ما لا ينسى

 

ما لا ينسى

تأليف يوري بوندريف

ترجمة د. أيمن أبو الشعر

مهداة إلى لينا ستروغوفا

الممرضة في الفوج 89 للمشاة

كانت لينا تضطجع على حافة السرير الخشبي وتتدثر بمعطف عسكري، كانت تتدفأ وهي تفكر غارقة بين الحلم واليقظة: “كم رائع هذا… لم أدر قط قبل الآن أن الوضع في الملجأ سيكون رائعا هكذا..”. كانت قد وصلت حديثا من السرية الطبية المرابضة على شاطئ نهر دنيبر، ضلت طويلا في الطريق بين العتمات الخريفية، وعانت كثيرا من البرد وسط الريح الرطبة، وقد استرشدت بمواقع المدافع الرشاشة، وبصيحات الحرس ووصلت متعبة بردانة بشق النفس إلى نقطة المراقبة.

أغلقت لينا عينيها وهي تلتف متكورة تحت المعطف العسكري، وفي هذا الوقت راح يسبح في مخيلتها من مكان ما …مرأى طريق… شاطئ مليء بالغابات مضاء بأنوار الصواريخ القريبة… مياه عميقة سوداء حول المعبر … جمرات سجائر… جرحى على نقالات قرب الملاجئ الأرضية للسرية الطبية.

وفي مكان ما في أعماق الليل يتوالد صفير بعيد يطغى على كل الأصوات الأخرى… يقترب ويدوي…، قذيفة راعدة تنفجر عند طرف الشاطئ … جدار من الماء المائل يرتفع أمام الملجأ الأرضي… “إنهم يصوبون على المعبر فلماذا لا ينقلون الجرحى” … القذيفة الثانية انفجرت على بعد عشرة أمتار من نقالات الجرحى، شخص ما يصرخ هناك ويئن…” انقلوا الجرحى حالا” … وهي تركض نحو هذا الصراخ، ويتواصل إلى مسامعها أزيز مزعج لصفير خفيض من القذيفة الساقطة…

تنتفض لينا وتقذف المعطف بعنف عن رأسها… هدوء في الملجأ يقطعه طرق غريب. إنه عامل الهاتف قد غفا، والسماعة تطرق على الطاولة. يرفع عامل الهاتف رأسه بجهد كبير وينفخ في السماعة.

– “أيتها الموجة”… “أيتها الموجة” يقول ذلك ناعسا وهو يسعل: أنا “دون”…

كيف تسمعني؟ تحقق… ماذا لديكم هناك، اللعنة، راديو أم غرامافون؟  – يتنهد ويُجلّس ظهره مرهقا- كيف حالك… الأمور هادئة؟ يقذفون الصواريخ؟

يصحح عامل الاتصالات فتيل اللهبة السابحة في وعاء الشمع الصغير ويتنفس ببرود واضعا رأسه على راحتيه.

الجو في الملجأ خانق رطب، رائحة القش تفوح، وإلى جانب لينا على السرير الخشبي ينام قائد فصيلة المدفعية النقيب كاشتانوف مغطيا وجهه بقبعته، ينام دون أن يخلع حزامه. وعلى الأرض قرب السرير رقد فالوديا سيروف المراسل الحربي للنقيب.

راح ضوء الشمعة يخفق متساقطا على وجهه وهو غارق في النوم، وقد بدا فتيا تماما. كانت قد سقطت على جبينه خصلة شعر حمراء انشبكت فيها قشة بيضاء. أمعنت لينا النظر إلى وجهه وراحت تفكر: بماذا يحلم؟ وأغلقت عينيها من جديد مبتسمة.

