قصة عن البحر

قصة عن البحر

 

 

قصة عن البحر

فاضل إسكندر

ترجمة د. أيمن أبو الشعر

أنا لا أذكر متى تعلمت المشي، لكني أذكر متى تعلمت السباحة. تعلمت السباحة منذ زمن بعيد جدا، في نفس الفترة التي تعلمت فيها المشي تقريبا.  علمت نفسي بنفسي السباحة ولا أدري من علمني المشي. كان بيتنا يعج دائما بالأقارب من أبناء وبنات العموم والعمات والأخوال والخالات. كانوا يهبطون من الجبال ويجيئون من الأرياف للانتساب إلى المدارس العامة الفنية، وإبان الانتساب كان لا بد أن يعبروا بيتنا الجهم كما لو كانوا يعبرون نفقا. كان بينهم عدد غير قليل من الناس المضحكين والمثيرين للاهتمام، وقد أحببت بعضهم لكن البحر أعجبني أكثر، ولهذا كنت أهرع إليه كلما استطعت إلى ذلك سبيلا.

كان البحر في الصيف عيدا يوميا. كان يحدث أحيانا أنني كنت أخرج مع الأصدقاء من الفناء ويغمرنا توتر مفعم بالسعادة يُنبِت أجنحة على خطواتنا لكي تمضي أسرع فأسرع!

كنا نركض عبر المدينة كلها للقاء البحر.

استندتْ نهاية الشارع إلى جدار قلعة رمادي. وكان البحر خلف الجدار. وبدا كما لو أن القلعة تحاول أن تغلق البحر عن المدينة ولكن لا يتأتى لها ذلك، فرائحة البحر قوية دائما وطازجة، وهي تعبر من خلل الجدار الحجري بهدوء وحتى بنوع من السخرية.

يبدو لي أنني لو اصطحبت شخصا لم ير البحر في حياته إلى هذا الجدار العتيق، فإنه سيخمن حتى إن عم هدوء شامل أن هناك شيئا هائلا رائعا يعيش خلف الجدار، ولن يهدأ هذا الشخص قبل أن يلامسه.

كانت القلعة سجنا قبل الثورة، وقبل ذلك كانت القلعة ملكية خاصة. يمكن بسهولة تحويل القلعة إلى سجن والسجن إلى قلعة. بين الحطام بقيت زنزانة لم تتهدم ويقال أن سيرغو أورجانيكيدزه قد سجن فيها وكان حينها لم يزل مجرد مساعد طبي في مقاطعة غوداأوتا. (1)

كان ينظر من خلال النافذة المسطحة الضيقة الصغيرة إلى البعيد كجندي دبابات يحدق من شق المراقبة. أتاحت النافذة الصغيرة له النظر في اتجاه واحد فقط باتجاه البحر. الإنسان الذي عليه أن ينظر باتجاه واحد فقط إما أنه لا يرى شيئا أو أنه يرى ذاك الذي أجبره على أن ينظر باتجاه واحد. إن كان يرى في الساعات الطويلة إبان وحدته في السجن فقط قطعة من البحر محددة بالقضبان الحديدية لكان عليه أن يتهادن مع هذا الوضع، أو أن يصاب بالجنون. ولكنه رأى أكثر من ذلك ولهذا انتصر.

لم نفكر آنذاك بكل ذلك. كنا نعبر من ساحة القلعة التي كانت دائما تفوح برائحة السمك المقلي الطيبة قرب بيوت الصيادين الصغيرة المدهونة باللون الأبيض الساطع. لم يعط القرب من البحر الراحة للملابس الداخلية المنشورة على الحبال والمنتفخة بفعل الرياح فراحت الأقماط تقلد الأشرعة.

أخيرا ظهر البحر هائلا ومفاجئا، كما لو أنه انقذف إلى العيون وانسكب بنضارة مالحة راسخة. عادة كان ينقصنا الصبر في سعينا للوصول إليه وكنا نركض في الطريق المنحدر إلى الشاطئ ودون أن نتوقف كنا نطير إلى المياه الدافئة الحنونة.

عندما آن أوان البحث عن الكنوز همس أحد رفاقي المدرسيين في أذني أنه رأى في أحد الأماكن في البحر قطعة نقود ذهبية. وأقسم أنه لن يحدث أحدا عن هذا السر بيننا، وافترقنا كي نلتقي في اليوم التالي. لم أستطع النوم جيدا في الليل بت أتقلب ولم أتمكن من الانتظار حتى الفجر. ما إن بزغ الفجر قليلا حتى نهضت وتسللت على رؤوس أصابعي من البيت. التقينا عند القلعة القديمة. وكنا -لا أدري لماذا- نتحدث همسا رغم أن الشاطئ قد امتد فارغا لنصف كيلومتر. كان الطقس معبأ ببرودة الصباح ورشت المياه برفق أقدامنا. دليت رأسي متجمدا من التوتر، رحت أحدق ولكني لم أر غير ملامح القاع غير الواضحة. ولكنه أراد بشدة أن أرى قطع النقود. أخيرا رأيتها. كانت وكأنها تتمايل وتلتمع بطريقة غامضة خلَلَ سماكة الماء. كان يمكن للمرء أن يراها للحظة قصيرة عندما تنسحب الموجة وقبل أن تأتي الموجة التالية.

