الثلج
قسطنطين باوستروفسكي
ترجمة د. أيمن أبو الشعر
توفي العجوز باتابوف بعد شهرين من انتقال تاتيانا بيتروفنا للسكن عنده في المنزل. وهكذا بقيت تاتيانا بيتروفنا وحيدة مع ابنتها فاريا والمربية العجوز.
انتصب البيت الصغير المؤلف من ثلاث غرف فقط فوق الجبل مطلا على النهر الشمالي عند مشارف المدينة الصغيرة، وخلف المنزل حيث ينبسط البستان ازدهرت دغلة بتولا باللون الأبيض. كانت طيور الزاغ تزعق في هذه الدغلة منذ الصباح وحتى وقت الغسق، وكانت الغمامات تتهادى فوق القمم العارية محملة بالمطر.
لم تستطع تاتيانا بيتروفنا بعد قدومها من موسكو ولمدة طويلة التعود على البلدة الصحراوية وبيوتها الصغيرة وبواباتها ذات الصرير، وعلى مساءاتها الصماء عندما كانت تتواصل إلى مسامعها طقطقة النار في المصباح الزيتي.
كم أنا غبية – فكرت تاتيانا بيتروفنا- لماذا تركت المسرح والأصدقاء، كان لا بد لي من أن أُحضر فاريا إلى المربية في بلدة بوشكينو حيث لم يكن هناك أية غارات… لو أنني بقيت في موسكو… يا إلهي كم أنا غبية.
ولكن لم يعد بالإمكان بعد الأن العودة إلى موسكو، وقررت تاتيانا بيتروفنا العمل في المستوصفات العسكرية حيث كان في المدينة عدد منها، وبذلك هدأت نفسها إلى درجة أن المدينة باتت تروق لها خاصة عندما حل الشتاء واكتست بالثلج، وغدت الأيام رمادية وأكثر رقة.
لم يتجمد النهر لفترة طويلة وظل البخار يتصاعد من مياهه الخضراء.
تعودت تاتيانا بيتروفنا على البلدة وحتى على البيت الغريب وعلى البيانو غير المدوزن والصور المصفرّة فوق الجدران والتي تبدو فيها السفن المدرعة للدفاع عن السواحل. كان العجوز باتابوف يعمل في الماضي ميكانيكي سفن، وعلى مكتبه فوق الجوخ الأخضر الباهت وقف نموذج مصغر للطراد الحربي “القاصف” الذي أبحر عليه طويلا. لم تسمح لابنتها فاريا أن تلمس هذا النموذج، وبشكل عام لم يُسمح لها أن تلمس أي شيء.
علمت تاتيانا بيتروفنا أنه تبقى للعجوز باتابوف ولد بحار، وأنه يخدم حاليا في أسطول البحر الأسود. كانت صورته على الطاولة بالقرب من النموذج المصغر للطراد، وكانت تاتيانا بيتروفنا تتناولها أحيانا وتقطب حاجبيها الدقيقين وتغرق في التفكير: يبدو لها أنها قابلته في مكان ما، ولكن في زمن بعيد جدا قبل زواجها العاثر، ولكن متى؟ وأين؟
نظر البحار إليها بعينين هادئتين مازحتين قليلا كما لو أنه يسأل وماذا بعد؟ ليس من المعقول أنك لم تتذكري أين التقينا.
- لا … لا أذكر – أجابت تاتيانا بيتروفنا بصوت خفيض على تساؤلات الصورة.
- ماما مع من تتحدثين – صاحت فاريا من الغرفة المجاورة.
- مع البيانو – أجابت تاتيانا بيتروفنا.
في أواسط الشتاء بدأت الرسائل تصل باسم باتابوف وكلها مكتوبة بنفس الخط، وكانت تاتيانا تصفف الرسائل فوق الطاولة. استيقظت ذات ليلة وكان الثلج يشع بشحوب عبر النوافذ، وعلى الأريكة راح القط الرمادي “أرخيب” المتبقي من إرث باتابوف يشخر.
تلفعت تاتيانا بيتروفنا بثوب منزلي واتجهت إلى غرفة مكتب باتابوف. وقفت قرب النافذة، عندها فرت عصفورة من الشجرة دون أن تحدث صوتا نافضة الثلج الذي راح يتهادى كغبار أبيض لفترة غير قصيرة مجللا الزجاج.