خلال الحلم كانت تسمع ضجيجا غير مفهوم وصياحا قصيرا يشبه إصدار الأوامر ووقع خطوات وضوضاء. تنهض لينا بسرعة ولا تفهم شيئا من الحلم. الملجأ خاو لا النقيب ولا فالوديا في الملجأ، وعامل الاتصالات ينحني مع كل كلمة ويصرخ في السماعة:

  • واضح! نعم أسمعك بشكل سيء! واضح! الكثير؟ لا أسمعك!
  • ماذا؟ -تسأل لينا بتوتر وبحكم العادة تبحث عن حقيبتها الطبية- هل بدأوا؟
  • بدأوا – تمتم عامل الاتصالات وهو يصيخ السمع وينظر نحو سقف الملجأ الذي راح يهتز بعنف، يتمطى شادا جسمه ويتثاءب بعصبية ويقول:
  • – لليوم الخامس على التوالي يقومون بالهجوم المضاد فلتتمزق أرواحهم، إنهم لا ينامون، ويريد هؤلاء الأشقياء القذرون أن يستحموا في الدنيبر! يتقدمون بكل الدبابات والناقلات المدرعة… كان من الأفضل أن يكون في الفصيل أربعة مدافع … ولكن لم يبق سوى واحد فقط هو مدفع بارانوف في ساحته، يا لهذه الأوضاع!

ترتدي لينا المعطف بصمت وبسرعة تهرع خارجة من الملجأ. الخندق معتم بارد ومن المنخفض تهب ريح رطبة نفاذة. إنه يخترق حاملا أصوات الطلقات. رائحة الرطوبة الوخازة والطين المبلل بالأمطار من وقت قريب يملآن الخنادق. وإلى الأمام في الظلمة اللزجة تنقل الريح نقطة بيضاء لشهاب ألماني يرتفع فوق الخنادق ويحترق ساقطا قرب الخنادق تماما، ويهس فوق الأرض بشعلة ساطعة. وفي مكان ما إلى الأمام تنطلق رشقات الرشاشات تئز فوق الخنادق وتبتعد متلاحقة بعضها إثر بعض في مسارات، وتصطدم الطلقات الانفجارية في الحاجز بصوت خفيض ناثرة هنا وهناك شرارات زرقاء. وتدفع لينا بيديها منحنية جدران الخندق وتركض إلى الأمام نحو التلة.

وإلى الأمام في المرتفع يلعلع رشاش مرتجفا بصليات طويلة. ويضيء بتوهجه بنار محمومة جانب وجه أحد ما.

يعبر شخص مسرعا وهو يشتم بالقرب من لينا فيصدم رشاشه بكتف لينا:

  • بارانوف! أيها الرقيب أول بارانوف!

وبتأثير ضوء صاروخ تتبين وجه المراسل الحربي فالوديا سيروف

ينظر إليها:

  • لينا – يضغط بقوة على مرفقها وبالكاد يلتقط أنفاسه- لينا أهذا أنت؟
  • الهجوم؟ تسأل لينا محاولة التحدث بهدوء- من جديد؟
  • نعم بدأوا الهجوم – قال ذلك بحرارة – عليهم اللعنة لقد قطعوا الاتصال مع المدفع! بارانوف – يصرخ في العتمة- بارانوف! بارانوف ! بسرعة تعال إلي!

وبشكل مفاجئ يقفز شخص من الأعلى إلى الخندق. إنه قائد المدفع بارانوف.

يتنفس بشكل متقطع، ربما أنه ركض. تفوح منه رائحة تبغ خانقة.

  • ماذا؟ ماذا؟ – يسأل بحدة.
  • انتبه قد تكسر قدمك في الظلام يا عفريت الغابة! إنك لا تفهم شيئا! ماذا؟
  • أربع قذائف – يصرخ فالوديا- هل رأيت ناقلات الجند؟ تلتف عند المنخفض! أوغاد!

وسط التماعات الصواريخ يظهر ويختفي وجه بارانوف العريض، لقد تصلَّب حتما.

  • هذا يكفي؟ -يرمي بارانوف جسده الضخم ويقفز فوق المتراس، يقف لبعض الوقت وينظر حوله- هل يقوم الألمان بالالتفاف؟ – يقول في نفسه ويبتسم ببطء- إنهم لا يأسفون على الصواريخ!

النيران الحمراء للطلقات تمر أمام رأس بارانوف المعتم.

