتصلت بك ذات يوم ولكنك لم تكن موجودا
  • إنني هنا منذ أسبوع كامل

كانت حافلة الترام مزدحمة، وكان الناس يصطدمون بهما دائما مما جعلهما يقفان قريبين جدا أحدهما من الآخر، لامس رأسها ذقنه، وعندما كانت ترفع رأسها يضطر هو للانحناء كي يستمع إليها، كان يحاول أن يشرد بنظراته عنها لكثرة اقتراب وجهيهما.

  • رودولفيو هل تريد أن أقول لك شيئا- سألته-
  • طبعا أريد
  • مرة أخرى رفعت رأسها مقتربة من وجهه حتى ود لو يغمض عينيه
  • إنني أشتاق إليك دائما يا رودولفيو
  • ساذجة أنت
  • أعلم ذلك – تنهدت- ولكني لا أشعر بالحنين للشبان الصغار، إنني لست بحاجة إليهم.

توقفت حافلة الترام وخرجا

  • هل ستذهب إلى زوجتك كلافا؟
  • لا … تعالي نتمشى

انعطفا نحو النهر حيث امتدت أرض خلاء، ومضيا بعيدا عن الدرب متقافزين لكي يتجاوزا أكوام القمامة، وقد أمسك بيدها ليساعدها على تجاوز الأوساخ، كانت صامتة كما لو أنها لا تشبه نفسها، تابعت صمتها، وشعر هو أنها مثله تشعر بتوتر عجيب ذي رنين لا يقهر.

وصلا إلى الوهدة وما زالا ممسكين يدا بيد، نظر إلى النهر… وإلى ما وراء النهر… ثم مرة أخرى إلى الماء.

  • رودولفيو -قالت وقد نفد صبرها-لم يقبلني أحد حتى الآن، انحنى وقبلها من خدها- بل في شفتي- طلبت منه-
  • في الشفة يمكن تقبيل الناس القريبين جدا فقط- قال ذلك وهو يتعذب-
  • وأنا

انتفضت مرتعشة، ففزع، وخلال لحظة فهم فجأة أنها صفعته، لم يشعر حتى بذلك، بل فهم أنها صفعته صفعة قوية حقيقية، ثم انطلقت تعدو عبر البرية بين أكوام القمامة، عبر التوتر والانتظار…

وقف مكانه وراح ينظر إليها كيف كانت تركض، لم يجرؤ حتى أن يناديها أو أن يلحق بها ليمسكها، وقف منهارا لفترة طويلة كارها نفسه.

****

حدث ذلك يوم السبت، وعند الصباح الباكر من يوم الأحد اتصلت أمها…

  • رودولفيو… أعذرني يبدو أنني أيقظتك

كان صوتها مشتتا مرتجفا

  • إنني أسمعك
  • رودولفيو، إيو لم تنم في البيت ليلة أمس

كان عليه أن يجبب بشيء ما لكنه صمت

  • إننا هلعون لا ندري ماذا نفعل، أي إجراء نتخذ، هذه هي المرة الأولى
  • اهدأي أولا- أخيرا تكلم- ربما نامت عند إحدى صديقاتها
  • لا أدري
  • على الأغلب أن الأمر هكذا، إذا لم تحضر خلال ساعتين سنبحث عنها، ولكن اهدأي الآن، خلال ساعتين سأتصل أنا بكم.

وضع السماعة وراح يفكر محدثا نفسه، اهدأ أنت أيضا، ربما نامت عند صديقتها، ولكنه لم يستطع أن يهدأ، بل على العكس شعر أن أعصابه بدأت تتوتر وترتعش، ولكي يُهدئ من روعه ذهب إلى السقيفة وراح يبحث في كتبه المدرسية القديمة وهو يصفر، كتاب الجبر والهندسة اختفى عن ناظريه، راح يبحث ويبحث محاولا تناسي الأمر.

ظل الهاتف متواريا صامتا، أغلق رودولف باب المطبخ وراءه وراح يتصفح الكتاب…إذا تسرب الماء من خزان إلى آخر خلال ساعتين يكون…

رن الهاتف

  • جاءت – بكت الأم ولم تتمالك أعصابها-
  • جمد وهو يسمع
  • رودولف تعال إلينا لو سمحت- وبكت من جديد ثم أضافت- لقد حدث معها شيء ما…

****

خلع رداءه دون أن ينتظر السماح له بذلك وأشارت له الأم صامتة نحو باب غرفة إيو. كانت جالسة على السرير حاضنة ساقيها تحتها، وراحت تنظر أمامها نحو النافذة وهي تتمايل في مكانها.

  • رودولفيو
  • التفتت إليه ولم تقل شيئا
  • رودولفيو
  • كفى – قطبت وجهها متأففة- أي رودولفيو أنت… أنت رودولف عادي تماما… رودولف لا أكثر.. هل تفهم

كانت الصدمة كبيرة بحيث احتلت جسده كله مباشرة، ولكنه تحمل ضاغطا على نفسه ليبقى، اقترب من النافذة واستند على حافتها.

ظلت تتأرجح إلى الوراء والأمام وتنظر أمامها وحسب متجاهلة إياه والسرير المرن يصر من تحتها.

  • حسنا – قال مسايرا – ولكن اشرحي لي أين كنت؟
  • اذهب إلى الشيطان- قالت ذلك دون أن تلتفت إليه-

هز برأسه ثم تناول سترته الربيعية عن المشجب ودون أن يجيب عن تساؤلات أمها الصامتة… نزل على الدرجات… وذهب إلى الشيطان…

كان نهار الأحد بالكاد قد بدأ… والعابرون في الشارع قلة… لم يوقفه أحد… عبر البرية وهبط نحو الضفة… ثم فكر فجأة … إلى أين أمضي بعد؟

————————————————-

  • (روديك مصغر اسم رودولف ويقال للتدليل)
  • (بالروسية تستخدم بكثرة الحروف الأولى من الكلمات للدلالة المختصرة على المناصب والمؤسسات… وهذان الحرفان И О يدلان على تسمية القائم بالأعمال исполняющий обязанности  )
  • أنطوان دو سانت اكزوبيري- كاتب فرنسي (1900-1944) كان طيارا وقد سقطت طائرته أو أسقطت في البحر غير بعيد عن مارسيليا أبان الحرب مع ألمانيا الهتلرية، من أشهر اعماله الأمير الصغير وهي قصة خيالية ترجمت إلى أكثر من مئتي لغة وبيع منها أكثر من 80 مليون نسخة.
  • مما استقيته من قراءتي عن قصة أرض البشر لأكزوبيري أنها تكاد تكون سيرة ذاتية بأسماء مبتكرة فقد كان أكزوبيري يقود طائرات البريد الجوي وحدث ان سقطت طائرته فيي صحراء شمال إفريقيا حيث نشأت “في القصة” وفي الواقع كما يبدو تلك العلاقة الغريبة مع العرب الرحل.