الغمامة

الغمامة

 

 

الغمامة

فيتشيسلاف ميخائيلسكي

ترجمة د. أيمن أبو الشعر

كان اسم السائق الذي سافرت معه محمد علي، ولكن رفاقه كانوا ينادونه (كولا)، وكانت ملامحه توحي بأنه في الخمسين من عمره. غير حليق الذقن وقد تناثر الشيب فيه، حسده ضخم حتى يبدو وكأنه حشر حشرا وراء المقود في الشاحنة، وحين ينظر المرء إليه للمرة الأولى يتذكر لوحة الفنان سوريكوف (مينشيكوف في منطقة البتولا).

تحلزنت الطريق كالأنشوطة دوائر متداخلة نحو الأعلى والأسفل ثم نحو الأعلى والأسفل… لكن محمد علي ظل يقود السيارة وكأن أمامنا طريقا مستوية، أوتوستراد. انطلقنا من منطقة “بوزليخ” صباحا، كان النهار مشمسا دافئا، وعبر منحدر الجبل توجهت غابة كثيفة عابقة بأوراقها الخريفية. رحت انظر من النافذة مبتهجا بالسماء الواضحة جاهدا بالتحديق بحثا عن النسور فوق القمم، ولكنني لم أفلح برؤية ولو نسر واحد، ثم لاحظ مرافقي اهتمامي بالفضاء المحيط وشاركني بهجتي.

  • آخ… كم جميلة هذي السماء
  • وكيف تتوهج الجبال، يا له من تألق-هتفت بانشراح وبدأت أتلو:

الغابة كالنقش ارتسمت

اللون بها لون بنفسج

لون خمري ذهبي تزهو تمرح

بجدار يتبرقش تزهو واقفة معطاءة

ترنو لسهول وضاءة

  • كيف؟ كيف؟ ماذا قلت؟ سأل محمد علي بلهفة
  • ارتبكت قليلا ولكني أعدت قراءة الشعر
  • هل أنت من كتب هذا الشعر؟ – سأل مغتبطا
  • لا لست أنا إنه إيفان بونين
  • وهل تعرف المزيد؟ اقرأ من فضلك بعد

قرأت له مزيدا من الأشعار، وتعجبت لم أر في حياتي من يستمع إلى الشعر بمثل هذا الاهتمام، تنشطت الذاكرة وتداعت الأشعار من جديد: مختارات لبونين، وفييت، وتوتشييف، ويسينين، وليرمنتوف وبوشكين…

كان محمد علي يستمع كجريح يشرب الماء حتى أصابني نوع من الهالع، وأحسست كما لو أنني نزعت رباطا عن عينيه فرأى الضوء فجأة، كان يتنهد أحيانا فقط كما لو أنه يواسي روحه وما إن أصمت حتى يحثني من جديد:

  • هيا أرجوك…اقرأ شيئا آخر آ؟

صار يقود العربة بهدوء وببطء

  • أترى هذه السحابة؟ انظر إلى الأعلى- قال ذلك محمد علي عندما أكدت له أنني لم أعد أذكر شيئا من الشعر، وتهادت في البعيد امامنا غمامة بيضاء على قمة حادة.
  • فلنخترق آ؟

لم أفهم ما يقصد

-فلنخترق الغمامة – أوضَح

– هيا…-وافقت مشجعا

أطلَّ محمد علي من وراء المقود عبر النافذة، وحدق بالغمامة كما بو أنه يقيم شيئا ويوازن الأمور، ومن ثم انطلقت سيارتنا وطارت بسرعة مذهلة بحيث استدرت منكفئا حتى لا أرى كيف ستتحطم النوافذ الخارجية فوق الصخور…

منعطف ثم منعطف ثم آخر…وفجأة حل ضباب كثيف رمادي تمدد وغطى كل شيء، أضاء محمد علي أنوار الكشاف، وأطللنا من قمرة قيادة العربة إلى الغيهب الرطب، كانت الغمامة تتحرك حتى أنني أحسست بسريانها يبلل وجهي، وغطت الغمامة ردائي متهادية نحوه، وتسربت بين الأصابع، وفجأة بهرتنا الشمس وسبحت الغمامة مبتعدة في الفضاء بين المنحدرات والمرتفعات.

انظر كيف غدا العشب وكأنه سكب زجاجي…إيه لو به انتشي…كم أحب السماء حتى الوله…أحدق بالعشب وأنتشي…لو ألتقطه بفمي كالخروف وآكله…الأرض تعبق بالعشب البكر…إنني أنتشي كثري…ربما أنا مريض بشيء ما…قل لي…آ؟ السائقون يضحكون علي ويقولون أنت مريض نفساني يا كولا…مريض! ها أنت قد قرأت الأشعار وإذ بأعماقي كلها تختلج كما لو أحاط بها حريق أو صقيع…كما لو أنني اصبت بالملاريا.

وتابعنا رحلتنا

صمت محمد علي مقطبا جبينه، كان على الأرجح يحس بالإحراج لأنه تحدث هكذا بصراحة قلبية فجأة لمجرد مسافر عابر.

  • إنني أعرف مرضنا هذا- قلت ذلك بعد برهة صمت- أنت ولدت شاعرا

ارتعش والتمعت عيناه الشهلاوان وتوتر وجهه كما لو أنه تحجر للحظة.

  • لا تسخر مني-قال بهدوء-إنني أيضا منذ سنتين – وغصت حنجرته-وأنا أكتب الشعر…أكتبه هنا في ذاكرتي، أنا لست متعلما بما فيه الكفاية-وراح يقرأ لي أشعاره عن الصخور الداكنة وعن الغمامات البيضاء، وكيف ينضج المشمش في منطقتهم، عن الشتاء الوشيك والربيع الذي يليه حتى أن قصيدتين من قصائده انحفرتا في ذاكرتي كلمة كلمة عن الحب:

عندما لامست آذاني عتبة الدار

مرهفا سمعي

ومنتظرا في كل ثانية

ليلا ونهار

ما جئت أنت إلي

والآن جئت عندما لم أعد أنا أنتظر

ويقول في الثانية:

عمري خمسون عاما

لكن عيني مليئتان بالضوء

أحداقي كالعشب الناضج

ولن تجف أبدا كالزبيب

وإذا قدر لي ان أموت

ستنبت عيناي فوق ضريحي

كانت عيناه شفافتين زرقاوين واضحتين بريئتين ومندهشتين كعيون الأطفال. وإلى الآن عندما أتذكر اللقاء المدهش مع الغمامة أفكر “بنيكلاي” محمد علي فقد كان بالفعل من أولئك الشعراء القلائل الذين أسعدوني بلقائهم بين المتعلمين وغير المتعلمين ممن ينظمون الشعر.