  • انحنِ – تصرخ لينا غاضبة- لماذا تقف؟
  • آآ لينا! أنت هنا؟ -يقول بارانوف وقد لاحظها للتو.

ودون أن ينتظر جوابا يستدير ويخطو في الظلام. تود لينا أن تصرخ له بأن ينبطح ويزحف ولكنه اختفى خلف المتراس، فتقول منزعجة:

  • لا أفهم لماذا المجازفة؟ يمكن أن ينحني. أنت تمشي هكذا أيضا
  • على طول قامتك؟ هذا ليس بطولة، آ…

يجيب فالوديا ضاحكا بشيء ما غير مسموع حيث يغرق كل شيء في الانفجارات. إنهم يتراكضون في الخندق وعند نقطة المراقبة تبهر أنظار لينا التماعات غير منتظمة، وتصم آذانها أصوات طلقات الرشاش، يرتجف وجه النقيب كاشتانوف الجاف دون حراك تقريبا في الالتماعات الحمراء. ينبطح فالوديا فوق المتراس على صدره وهو يصرخ:

  • – تمام أيها الرفيق النقيب تم تنفيذ أمرك!

وتلاحظ لينا كيف يهتز كتفه من الرشقة الطويلة.

على اليسار من الظلمة تطير حزمة مندفعة من اللهب. كل شيء يلتف. في التوهجات النارية تظهر وتختفي الأسلحة الراعشة في الأعلى، وفي المنخفض كتل سوداء للمدرعات وعلى منحدرات المرتفع يقف الألمان كصور ظلية.

-هذا بارانوف أيها الرفيق النقيب! – يصرخ فالوديا بتوتر- بارانوف يقدم سيجارته كي يشعل فالوديا سيجارته منها!

فجأة يعم الهدوء. في البعيد فقط على الجناح الأيمن تهدر الرشاشات دون انقطاع وتتطاير الصواريخ بسرعة.

الجميع صامتون يصيخون السمع. ومن الوهدة تتناهى أصوات الألمان. الذين راحوا كما يبدو يتخندقون خلف المرتفع.

  • لقد آلو للصمت – قال فالوديا ذلك بهدوء- خمسة خزانات دائرية نفدت بسرعة، سنحضّر غيرها- وراح يسكب الطلقات من علبة واقية الغاز في قبعته مجهزا إياها لحشو المخزن.

يجول النقيب كاشتانوف بنظره على الجميع في نقطة المراقبة ويقول ببطء: – هكذا – وينحني إلى أسفل الخندق مغطيا بالمعطف ويقدح الولاعة بتركيز. تصيب النار حاجبي فالوديا الأسودين الكثين. ويسحب فالوديا بنهم من دخان سيجارته.

  • آخ عليَّ أن أدخن، ولا أضيع الفرصة – ويمسح بكم المعطف الرماد عن وجهه.

تقترب لينا من فالوديا من الخلف وتقول بهدوء:

  • – هل تعبت أيها الرفيق المراسل؟ – وقد بدت في صوتها لهجة مازحة ملاطفة.

يطوقها فالوديا بإحدى ذراعيه

  • هيا اقتربي أكثر أيتها الممرضة الحربية! يقول ذلك ويشدها نحوه بقوة.

تقول لينا بحزم:

  • أيها الرقيق الرقيب أول! – وتضيف بهدوء هامسة وجلة- اهدأ النقيب بالقرب منا … هل فقدت صوابك تماما يا فالودكا!… *

كان فالوديا منفعلا تماما، فك ياقته وأراح يديه الدافئتين، وبدا للينا أن عينيه تلتمعان في الظلام جراء انفعاله السابق.

