رحلة للروح بين النجوم
في درس الفيزياء
دينا روبينا
ترجمة د. أيمن أبو الشعر
كنت في في الصف التاسع وإبان درس الفيزياء طرت بشكل من الأشكال من النافذة، وحلقت بانسياب مرتين فوق الساحة الرياضية للمدرسة.
ولكن قبل ذلك لا بد من شرح شيء ما…
في المدرسة وفي الصف الرابع على الأرجح في أحد الدروس انشغلت عن الجو التدريسي بكتاب كونان دويل (1) الذي لم أتمم قراءته في المنزل. وقد استطعت قراءته بنجاح خلال حصتين، واضعة إياه على ركبتي وكنت أقلب صفحاته بحذر من تحت منضدة المقعد.
منذ ذاك اليوم أدركت أية فجوة زمنية حرة للقراءة تضيع عبثا مني. لقد نضجت. هكذا يرفع الإنسان أحيانا رأسه عن الصفحة المكتوبة، وينظر عبر النافذة حيث يرى في السماء الموشحة بالألوان، غصنا ناعما يرتجف، ويتجمد غير قادر أن يرفع نظره المتعب عن هذه اللوحة الربيعية البسيطة.
وهكذا انشغلت عن العملية التعليمية، ومنذ ذاك اليوم انفصلت عنها. لقد افترقنا بسلام. كانت العملية التدريسية تسير بمفردها، وقد انتقلت أنا إلى مجال آخر وعلِقت مهملة هناك.
مشى الصف كله بخطوات رتيبة على الطريق المعبد وفق البرنامج المدرسي، وهربت أنا إلى قارعة الطريق، إلى المنحدر حيث يبْيَضُّ البرسيم بين الأعشاب وتصفرُّ الهندباء، وهكذا بقيت هناك إلى الأبد.
تراجع تقدمي في الدراسة بشكل كبير، ومنذ ذاك الوقت تقريبا بدأ ذهني الضعيف يتقوى. رحت أقرأ أثناء الدروس بنهم. كل يوم من الثامنة والنصف وحتى الثانية عشت حياة متكاملة: حيث كنت أتجول وأنجو من المطاردة، وأرتجف من اعترافات العاشقين بالحب، وأموت من طعنات السكين في الصدر.
باختصار أهملت البرنامج المدرسي إلى درجة أنني لم أحاول حتى حل أي شيء بشكل مستقل. سبحت إلى الصف العاشر ببطء نتيجة التنقيل والغش، وبتشنج جدفت بيد واحدة ممسكة باليد الأخرى بجذع نصف دافئ من مساعدة التلاميذ الزملاء.
كانت الاختبارات الشفهية تصدر أزيزا كالرصاص فوق الأذن، ويلعلع في مكان ما قصف المذاكرات الفصلية والسنوية… حاولت النقل بسرعة لكي أفتح تحت المقعد الكتاب الذي توقفت عن قراءته في الصفحة مئة وستة وأربعين… كان ذلك جسارة حمقاء… أعتقد أنه لو اهتم بي في ذاك الوقت واحد من الطلاب العديدين في الدراسات العليا الذين يكتبون الآن أطروحاتهم حول تقبل التلاميذ للبرنامج التدريسي لشكلت بالنسبة له دون شك أهمية علمية.
أعتقد أن دراسة طبيعة بلاهتي الفيزيائية الرياضية يمكن أن تجلب مجدا كبيرا لعالم شاب.
وهكذا قرأت وأنا في الصف التاسع إبان درس الفيزياء كتاب بروفيسور ألماني. لا أريد أن أذكر اسم الكتاب لكيلا ألقي ظلال الشك على طموحاتي النقية المشرقة في ذاك الوقت. بل على العكس أود أن أربط الأمر غير العادي الذي مر في هذا الدرس مع ما هو سامٍ ورائع، على سبيل المثال مع شعر باراتينسكي (2) الذي يقبع ديوانه الشعري الآن -صدقا- في حقيبتي… ولكن للأسف سأبوح باسم الكتاب وهو “حول الحياة الجنسية في العائلة”. لقد أعطتني الكتاب ليومين فتاة من معارفي في الصف العاشر، وقد استعارته هي من أحد التلاميذ من معارفها.