خلعنا ملابسنا وبدأنا بالغطس. كانت المياه باردة ذاك أن ذلك حدث في نيسان – أبريل أو أوائل أيار – مايو. غطست عدة مرات ولكنني لم أصل إلى القاع. لم يكفني النفس وأحسست بألم في أذنيّ.

لم أكن أعرف حينها أنه يجب القفز نحو الماء بزاوية وليس بشكل عمودي كما كنت أفعل. حين تقفز بشكل مائل ستقطع مسافة أكبر نحو القاع وتعبر بسهولة، والأهم أن الأذنين تتعودان على الضغط ولن تؤلماك.

كل مرة كنت أكاد أن أصل إلى القاع. ويبدو لي أنه يكفي أن أمد يدي وأمسك بالقطع النقدية، ولكن شفافية الماء كانت تخدعني. أخيرا خطرت ببالي فكرة وهي أن أقفز إلى الماء من على الصخرة المرتفعة لكي أغطس أعمق بفضل طاقة دفع القفز من مكان عال. غطست في الماء ووصلت إلى القاع بسهولة. أمسكت بالقطع النقدية مع حفنة من الرمل واندفعت بقوة وصعدت نحو السطح. أمسكت بالحافة الحجرية بيد ورفعت اليد الأخرى بحذر. انساب الرمل بخطوط خجولة من راحة يدي والتمع فيها غطاءان معدنيان من الأغطية التي تسد فيها عادة زجاجات المياه المعدنية. يبدو أن مجموعة من الناس احتفت جيدا هنا وهي تجلس على كتلة الأحجار هذه، لقد كلفتنا كثيرا وليمة المياه المعدنية تلك! وبصعوبة أدخلنا أيادينا وأرجلنا المتخشبة في الملابس، ورحنا نتقافز طويلا ونركض على الشاطئ إلى أن تدفأنا. لقد سخر البحر منا.

إنني أحب هذا المكان. هنا كان يمكن أن نضطجع لساعات ونتشمس على الصخور، أو أن نراقب بكسل البواخر والدخان يتصاعد من مدخنتها، أو السفن الشراعية العالية.  تغلغلت السراطين في الأحجار وكنا نصطادها غارزين فيها قضيبا حديديا مدببا. البحر في هذه الأماكن يغمر الشاطئ يمكن أن تطفو لعشرين مترا بعيدا عن الشاطئ متلمسا بقدميك حطام الجدار الصدئ، وأن تقف دون حراك عليه حيث تغمرك المياه حتى الصدر، وبحركات رشيقة من اليدين تحافظ على التوازن.

إنني أحب هذا المكان. هنا ذات حين تعلمت السباحة، وهنا كدت أن أغرق. عادة يحب المرء الأماكن التي عايش فيها خطرا كبيرا إن كان هذا الخطر ليس نتيجة حقارة من أحد.

تذكرت جيدا اليوم الذي تعلمت فيه السباحة، عندما أحسست بكامل جسدي أنني أستطيع أن أبقى فوق الماء، وأن البحر يحملني. كان عمري على الأرجح سبع سنوات عندما توصلت إلى هذا الاكتشاف الرائع. قبل ذلك كنت أخبّط بالماء كيفما اتفق، وأسبح قليلا أحيانا، ولكن عندما كنت أحس أن قدمي تستطيع أن تطال القاع في أية لحظة.

الآن كان ذلك شعورا جديدا تماما كما لو أنني والبحر فهم كل واحد منا الآخر. أنا الآن أستطيع ليس المشي والرؤية والكلام وحسب، بل وأن أسبح أيضا، أي ألا أخاف العمق. وقد تعلمت ذلك بنفسي! لقد اغتنيت دون أن أسرق إبان الحصول على ذاك الغنى.