  • كيف هي أحوالك الآن؟ سألت لينا بصوت خفيض بالكاد يسمع.
  • لا بأس يا لينا أجاب هامسا وهو يلامس بوجنتيه الحارتين شعر لينا البارد- لقد اشتقت إليك طوال اليوم لم أرك، وأنت؟

تبعد نفسها عنه دافعة بيديها في صدره

  • احذر يا فالودكا! النقيب هنا.
  • إنه لا ينظر نحونا! يداك باردتان- هل أنت خائفة؟
  • إنني حتى لا أفكر…
  • تكذبين يا لينا – يهمس شادا إياها إلى نفسه.
  • حسنا قليلا فقط_ وافقت لينا-
  • علام تخافين؟
  • أخاف عليك
  • دعي عنك ذلك يا لينا- ويغدو جديا فجأة- ما من مبرر للخوف علي.
  • ليس هناك من شيء لأدعه عني. أنت أيضا تمر مثل بارانوف دون أن تنحني…

الاثنان لم يلمحا أن النقيب كاشتانوف يجلس في قعر الخندق يدخن ويبتسم وهو يسمع الهمس بالقرب منه.

في هذا الوقت بالذات تشق الهواء بالقرب من الخندق رشقة طلقات رشاش تصطدم بالمتراس. وبوقت متزامن تنطلق قذائف الهاون الألمانية من الوهدة بصوت قاضم وبرنين حاد وزعيق من الشظايا وهي تنطلق فوق الرؤوس وتتساقط على قماش الخيم.

ينتفض فالوديا ولينا. وفوق المرتفع حيث مدفع بارانوف تنير الظلمة رصاصات متطايرة كمروحة من الخطوط العريضة، وترى هذه الخطوط تنغرس في الأرض قرب الدرع وتنطفئ.

  • أيها الرفيق النقيب، المدرعات من جديد! لم يتيحوا لنا حتى التدخين! يصرخ فالوديا واضعا صدره على المتراس لاطما بكفه مغلاق رشاشه- لقد بدأوا من جديد إنهم يصوبون نحو المدفع.
  • بهدوء – يقول النقيب كاشتانوف وهو كما لو أنه استيقظ للتو وصوته ناعس ومبحوح سرعان ما يغدو حارقا بتوهج:
  • من اليمين الرمي دراكا على المدى القصير

تهتز كتفا فالوديا بشكل متكرر، ويظهر بشكل مرعب على ضوء صليات الرشاش اللمعان الأحمر لأسنانه وهو يصرخ ويضحك.

تنظر لينا إليه وهي مسرعة، وتشعر برغبة عارمة في أن تقف بالقرب منه، أن تقف إلى أن ينتهي الهجوم. تتلمس بيديها أطراف الخندق.

“أين الممرضة”! يرن هذا الصوت في أذني لينا ولكنها تدري أنها بحكم العادة غالبا ما يتهيأ لها ذلك، وتسأل وهي ما زالت تنظر نحو فالوديا مارة في الخندق:

  • هل من أحد جريح أيها الرفاق؟

تعبر الظلمة في الوهدة ناقلات الجند المصفحة، وتتوزع مساراتها مثل المراوح بخطوط عريضة تدنو أقرب فأقرب، وتسقط الصواريخ الألمانية على موقع مدفع بارانوف وتحترق على متاريس ساحة المدفع، ويبدو للجميع أولئك الناس الواقفون والمنتظرون خلف ساتر المدفع والأطول من بينهم بارانوف بجانب القاعدة.

أيها الرفيق النقيب! إنهم يكادون أن يحاصروا بارانوف- يأتي صوت فالوديا من الخلف- ألا ترى؟ إنهم يتسللون من اليسار.

راح مدفع بارانوف يصوب بمهارة، ثم يصمت المدفع ويبقى أزيز الرصاص مسموعا فقط، ويسمع أيضا صراخ الألمان وهم يركضون نحو المدفع:

  • آآ!
  • بارانوف! – يتهادى صوت أجش في الظلمة- بارانوف!

يتلاحق انفجار القذائف قرب المدفع.

  • الممرضة الحربية إلى هنا، أين الممرضة الحربية؟ الممرضة!

تبحث لينا بعينيها ثم تركض نحو النداء.