أشعلت تاتيانا بيتروفنا شمعة وجلست على الكنبة وهي تجيل النظر طويلا إلى لسان اللهب… حتى اللهبة لم تخفق. بعد حين أخذت إحدى الرسائل بحذر وفضتها ثم بدأت تقرأ ممعنة النظر:
- ” يا عجوزي الغالي- قرأت تاتيانا بيتروفنا- ها قد مر شهر على مكوثي في المستشفى، جراحي ليست خطيرة، وبشكل عام تتماثل للالتئام، أستحلفك بالله لا تشغل بالك ولا تدخن لفافة إثر أخرى، أتوسل إليك.
- ” إنني غالبا ما أتذكرك يا أبي- تابعت تاتيانا بيترفنا قراءة الرسالة- أتذكر بيتنا وبلدتنا، كم هو البعد شاسع إلى حد مخيف كما لو في نهاية العالم… إنني أغلق عيني وعندها أرى… ها أنذا أفتح البوابة وأدخل إلى البستان، الشتاء ، الثلج، والدرب نحو العريشة القديمة ممهدة عند المنحدر مغمورة برذاذ الجليد، والمواقد تطقطق في الغرف عابقة بدخان البتولا، والبيانو قد تدوزن أخيرا، وأنت قد ثبتّ الشمعدانات، الشمعات الصفراوات المبرومات تلك التي جلبتها معي من لينيغراد، والنوتات موضوعة على البيانو: هناك افتتاحية “البنت البستوني” و “أنشودة لشواطي الوطن البعيد”… ألا يجلجل الجرس عند الباب؟ إنني لم ألحق أن أصلحه… أيعقل … أن أرى كل ذلك مرة ثانية؟ أيعقل أن أغسل وجهي مرة أخرى بمياه بئرنا وهي تنسكب من الجرة الفخارية؟ أتذْكُر يا أبي… آه لو كنت تعلم كم عشقت كل ذلك من هنا من بعيد، لا تعجب، ولكني أقول لك بكل جدية إنني تذكرت ذلك في أخطر لحظات المعركة، حلمت إذ ذاك أنني لا أدافع عن كل البلد وحسب بل وعن هذه الزاوية الصغيرة من الوطن الأثيرة أكثر من أي شيء إلى نفسي، وأنني أدافع عنك وعن بستاننا وعن أطفالنا ذوي الشعر الأشعث، وعن دغلة البتولا وراء النهر وحتى عن قطنا أرخيب، أرجوك لا تبتسم ساخرا، ولا تهز برأسك.”
- ” ربما يرسلوني لفترة قصيرة إلى البيت عندما يخرجونني من المشفى، لا أدري… ولكن الأفضل ألا تنتظر…”.
جلست تاتيانا بيتروفنا طويلا إلى الطاولة، ونظرت متابعة المدى خلف النافذة بعينين مفتوحتين حيث لاح الفجر في الزرقة الكثيفة وفكرت… لا شك أنه قد يأتي من الجبهة بين يوم وآخر إلى هذا البيت حيث يقطن إنسان غريب، وسيكون صعبا عليه أن يلتقي بأشخاص غريبين عنه وأن يرى كل شيء مختلفا تماما عما كان بوده أن يراه. (1)
في الصباح طلبت تاتيانا بيتروفنا من فاريا أن تأخذ المجرفة الخشبية وتمهد الدرب نحو العريشة فوق المنحدر. كانت العريشة متهالكة تماما وقد تصدعت أعمدتها ونمت اعواد برية فيها. صلحت تاتيانا بيتروفنا الجرس فوق الباب بنفسها ولمحت على الجرس عبارة مسبوكة طريفة تقول: (فوق الباب أتبختر فاقرع في مرح أكثر…). نقرت تاتيانا بيتروفنا الجرس فجلجل بصوت عال، شنف القط أرخيب آذانه غير راض وغادر البهو منزعجا، لقد بدا له رنين الجرس المرح وقحا جدا.
في النهار استحضرت تاتيانا بيتروفنا وقد دبت فيها الحيوية واحمرت وجنتاها اضطرابا عامل تصليح الأدوات المنزلية، وهو عجوز تشيكي الأصل روسي النشأة يعمل في تصليح بوابير الكاز والدمى وبعض الآلات الموسيقية بما في ذلك دوزنة البيانو. قال التشيكي وهو ينهي دوزنة البيانو، إنه قديم ولكنه جيد جدا، ولكن تاتينا بيتروفنا كانت تعلم ذلك بنفسها.
بعد أن ذهب عامل التصليح أجالت تاتينانا بيتروفنا النظر في أدراج الطاولة فوجدت علبة شموع سميكة ومبرومة، فثبتت الشموع في الشمعدان فوق البيانو، وفي المساء أشعلت الشموع وجلست إلى البيانو وامتلأ البيت بالألحان.