لا بد من القول أن الكتاب لم يعجبني. فحتى في اسمه هناك شيء من النفاق. كما لو ان البروفيسور العجوز الألماني غمز للقارئ وأوحى مبتسما: “هذا يا أخوتي… في العائلة! – أما ما يحدث خارج إطار العائلة فسأحدثكم عنه في مرات أخرى عندما لا يكون معنا فضوليون من الصف التاسع…”
وعموما بدت هذه الحياة في العائلة بصورة زاهية جدا ولائقة. أدركت فيما بعد أن الكتاب يدفع إلى النفور كونه لا يتحدث عن الحب تقريبا. كان الحديث فيه يجري عن النظافة والتربية… لكنني بالطبع لن أحدثكم عن محتوى الكتاب هذا غير ممتع بكل بساطة.
تابعت الكتاب صفحة صفحة بفضول نسبي حيث كانت هناك صور أيضا غير ممتعة فهي طبية إلى أن استوقفتني عبارة. توقفت عندها لأنني شعرت إن فيها تناقضا مخفيا: ” الفتاة الرشيقة يجب أن تعجب بنهدها”.
لا يجوز ترك الأمور هكذا، فكرت تعالوا لندقق في الأمر. لقد أبديت اهتماما حيويا بهذه المسألة لأنني بكل صدق أعتبر نفسي فتاة رشيقة، وبعبارة أخرى كنت في تلك المرحلة شبيهة بغصن البان وكنت أضع نظارات.
لا يجوز ترك الأمور هكذا تعالوا لندقق في الأمر فكرت… إذن قبل كل شيء يكون نهد الفتاة الرشيقة موضع شك. يوضع تحت الشك عموما حقيقة وجوده. والمقصود هو التالي: “إن كنت مسكينة وولدت هكذا رشيقة، وليس كل شيء على ما يرام بالنسبة لصدرك، إذن اصمتي فقد يحدث ما هو أسوأ. فهناك من يولد أحدب أو أعرج… فكوني راضية بما لديك”.
إضافة إلى كل ذلك بدا لي في هذه العبارة شيء ما من الهتلرية شبيه مثلا بعبارة “كل ألماني يجب أن يكون راضيا بغدائه”. وتخيلت طابورا من الفتيات الرشيقات يسرن تحت يافطة كتب عليها شعار “أنا راضية بنهدي!” أو هكذا: تسير الفتيات صفوفا منتظمة وعلى صدر كل واحدة راضية في أعماقها تعلقت لوحة كتب فيها: ” أنا راضية بنهدي!” وربما هكذا: مظاهرة سلمية من الفتيات الرشيقات عند مبنى البونديستاغ (3) وهن يهتفن معا: “نحن راضياااات !” وهكذا…
غدا ذلك ممتعا. وسَّعت من خيالاتي، وجلست واضعة يدي على خدي ورحت ابتسم شاردة وأنا أنظر إلى استاذنا في مادة الفيزياء.
في الواقع لم أكن أنظر نحوه بل في الفضاء. وبنجاح كنت أستطيع أن ألاطف بابتسامتي السبورة أو المساعدات المدرسية لأن الفتيات الرشيقات ما زلن يمضين بخطواتهن أمام مخيلتي بطوابير منتظمة من الراضيات بلا استثناء بنهودهن. كن يسرن كالجنود وبتناسق خلاب في الخطوات. تحتهن قعقع طريق مرصوف بقوة بالحصى الكبيرة. لقد رأيت مثل هذا الطريق في مكان ما سابقا، وأعالي البيوت المدببة تخترق السماء الزجاجية الباهتة… كن يظهرن عبر الضباب الخفيف أوضح فأوضح، ومع ذلك وددت أن أتأملهن من مسافة أقرب كما لو من الأعلى. أن أرى اللوحة كاملة. وأن أعرف مكان الحدث…
أعتقد أن غوصي في حالة التحليق الروحي بين النجوم قد بدأ في هذه الدقائق.