وتلمح أثناء ركضها من خلال نظرة عابرة وجه النقيب كاشتانوف وقد بدا مريعا، كان يصرخ بكلمات لم يكن بالإمكان فهمها، وهي تنظر إلى فمه الفاغر ولم تستطع أن تلتقط سوى كلمة واحدة:

  • إلى الأمام!

يصطدم الجنود الراكضون في الخندق بلينا التي يخفق قلبها بشدة.

وفي المعبر تصطدم بجندي ضخم يحمل جنديا على يديه.

  • من أنت؟ يقول الجندي بصوت خشن. أين الممرضة؟
  • أنا- تتنهد لينا- أنا يا عزيزي أين الجريح؟
  • من ” أنا” ؟ إنني لا أرى! هيا قف! – وبخطو الجندي الغاضب المتوتر نحو لينا مباشرة
  • أنا الممرضة! توقفه لينا فجأة غاضبة – إلى أين تمضي بالجريح
  • حي… نعم بسرعة…- بهدوء ولكن يتحدث الجندي بانفعال وِوَعيد كما لو أنه لا يثق بلينا.
  • لينا لا تعرفه، لعله من المشاة.

يمسك الجندي بقوة من عند ظهر الجريح الأعرج بالمعطف المصنوع من قماش الخيم

  • حسنا لقد سحبته! -يقول الجندي متنفسا الصعداء- نقلته مئتي متر! ممرضنا أيضا كانت فتاة… حسنا، يا سيميون، فلتكن معافا يا أخي! ولتعش…
  • – شكرا لك- تنهد الجريح.
  • لا داعي للشكر يا أخي. بعد الحرب تتحدث حول المائدة. تعال لأقبلك. يتوادعان وينطلق الجندي بسرعة في الخندق. ويئن الجريح بصوت مخنوق، وتنزلق يداه على جدار الخندق.
  • تمسك بي ولنمض بسرعة إلى الملجأ الأرضي! إنه هنا ليس بعيدا – تهمس لينا-

في الملجأ الأرضي كانت الشمعة لا تزال مشتعلة، ولكن عامل الاتصالات غير موجود، إنه على الأغلب في الأعلى، وتسارع لينا بتمديد الجريح فوق السرير الخشبي.

  • الآن، الأن سنقوم بتضميد الجرح … وسيكون كل شيء على ما يرام… ضماد لا أكثر.

الجريح شاب، بل هو يافع تماما وجهه شاحب أقرب ما يكون إلى اللون الأزرق راح يعض على شفتيه الباهتتين ضاغطا عليهما بقوة. ذهلت لينا فقد كان واضحا أنه فقد الكثير من الدماء ولهذا اسرعت في لف الضماد

  • حارقة… – يعض الشاب على شفتيه- تحرق كالحديد… كما لو اخترقت وركي… آ…؟

تمزق لينا قميصا مغمسا بالدماء من فوق بطنه وتفك الأزرار.

لا داعي! – يحاول النهوض شادا وجهه- اذهبي أيتها الأخت! إنني أخجل…

راح يغلق بطنه بيديه. يدخل صدره تحت يديه مثل منفاخ. وطفت على بطنه بقعة دم لزجة.

  • عجيب أنت، فقط سألفُّ الضماد… دقيقة واحدة وينتهي كل شيء- تقنعه لينا.

أخيرا انتهى كل شيء والشاب يصر أسنانه.

  • أيتها الأخت لو رشفة واحدة! أشعر بالحرقة.

تتلمس لينا القش والأرضية بيدها محاولة ان تجد قارورة ما وهي تكرر بشكل آلي:

  • الآن يا عزيزي، حالا.

في منتصف الليل يدخل النقيب. يضيق عينيه وهو يتأمل الملجأ الأرضي طويلا. على السرير وعلى الأرض يتمدد الجرحى، ولينا تجلس وظهرها إلى الباب دون أن ترى النقيب. كان ظهرها النحيل محنيا وذقنها في راحة يدها، وهي تصغي بانتباه لما يقوله لها الجريح بصوت خفيض.