غير بعيد عن الشاطئ نتأت من تحت الماء قطعة من حطام جدار القلعة، وكانت الأمواج الخفيفة تنسكب عليها. وكنت أسبح نحوها وأستلقي منبطحا عليها وأرتاح. كان ذلك شبيها برحلة إلى جزيرة غير مأهولة. ولكن هذه الجزيرة الصغيرة لم تكن في الواقع غير مأهولة. فمع الموجات الغازية كان ينقذف سرطان أحيانا ويركض بشكل غير منتظم نحو حافة الصخرة، ثم يبرز من خلف الحجر وينظر إلى بعيون شريرة متيقظة. وإن نظرت في العمق يمكن أن تلاحظ سمكات فضية صغيرة جدا تومض فجأة كشرر يخرج من الرؤوس الصغيرة.

أحيانا كنت أستلقي على ظهري وعندما كانت الموجة تعبر فوقي كنت أرى قرص الشمس متأرجحا وناعما.

كان هناك الكثير من الناس حول المكان وفي الماء وعلى الشاطئ. وكان يمكن معرفة القادمين للاستجمام ببساطة من خلال بياض الأجسام الشديد، أو نتيجة احمرار البشرة المعتم بشكل اصطناعي. في الجزء العلوي من الكتلة الحجرية التي تراكمت على الشاطئ جلست فتاة بمايو أزرق. كانت تقرأ كتابا، أو بالأحرى كانت تتظاهر بأنها تقرأ أو الأدق أنها كانت تتصنع بأنها تحاول القراءة. جلس بالقرب منها القرفصاء شاب يلبس قميصا أبيض كالثلج، وحذاء جديدا لامعا أسود كظهر الدلفين. كان يقول لها شيئا ما. وكانت الفتاة تزيح رأسها وتضحك وهي تضيق عينيها إما من الشمس أو لأن ذاك الشاب كان ينظر إليها عن قرب شديد وبشكل مباشر. ضحكت وأحنت رأسها بشكل حازم لكي تقرأ، ولكن الشاب قال شيئا ما من جديد فعاودت الضحك مرة أخرى، فالتمعت أسنانها كالزبد حول الصخور أو كلون قميص الشاب. كان طوال الوقت مسرورا بإعاقتها عن القراءة. كنت أراقبهما من جزيرتي الصغيرة، ورغم أنني لم أكن أفهم شيئا في تلك الأمور أدركت أنهما سعيدين. كان الشاب يدير رأسه أحيانا وينظر للحظة إلى البحر كما لو أنه يناشده أن يكون شاهدا على تلك العلاقة. كان ينظر بمرح وثقة كما يليق بإنسان لديه كل شيء على ما يرام، وسيكون كل شيء جيدا لوقت طويل. كان من دواعي سروري أن أراهما، وارتعشتُ من وعي حلو غامض اعتراني بأن مثل هذه الحالة سأعيشها ذات يوم. شعرت بالبرد لأني سبحت طويلا، ولكن قبل أن أحصل على الدفء بشكل كاف على الشاطئ عدت إلى الماء. خشيت ألا تتكرر المعجزة وألا أتمكن من العوم على سطح الماء. سبحت إلى الصخور ثم عدت سباحة من الصخور، ومن جديد إلى الصخور ذهابا وإيابا سباحة للمرة الثانية والثالثة… وأدركت فجأة إنني أغرق. أردت أن أتنفس ولكني شرقت بالماء. كان الماء مرا كملح إنكليزي وباردا وعدوانيا. أسرعت بكل قوتي وخرجت من الماء. ضربتني الشمس في وجهي وسمعت انسكاب المياه، سمعت ضحكا وأصواتا متعددة ورأيت الشاب والفتاة. لا أدري لماذا عندما هرعت لم أصرخ. ربما لم ألحق أو ربما انعقد لساني من الخوف. ولكن أفكاري عملت بشكل واضح. ولأني لم أستطع الصراخ شعرت بالفزع كما يحدث عادة في الحلم، وبتعطش يائس انتظرت أن يلتفت الشاب نحو البحر. وخطرت لبالي سراعا فكرة غير سارة، وهي أنه لن يقفز في البحر لإنقاذي بهذا البنطال المكوي والقميص الأبيض الناصع، وأنني لا أستحق أن تفسد من أجلي مثل هذه الملابس الرائعة. مع هذه الأفكار الكئيبة غصت في الماء مرة أخرى فبدت لي عكرة غير مبالية. ابتلعت الماء وهرعت من جديد وضربتني أشعة الشمس مرة أخرى في عيني وبت أسمع أصوات الناس بوضوح مضاعف عشر مرات.  والأكثر إزعاجا أن يغرق المرء قرب الشاطئ.

في المرة الثانية سبحت تحت الماء قرب الصخرة التي يجلسان عليها، وبت الآن قريبا جدا وشاهدت حذاء الشاب الأسود اللامع المشدود بأنشوطتين بقوة.