عندما توقفت تاتيانا بيتروفنا عن العزف وأطفأت الشمعات، عبقت في الغرف رائحة دخان شبيهة بتلك التي تعبق في شجرة رأس السنة.
لم تتمالك فاريا نفسها.
- لماذا تلمسين أغراض الآخرين – قالت فاريا لأمها- لا تسمحين لي وأنت نفسك تلمسينها. الجرس والشموع والبيانو، تلمسين كل شيء كما أنك وضعت نوتات ليست لك على البيانو.
- لأنني كبيرة – أجابت تاتيانا بيتروفنا فنظرت فاريا إليها مقطبة جبينها بنظرة ريبة، فقد كانت تاتيانا بيتروفنا لا تشبه الكبار أبدا أكثر من أي وقت مضى. لقد أصبحت فتية في كل شيء، وغدت تشبه أكثر تلك الفتاة التي أضاعت حذاءها الكريستالي في القصر. لقد سبق أن قصت تاتيانا بيتروفنا بنفسها هذه الحكاية لفاريا. (1)
كان الضابط نيقلاي باتابوف بعد في القطار حين حسب أنه لن يستطيع البقاء عند والده أكثر من يوم واحد، فالإجازة كانت قصيرة جدا، وقد استهلك الطريق معظم الوقت.
وصل القطار إلى المدينة نهارا، ولمجرد وصوله إلى المحطة علم الضابط من أحد معارفه وهو مدير محطة القطار أن والده قد توفي منذ شهر، وأن مغنية شابة من موسكو انتقلت للعيش في منزلهم.
إنه الترحيل – قال مدير المحطة.
صمت باتابوف ونظر خلف النافذة حيث تراكض المسافرون بأباريق الشاي، وهم ينتعلون الجزمات اللبادية والسترات السميكة، وأحس بدوار ينتابه.
نعم – قال مدير المحطة- كان ذا روح طيبة، هذا الإنسان لم يتمكن حتى من رؤية ابنه.
- متى يحين موعد قطار العودة؟ – سأل باتابوف
- آخر الليل في الساعة الخامسة- أجاب مدير المحطة، وبعد برهة صمت ثم أضاف- بإمكانك المبيت عندي، زوجتي العجوز ستسقيك الشاي وتطعمك، لا معنى للذهاب إلى بيت أبيك بالنسبة لك.
- شكرا – أجاب باتابوف وخرج من القطار.
- شيعه مدير المحطة بنظراته وهو يهز رأسه. عبر باتابوف البلدة نحو النهر حيث امتدت فوقه سماء زرقاء رمادية، وبين السماء والأرض تطايرت بشكل مائل ندف الثلج النادرة، وكانت الغربان تتنقل فوق الطريق المليئة بالروث. حل الظلام وهبت الريح من جانب الشاطئ آتية من الغابات، تدمع العيون.
- – إذن، وماذا بعد؟ – قال باتابوف لنفسه- لقد تأخرت أصبح كل شيء الآن بالنسبة لي وكأنه غريب، البلدة، النهر، البيت.
جال بعينيه ونظر إلى المنحدر خلف المدينة حيث يضطحع بستان في الصقيع، ويتصاعد الدخان من مدخنة المنزل الداكن وتحمله الرياح إلى إلى دغل البتولا. توجه باتابوف ببطء نحو البيت وقرر ألا يدخل بل أن يعبر بالقرب منه فقط، ربما يملي ناظريه بالبستان، أو أن يقف في العريشة القديمة. لم يكن يحتمل فكرة أن يعيش في بيت والده أناس غرباء سيان بالنسبة لهم ما جرى، الأفضل ألا يرى شيئا، وألا يرهق قلبه بنفسه، معتبرا أن الرحيل ونسيان الماضي أفضل.
“وماذا إذن – فكر باتابوف- في كل يوم يكبر المرء وينظر إلى ما حوله بموضوعية أكبر”.
اقترب باتابوف من البيت حين حل الغروب، فتح البوابة بحذر ولكنها مع ذلك أحدثت صريفا. وكما لو أن البستان قد انتفض تساقط الثلج من الأغصان القريبة محدثا خشخشة خفيفة. قادته إلى العريشة درب مغطاة بالثلوج. دخل باتابوف إلى العريشة، تأملها ووضع يده على الدرابزين العتيق، وفي البعيد خلف الغابة تشربت السماء باللون الزهري، يبدو على الأغلب أن القمر قد نهض هناك خلف الغيوم. رفع القبعة عن رأسه ومرر أصابعه في شعره. كان الهدوء عاما، وهناك في الأسفل فقط عند سفح الجبل قرقعت النسوة بالجرادل الفارغة وهن يقصدن فوهة التجويف في الجليد وسط النهر طلبا للماء.