  • لينا – يسعل النقيب- وأين نتمدد نحن؟

تلتفت لينا وتنهض بوجه منهك شاحب. ترفع يديها إلى صدرها وتخفضهما، وببطء بخطوات صغيرة وبساقين مرتبكتين تماما تقترب من النقيب، عيناها متسعتان مفتوحتان مجمدتان انتظارا:

  • ماذا؟ – سألت.
  • هيا

يسعل النقيب بجهد ويجلب جنديان آخران فالوديا نفسه بهدوء إلى الملجأ ساندين إياه ويقول النقيب دون أن ينظر إلى لينا:

  • ضمديه…

تقترب لينا من فالوديا ويلمح النقيب زر قميصها يرتفع ويهبط وحاجباها يرتجفان بذهول، كانت على عيني فالوديا أربطة ضماد منتفخ من الدماء، ويمد فالوديا يده إليها متخبطا ولكن النقيب يمسكها مقطبا جبينه.

  • اهدأ يا فالوديا
  • أيها الرفيق النقيب- يتحدث فالوديا بصوت متشنج غير مألوف- يجب نزع الضماد إنه يعيق.
  • أيها الفريق النقيب- وتغص لينا نتيجة تشنج في حنجرتها
  • لينا؟ – يسأل فالوديا بهلع- لينا هنا؟

تنظر لينا نحو الضماد فوق عينيه بذهول. وتقترب خطوة أخرى. يبحث فالوديا بحذر ويمسكها من كتفيها. وتحاول شفتاه أن تتبسما.

  • لينا؟ – يهمس ويمد يده من جديد إلى الضماد. – لينوتشكا* يجب إزالة الضماد فليذهب الضماد إلى الشيطان!

تضغط لينا على يده برفق ويبدو وجهها جامدا لا حراك فيه. وتسقط قطرات الدماء على أصابعها. إنها قطرات ساخنة ولكن يد فالوديا باردة كقطعة حديد في الصقيع.

  • لينوتشكا- يقول فالوديا- أصبت بحرق… لقد أصبت بضربة انظري، ماذا لدي؟ أترين؟ شيء بسيط جدا. أحس بحرق وحسب…

تصمت لينا. عليها أن تضمده من جديد، ولكن فالوديا بهذا الضماد يبدو هكذا بعيدا جدا عنها الآن وكأنها لن تطاله.

  • أمر بسيط يا فالوديا أمر بسيط ليس خطيرا- تعصر المكان بشكل ميكانيكي وكأنها في حلم وهي تلف ضمادا نظيفا.

وفالوديا يقول محاولا ان يبتسم:

  • هذا أمر بسيط، عابر. فالجرح هناك في الرأس ومنه ينسكب الدم إلى عيني!…

تجلسه في السرير وتقف صامتة بالقرب منه. يستند النقيب إلى الجدار بظهره ويغلق عينيه ويبدو أنه يغفو. يختلج خداه ويتقارب ويتباعد حاجباه.

  • أيها الرفيق النقيب- يسأل أحد الجرحى بصوت خفيض- كيف الوضع فوق؟

يفتح النقيب جفنيه بصعوبة.

  • كيف الوضع هناك؟ – يسأل من جديد الشاب الفتي الجريح في حوضه.
  • إننا نصمد – يجيب النقيب- ثلاث مصفحات تحترق- ينظر النقيب إلى الجرحى ويكرر بصوت أعلى- ثلاث مصفحات تحترق
  • رائع! يقول فالوديا متصنعا الحيوية ويهز برأسه- نعم أيها الرفيق النقيب بارانوف مقدام حقا.
  • لينا – يشير النقيب للينا بإصبعه- تعالي إلى هنا- فالودكا، فالودكا – يقول النقيب بصوت خفيض ويضغط على كتفي فالوديا، ينحني بانفعال ويقبل فالوديا.
  • شكرا لك يا فالوديا، شكرا على كل شيء…

يخرج النقيب من الملجأ، وتسمعه لينا يسعل كإشارة بأنه ينتظرها عند المدخل.

تخرج لينا مستندة إلى الجدار من الملجأ وراءه وكأنها مخمورة.