ولكن ابتسامتي التي تنتمي إلى عالم آخر انقطعت عن الحياة البشرية الهالكة متجهة وفق مسار عفوي نحو استاذ الفيزياء، ولم تستطع أن تكون متوارية. كانت روحي على أقل تقدير جاهزة للانعتاق وكانت محتجزة في الجسد بصرخة هائلة:
“ولكن؟! أنا أسأل بماذا أنت راضية؟”
ثم قال لي الزملاء أن أستاذ الفيزياء سأل على الأقل ثلاث مرات عن ماذا أنا راضية إلى تلك الدرجة قبل أن تحلق روحي التي تكاد أن تنفصل من وراء مقعدي عن جسدي الذي غدا دون شعور. ومع ذلك تمكنت بواسطة ركبتي الخشبية من دفع الكتاب المفتوح داخل منضدة مقعدي، ولكنه انزاح إلى الخلف ولهذا كان عليّ أن أقف على ساق واحدة رافعة من منضدة المقعد كتابا لعينا آخر لدعم ركبتي.
-آ؟! – سأل أستاذ الفيزياء بصورة لاذعة- بماذا؟ بماذا أنت راضية جدا؟
كان اسم استاذ الفيزياء أركادي تورسونبايفيتش، أو ببساطة تورسونبايتش، وكان أسمر فتيا عريض المنكبين ويبدو أن ذلك يختصر جدارته. مارس في شبابه التجديف في قارب وسافر لخوض المسابقات، وفاز بجوائز لقسم الفيزياء التقنية الذي ينتمي إليه، ومن غير المعرف أية رياح طائشة قادته إلى التربية والتعليم. يبدو أنه نفسه لا يعرف. ولكن كان يدرس الفيزياء كما لو أنه يجدف في القارب، كان يجدف ضد التيار، وتغلب على نفوره من هذه المادة ومن الدروس اليومية والوجوه الحرونة لتلاميذه اليافعين.
ابتعد تورسونبايتش عن السبورة حيث كان يشرح قربها مادة جديدة متلاعبا بعصا الإشارة التعليمية بشكل جميل، وراح يقترب من مقعدي. في غضون ذلك جمدت روحي في وضعية نصف تحليق، تقريبا في ذاك المستوى الذي يرسم فيه الفنانون الهالات فوق رؤوس القديسين. سقطت إلى أسفل كما بدا لي مع صوت ارتطام هائل. وقد شعرت على أقل تقدير بأن ركبتي التي تمسك في منضدة مقعدي بالكتاب غير اللائق لم تعد خشبية بل رصاصية.
يجب أن تنفجر الآن فضيحة صاخبة ويمكن أن تصل دوائرها المشينة إلى اجتماعات الكومسومول والأساتذة والآباء. ربما يمكن أن تشرح الوالدة شيئا ما. ولكن والدي المسكين … كانت لديه انطباعات رائعة دائما عن ابنته.
الأسوأ يتلخص في أن ابتسامة غبية التصقت بشفتي المبيضتين من الخوف، ومازالت تمر أمام ناظري أفواج من الأشباح تحت يافطة بذيئة. وربما هذا هو الذي سبب ما حدث في الدقيقة التالية.