استند باتابوف إلى الدرابزين وقال بهدوء:
- كيف يمكن أن يحدث هذا؟
مس أحدهم كتف باتابوف من الخلف بحذر فالتفت. كانت امرأة شابة تقف وراءه بوجه شاحب جاد، وقد لفعت رأسها بشال دافئ، نظرت بصمت إلى باتابوف بعينين معتمتين متيقظتين وذوب الثلج على أهدابها وخديها، يبدو أنه الثلج الذي انهمر من الأغصان.
- اعتمِر القبعة – قالت المرأة بهدوء- وإلا سيؤذيك البرد. وهيا فلنذهب إلى البيت ليس من مبرر للوقوف هنا.
صمت باتابوف وسحبته المرأة من كمه وقادته عبر الدرب الممهدة، وعند المصطبة توقف باتابوف تشنجت حنجرته ولم يعد يستطيع التنفس فقالت المرأة بهدوء أيضا
- أمر عادي، وأرجو ألا تخجل مني من فضلك، كل شيء سيكون الآن على ما يرام.
ضربت الأرض بقدميها لكي تنفض الثلج عن جزمتها، في هذه اللحظة عند المدخل تجاوب رنين الجرس. تنفس باتابوف بعمق أعقبه بشهيق وزفير.
دخل البيت وراح يتمتم بينه وبين نفسه شاعرا بالحياء، خلع معطفه الحربي عند البهو، وأحس برائحة خفيفة من دخان احتراق حطب البتولا، ولمح أرخيب. كان أرخيب جالسا على الأريكة يتثاءب وقرب الأريكة وقفت فتاة صغيرة بضفائر قصيرة تنظر إليه بعينين فرحتين، لم تكن تنظر إلى وجهه بل كانت تمعن النظر في الشارات الذهبية المثبتة على كمه.
- فلنمض – قالت تاتيانا بيتروفنا وقادته إلى المطبخ حيث كانت جرة مليئة بالمياه الباردة التي جلبت من البئر، ومنشفة كتانية يعرفها حيث حيكت عليها رسوم لأوراق البلوط.
- خرجت تاتيانا بيتروفنا بينما أحضرت الفتاة الصغيرة صابونة لباتابوف وراحت تنظر إليه وهو يغسل وجهه ويديه بعد أن خلع سترته العسكرية. لكن إحساس باتابوف بالإحراج ظل مسيطرا عليه.
- أهي أمك – سأل الطفلة واحمر وجهه، فقد سأل ليقول أي شيء.
- تظن نفسها كبيرة- همست الطفلة وكأنها تخبره بسر ما- ولكنها ليست كبيرة على الإطلاق، إنها أكثر طفولة مني.
لم تجبه الطفلة بل ابتسمت وهرعت خارجة من المطبخ.
لم يستطع باتابوف أن يهرب طيلة الليل من إحساس غريب كما لو أنه يعيش حلما وديعا، لكنه حلم صعب للغاية، كل شيء في البيت كان كما تمنى أن يراه، حتى النوتات ذاتها كانت موضوعة على البيانو والشمعات المبرومة ذاتها كانت تشتعل فتائلها مطقطقة مضيئة غرفة مكتب والده الصغيرة، بل حتى رسائله التي كان قد بعث بها من المستشفى استلقت تحت البوصلة القديمة التي كان والده يرتب باستمرار الرسائل تحتها.
بعد احتساء الشاي قادت تاتيانا بيتروفنا باتابوف إلى ضريح والده عبر الدغل، وكان القمر وسط الضباب قد ارتفع عاليا وأضاء بنوره البتولا بأشعة خفيفة ألقت على الثلج ظلالا خافتة.
فيما بعد في وقت متأخر من المساء جلست تاتيانا بيتروفنا إلى البيانو ومررت أصابعها بحذر على مدارجه والتفتت إلى باتابوف قائلة.
- يخيل لي أنني رأيتك في مكان ما.
- نعم يبدو ذلك – أجاب باتابوف، ونظر إليها وقد سقط الضوء من الجانب الآخر فأضاء نصف وجهها. وقف باتابوف وراح يتنقل في الغرفة من زاوية إلى أخرى، ثم توقف.