تأملت حتى النهايات المعدنية للأنشوطتين. تذكرت أن مثل هذه النهايات المعدنية غالبا ما تضيع من حذائي ولا أدري السبب، وتغدو نهايات الأنشوطة منفوشة كريشة يصعب إدخالها في ثقب الحذاء، وكنت أسير والأنشوطتان غير مربوطتين ولهذا السبب كانوا يوبخونني. وشعرت بالأسف أكثر على نفسي لهذه الذكريات.

آخر مرة دخلت إلى الماء لاحظت فجأة أن وجه الشاب التفت باتجاهي وبدا فيه شيء ما كما لو أنه يتذكرني بصعوبة.

وددت لو أصرخ “إنني أنا أنا، أنا الذي سبحت بالقرب منكما يجب أن تتذكرني! ” حاولت حتى أن أجعل وجهي حزينا، خشيت أن يكون الخوف والتوتر قد غير شكل وجهي لدرجة أن الشاب لم يعرفني. ولكنه عرفني وبات حتى كأن الغرق بالنسبة لي يمكن أن يكون هادئا، ولم أعد أقاوم المياه التي غطت رأسي.

شيء ما أمسك بي ورمى بي نحو الشاطئ. وبمجرد أن وقعت على الحصى الشاطئي استيقظت وأدركت أن الشاب أنقذني على أية حال. وددت بهدوء وامتنان لو أطلق الأنين من الفرح والدفء الذي راح ينتشر بجسمي تدريجيا. ولكني لم أكتف بأني لم أشكره بل تمددت بصمت ودون حراك مغمض العينين. كنت واثقا أن إنقاذي لم يكن يستحق أن تتبلل ثيابه، ورحت أبرر الأمر بمدى جدية وضعي وصدح صوت الفتاة فوقي.

  • سيصحو بنفسه- أجاب الشاب وسمعت كيف يطش الماء في حذائه.

كنت أعرف ما هو التنفس الاصطناعي ولهذا حبست في تلك اللحظة انفاسي، ولكن شيئا ما مسَّ حنجرتي من الداخل وانسكب الماء من فمي. فتحت عيني لا أراديا ورأيت وجه الفتاة التي انحنت فوقي. كانت تجثو على ركبتيها وترمش بأهدابها الصلبة فحميّةِ اللون وهي تنظر إلي بشفقة وحنان. ثم وضعت يدها على جبيني كانت يدها دافئة وممتعة. حاولت ألا أتحرك لكيلا أفزع راحتها.

أعشاب، أعشاب! – قال الشاب ملتفتا نحوي وهو يخلع قميصه.

أصبح القميص داكنا، ولكن القَبة كانت بيضاء كالسابق إذ لم تصل المياه إليها. عندما أفاض بالحديث فهمت أنني لن أدفع تعويضا عن الضرر الذي سببته له. ركزت و”تصادمت أفكاري” فقد كان ممتعا أن في معدتي كمية كبيرة من الماء. هذا يعني أنني غرقت بشكل حقيقي.

  • هل ستسبح الآن- سألني الشاب بعد أن خلع قميصه وراح يفتله بقوة ليعصره.

ها هو الآن قد خلع ملابسه ووقف بسرواله. كان قويا ومليحا، وبدا حسن المظهر حتى بدون ثياب.

  • لن أفعل ذلك – أجبت عن طيب خاطر. كان بودي أن أرضيه.
  • عبثا- قال الشاب وتابع عصر قميصه.
  • فكرت في أنه شخص بالغ غير عادي، ويجب أن أتصرف بشكل غير عادي.

نهضت ومضيت إلى البحر وأنا أتمايل، سبحت بسهولة نحو جزيرتي الصغيرة وبيسر سبحت عائدا. أعاد البحر القوة التي انتزعها الخوف مني. وقف الشاب عند الشاطئ وراح يبتسم لي وأنا رحت أسبح على الابتسامة كما لو كانت طوق نجاة.

وراحت الفتاة تبتسم وهي ترمقه، وكان واضحا أنها تفتخر به. عندما خرجت من الماء سارا ببطء على طول الشاطئ، كانت الفتاة تمسك بيدها الكتاب المغلق الذي ليست بحاجة إليه. جلستُ على الحصى الساخن محاولا أن ألتصق به أكثر وأحسست كيف ينساب إلى جسدي دفء قوي جاف من الأحجار المُسخّنة.

مضى الشاب بشكل نهائي مع فتاته، مضى عابرا دون توقف بعد أن أعاد إلي الحياة.

 

  • غريغوري قسطنطينوفيتش أورجونيكيدزة (1886- 1937) مناضل شيوعي بلشفي مشهور من كوتائيسي في جورجيا احتل مناصب هامة في الحزب والدولة وكان مقربا لحين من الوقت من ستالين.