توقف تورسونبايتش على بعد ثلاث خطوات من مقعدي، وقام بعدة حركات هزلية بعصا التأشير كما يتلاعب رئيس العرض الموسيقي بعصا الإيقاع وصاح:
- لا أسمع. آ ؟! لا أسمع الجواب عن السؤال. ما هذه الابتسامة؟ بم أنت راضية هكذا؟
عندها نظرت مسحورة إلى العصا المتهادية في يديه وقلت بصوت واضح وبكلمات منفصلة قليلا كما لو إبان تجربة في قاعة الموسيقى:
أنا راضية عن نهدي …
وعندها بعد ذلك حدث ما حدث! انفصلت روحي وقد شعرت بالرهبة مما قيل، انفصلتْ عن جسدي وحلَّقت يرافقها رنين أجراس… ما ذا يسمى هذا حاليا؟ التحليق بين النجوم. نعم، نعم، أنا لا أمزح ولا أخترع. حتى أنني لا أستطيع أن اعتبر ذلك غيبوبة لأن جسدي بشهادة زملاء الصف استمر في الوقوف والنظر بود إلى تورسونبايتش الذي أصابه الخرس.
وحلقت روحي في مجال هوائي ربيعي رطب، ودارت مرتين فوق الساحة الرياضية للمدرسة والتي تمتد فيها تجمعات مائية وكأنها مطلية بالورنيش، ارتفعتُ إلى الأعلى وضحكت: فعلى طرف نافذة غرفة المدرسين كان يتمشى قيصر بدين يشبه رئيس الأساتذة، وفي السماء الرمادية الربيعية كانت تضطجع غيمات بهية طويلة…
لم يحدث شيء بعد ذلك لأنني صحوت فجأة واكتشفت أنني مازلت أقف قرب المقعد وأسند بركبتي اليسرى الكتاب الذي يكاد ينزلق إلى الأرض.
هيمن على الصف صمت مطبق ثقيل كهواء راكد. كان أستاذ الفيزياء كالسابق يقف على بعد ثلاث خطوات، حدق بوجهي بذهول مما دفعني للاعتقاد بأنهم ربما رأوا كيف طرت عبر النافذة وطفت مرتين حول باحة المدرسة…
والأهم أنني شعرت بتعب وحشي مرهق، وبتعرق شديد بحيث أنني بلا مبالاة وبصمت لم أنظر إلى أحد، وجمعت في حقيبتي أشيائي ومضيت نحو الباب. لم يوقفوني. كان الأمر سيان بالنسبة لي…
جلست على مقعد في الساحة حيث لم تقو ساقاي الراجفتان على حملي، ورفعت نظري نحو الطابق الثالث كان القيصر لا يزال يتمشى على حافة نافذة غرفة المعلمين. لم أستطع أن أراه من نافذة مكتب الفيزياء. لقد كان بالفعل شبيها برئيس قسم المعلمين.
“إذن هكذا هي الأمور” فكرت أن الغباء قد حل بي. إذ لم أكن خائفة. كنت أحس فقط كيف يُبرِّد الهواء الربيعي الرطب جبيني المتعرق، وكان هناك شيء غير مريح في ذلك فقد بدا وكأنني لامست بجبيني عمق مرآة الفضاء الكوني…
طبعا لم أخبر أحدا عن تحليقي المدهش القارس، وفي الصف كانوا لا يزالون لفترة طويلة يعجبون بالكيفية التي “حلقت فيها بشكل رائع ذقن تورسونبايتش”. (4)
استوقفني تورسونبايتش بعد أسبوعين إثر انتهاء الدروس قرب المدرسة. كانت تتدلى من كتفه حقيبة رياضية لها حزام طويل، وكان يُدَوِرها بشكل آلي، ولكن لم يفلح مع الحقيبة بالطبع كما كان يدير العصا.
-اسمعي -قال بتردد- أريد أن أتحدث معك … بشأن ذاك الحادث الذي وقع في الدرس…
– اعذرني من فضلك يا أركادي تورسونبايتش- قلت بصوت يغمغم- هذا حدث صدفة…
لم ينظر إليّ وبدا تعبير وجهه شديد الحساسية والاستياء. لقد رأيت مثل هذا الوجه ذات يوم لدى أحد المارة بهندام أنيق وقد استوقفه سكير.