- لا أستطيع أن أتذكر – قال ذلك بصوت مخنوق.
التفتت تاتيانا بيتروفنا جافلة ونظرت إلى باتابوف ولكنها لم تقل شيئا.
مهدت له فراشا على الأريكة في غرفة المكتب، لكنه لم يستطع النوم أبدا، بدا له أن كل دقيقة في هذا المنزل غالية جدا ولا يريد أن يضيعها.
اضطجع وراح ينصت لخطوات أرخيب اللصوصية وإلى صوت الساعة، وإلى همس تاتيانا بيتروفنا. كانت تقول شيئا ما للمربية خلف الباب المغلق، ثم هدأت الأصوات وذهبت المربية، لكن بصيص الضوء تحت الباب لم ينطفئ. سمع باتابوف خشخشة الأوراق- يبدو أن تاتيانا بيتروفنا تقرأ، قدر في نفسه أنها قررت ألا تنام لكي توقظه في موعد القطار، كان بوده أن يقول لها أنه هو أيضا لا يستطيع النوم لكنه فضل ألا يشغلها.
فتحت تاتيانا بيتروفنا بهدوء الباب عند الساعة الرابعة صباحا ونادت باتابوف الذي سرعان ما تحرك.
- حان وقت النهوض- قالت وأردفت- يعزُّ عليّ أن أوقظك.
ودعت تاتيانا بيتروفنا باتابوف مرافقة إياه حتى محطة القطار عبر المدينة النائمة. وبعد الصفير الثاني توادعا.
مدت تاتيانا بيتروفنا يدها لباتابوف قالت
- اكتب لنا، إننا الآن أقرباء أليس كذلك؟
لم يجب باتابوف واكتفى بهز رأسه.
بعد بضعة أيام استلمت تاتيانا بيتروفنا رسالة منه كان قد كتبها في الطريق.
” كنت قد تذكرت أين التقينا طبعا – كتب باتابوف- ولكني لم أشأ أن اخبرك بذلك في البيت، أتذكرين القرم عام 1928؟ والدرب القديم في حديقة ليفادي، السماء الباهتة والبحر الداكن…كنت أتمشى في الطريق في “أرياندو” وعلى المقعد قرب الدرب جلست فتاة كانت كما يبدو في السادسة عشر من عمرها، عندما رأتني نهضت وتوجهت نحوي، وعندما تحاذينا نظرت إليها لكنها تجاوزتني بسرعة وبخفة حاملة في يدها كتابا مفتوحا. توقفت ونظرت إليها وهي تبتعد، نظرت طويلا… هذه الفتاة كانت أنت، أنا لا أستطيع أن أخطئ، نظرت في إثرك، وشعرت حينها أن الفتاة التي مرت بقربي هي التي تستطيع أن تدمر حياتي أو أن تمنحني سعادة هائلة، شعرت أنه بإمكاني أن أحب هذه الفتاة إلى درجة أنسى فيها نفسي تماما، وأدركت عندها أن عليّ ان أجدك مهما كلفني الأمر. هكذا فكرت ولكني لم أبرح مكاني…لماذا؟ لست أدري وإلى الآن أنا أعشق القرم وتلك الدرب التي رأيتك فيها للحظة وأضعتك للأبد، لكن الحياة بدت رؤوفة معي ولذا قابلتك من جديد، وإذا قدر لكل شيء أن ينتهي بشكل جيد، وأن تكون حياتي مفيدة لك فإنها ستكون لك… نعم…لقد وجدت عند الوالد رسالتي المفتوحة وفهمت كل شيء، وأستطيع فقط أن أشكرك من بعيد.
وضعت تاتيانا بيتروفنا الرسالة ونظرت بعينين مغبشتين إلى البستان المغطى بالثلج وقالت:
- يا إلهي لم أكن ولا مرة في حياتي في القرم…ولا في أي وقت… ولكن هل يمكن أن يعني ذلك أي شيء الآن؟ وهل يستحق أن أشككه… أو أشكك نفسي؟
- ضحكت وأغمضت عينيها بكفيها، وخلف النافذة شع غروب وديع لا يملك أن ينطفئ!
- كانت الدولة ترحل السكان من مناطق الخطر والقصف وتسكنهم في بيوت المواطنين الذين يتقبلون ذلك بطيبة خاطر في المدن والبلدات الأكثر أمنا خاصة أن جميع المنازل تعود ملكيتها للدولة.
- يقصد قصة ساندريلا الشهيرة