- لا شك أنك لاحظت أنني لم أكترث لهذا الأمر…
- شكرا أركادي تورسونبايتش…
- لأن ذلك غير تربوي… – أصبح صوته قويا عند كلمة تربوي- ولكني أود شخصيا أن أتحدث إليك … أن أستوضح… أية إنسانة أنت… لماذا أنت؟ … وهذا من أجل ماذا؟ … هذا الاحتجاج! – ورن صوته بقوة عند كلمة “الاحتجاج”. لفَّ الحقيبة على الحزام فالتفَّت بسرعة، والتف الحزام بشكل حلزوني ووصل إلى نقطة محددة من التوازن، وراح يعاود الدوران بشكل معاكس ببطء… نظرنا معا إلى هذه العملية، وفكرت في أن هذا الأمر يحدث وفق قانون فيزيائي لا أعرفه بالطبع أنا…
- اعذرني أركادي تورسونبايتش من فضلك كررت ذلك لكي أنفصل بسرعة عنه – حدث ذلك عن طريق الصدفة…
- عن أية “صدفة” تتحدثين! – قال ذلك صارخا – لقد جلستِ طيلة الدرس بابتسامة مبتذلة، وانتظرتِ أن أولي انتباها إلى ذلك. نعم أنتم جميعا، كل الصف! … أنتم تسخرون مني ببساطة! ماذا هل تتصورون أني لا أعرف؟ أنت وستريخوف وكاربوتينو … غورشكيفيتش… لقد قمتم بذلك بكل اتقان وسهولة.
- هذا غير معقول يا أركادي تورسونبايتش!
- تلاعبتم لكي أبدو كالأحمق!
لقد استاء إلى درجة أن عينيه أدمعتا، وبدت عظام وجهه أكثر حدة.
- أني أدري أنكم لا تعتبروني معلما مربيا، وأنني أشرح المادة بشكل سيء وأقود الدرس بشكل سيء… وأنتم؟ أنتم من تكونون آ ؟! من أين لديكم كل هذا المكر والقسوة، من أين لكم أن تعلموا هل ستفلحون أم لا؟ إلى أي مدى أنتم واثقون من إنجازاتكم المستقبلية أمر يستدعي الحسد… بالمناسبة عندما كنت في عمركم كنت أجدف مرحا في الحياة- ابتسمَ بحزن، وللمرة الأولى فكرت أن تورسونبايتش ليس غبيا كما يبدو أثناء الدروس.
- هذا أنت مع ابتسامتك… هل تدرين ما هو التوأم؟ سأل فجأة- آ؟! هذا يعني أربعين حفاضة في اليوم، وعلى المرء أن يغسل ويكوي وأن يهرع إلى المطبخ في الليل كلعبة انهض يا فانكا” (5)
استدار ولف الحقيبة مرة أخرى ولم يجعلها تلف حتى النهاية وعلقها على كتفه.
- ولدى زوجتي التهاب في الثدي – أضاف عابسا- حرارتها تقارب الأربعين … وعليّ أن أتأمل في الدرس ابتسامتك وأستمع إلى فظاظتك…
- وبماذا تعالجها؟ سألت بحياء.
- بأدوية كثيرة متنوعة! هوى بيده علامة الإخفاق.
- وهل جربت العسل مع الطحين؟
- كيف؟ عسل مع الطحين؟ نظر بتشكك نحوي.
- نعم هذه وسيلة علاج شعبية- استعجلت بالكلام- إنها وصفة تساعد كثيرا… نأخذ ملعقة من العسل وملعقة من الطحين ونخلطهما…
- انتظري! – قال تورسونبايتش بحزم- سأسجل ذلك- وتناول دفترا – إذن ملعقة من العسل…
سجل تورسونبايتش الوصفة بالتفصيل وعاود سؤالي لتدقيق التفصيلات. لا. أقسم أنه كان إنسانا محترما.
- اليوم سنجرب. تقولين أن الخلطة تساعد؟
- كما تساعد اليد! – طمأنته بحسم – أركادي تورسونبايتش… ربما يجب أن آتي للمساعدة؟ أنا أستطيع أن أساعد بشأن الأطفال… وأستطيع أن أغسل.
- ماذا تقولين…- شعر بالإحراج.
- أنا أتحدث جديا!
- لك الشكر حقا – قال ذلك وربت فجأة بود على كتفي – غدا ستأتي الجدة إلينا من رستوف والجارة تساعد أيضا… حسنا! تماسك ونظر إلى الساعة – سأسرع. عليَّ إيجاد وقت للحصول على مشتقات الحليب التي تقدمها الحكومة كمساعدة للأطفال!
- ابتعد عدة خطوات ثم التفت وصاح:
– ادرسي الفقرة السادسة والتسعين سأمتحنك غدا!
- شكرا – قلت وأنا أنظر إليه وهو يبتعد.
… درست الفقرة السادسة والتسعين. ولأنني لم أفهم ولا كلمة فيها فإنني حفظت هذه الصفحة والنصف غيبا، حفظتها عن ظهر قلب كما يحفظون غيبا عادة نصا أجنبيا – فلدي دائما ذاكرة جيدة… كان اسم الفقرة ” وحدةُ اتجاه التحريض المغناطيسي”. أتذكرها حتى الآن. وحدة التحريض التعيسة تتدلى في ذاكرتي المتشابكة كحطام وحيد لا يشعر بالارتياح هناك في ذاكرتي، وغير مبهج كيتيم شارد في بيت غريب…
- شكرا- قلت بصوت أشبه بالتمتمة وأنا أنظر وراء أستاذنا لمادة الفيزياء.
هل فهمت أننا من طينة واحدة يشبه واحدنا الآخر، أم شعرت ببساطة بنوع من المشاركة مع البائسين عقليا؟ طبعا لم أكن أستطيع آنذاك أن أحس تماما مرارة الأمر غير المحبوب، هذا الغثيان اللزج. فيما بعد بل بعد ذلك بكثير كنت أتذكر أحيانا تورسونبايتش، وأشعر بالأسف تجاهه من كل قلبي. شعرت في تلك اللحظة بتعاطف معه نتيجة معاناته الحياتية.
وماذا عنه؟ لقد أراد أن يدعمني أراد أن يعطي إشارة عن غفرانه وموقعه. وقد أعطى هذه الإشارة. أعطاها كما استطاع.
بعد ذلك لم أعد أطير. رغم أن في حياتي -اقسم بالله- الكثير من المبررات لذلك، وليست مبررات سخيفة كما في درس الفيزياء المشؤوم. ولكن لم أعد أطير. ربما لأنني مع مرور السنين غدوت أكثر ذكاء وأكثر حزنا. لا أريد أن أقول أن العقل والحزن أثقال تمنعنا عن التحليق فوق حياتنا. ولكن يبدو أن ذلك ثقيل كالزئبق، كمادة تملأ مع مرور السنين الفراغات الموجودة في الذاكرة وفي الروح.
تلك الفراغات المفعمة بالدفء وتيار الخيال يمكن كما البالون أن تحملنا إلى رحاب ريح ربيعية باردة.
(1)- ارتور كونان دويل” 1859 – 1930″ كاتب انكليزي متعدد التوجهات الكتابية مبتكر شخصية شارلك هولمز في المجال البوليسي وكذلك البروفيسور شيلينجر في مجال الخيال العلمي
(2)- يفغيني ابراموفيتش باراتينسكي- 1800- 1844 شاعر مميز في القرن التاسع عشر وهو من أسرة عسكرية
(3)- البويندستاغ هو البرلمان الاتحادي الألماني
(4) أيضا ضمن إطار تخيلاتها
5) لعبة للأطفال وضع في قاعدتها ثقل بحيث أنها تنهض حتى لو وضعتها بشكل أفقي