تستند بيدها على جدار الخندق ذي السطح اللزج لكيلا تقع من الوهن في ساقيها.

  • هكذا إذن – يسعل النقيب- هذا ما جرى لفالوديا آ ؟ أتسمعين؟ الشاب لا يقدر بثمن. شظايا قذيفة الهاون أصابته… هكذا… الآن بالضمادات وفورا يجب نقل الجرحى على الحمالات إلى المؤخرة بالطريق الأقصر عبر الوادي. لا أستطيع أن أرسل أحدا غيرك، الظروف تفرض ذلك. أنا ذاهب لبارانوف- أضاف النقيب- فقد أحضروا قذائف. حسنا، هيا أسرعي لجلب العربة. سوف يهتمون أثناء غيابك بالجرحى.

لم تستطع لينا أن تنبس ببنت شفة.

  • انتظري، تمهلي، – يتجهم النقيب- هل كنت على علاقة مع فالوديا؟ -يسألها بصوت خفيض-
  • وأي معنى لذلك – تهمس لينا

يحبس النقيب تنهيدة في صدره ويقول بسرعة:

  • حسنا، حسنا انطلقي

الهدوء يهيمن على المكان، إلى الأمام فقط فوق الخنادق يرتجف بصيص أحمر كما لو أنه وهج حريق، وحتى الصواريخ كفت عن التحليق. تهبط لينا من التل وتمشي في قاع الوادي إلى المؤخرة من أجل العربة. وقد حلت الوخزات في قلبها.

الربو يعصر الحنجرة ويضغط وينفخ كل شيء في الصدر. تتوتر لينا وتعبس شادة وجهها لكي تبكي ولكن الدموع تخونها. تتنفس بشكل متقطع بفمها، تتوقف وتفكر برهبة: “أحقا؟ أحقا هذه هي النهاية؟ وتركض عاضة شفتيها مسرعة فوق الأوراق الرطبة نحو الوادي.

  • الآن يا فالوديا ستأتي العوامة وعما قريب ستكون في المستوصف – تقول ذلك لفالوديا وهي ترفع ياقة معطفه- هكذا سيكون أفضل فالريح باردة هنا.

يضطجع فالوديا فوق الحمالة قرب ملاجئ السرية الصحية عند ضفة الدنيبر. قرب النقالات يشتعل موقد. على الألواح المتفحمة تزحف بكسل جمرات أرجوانية وتنطفئ. وتأتي من ناحية نهر الدنيبر نفحات باردة. وعند منحدر التل تتطاير أوراق رطبة من الغيهب الندي مع بداية طلوع الفجر وتتساقط فوق النار، تتحرك كأنها حية وتتوهج بلهبة صفراء هادئة. وعلى الرمال قرب الموقد تقف بضعة حمالات أيضا. ومن الملاجئ يحضر الممرضون الجرحى وينتظرون العوامات من الشاطئ الآخر. الدنيبر لا يُرى في الظلمات، ولكن عندما يومض طرف السماء في البعيد إلى اليسار يمكن تمييز المياه السوداء عن الشاطئ. بين حين وآخر تضعف الرياح ويعم الهدوء وتسمع لينا كيف تنفصل الأوراق عن الأشجار وتتهاوى. سقطت إحدى الأوراق على كمها. تلتقطها لينا بحذر وتضعها على راحة كفها. تفوح من الورقة رائحة الأرض وبرائحة أواخر الخريف المثيرة للقلق.

“كم هي خفيفة هذه الورقة” فكرت لينا”.

  • كانت الأوراق مرمية بكميات كبيرة على أرض حديقتنا في فارونج وكم كان ممتعا المشي فوقها- تقول لينا- إنها تخشخش.
  • أنت اسحقي هذه الورقة – نصحها فالوديا دون أن يبتسم- ستخشخش هي أيضا.
  • لماذا يا فالوديا؟ أجابته غاضبة ونفخت الورقة من راحة كفها- لا داعي لذلك.

يرتعش فالوديا ويرتعد. لينا تنظر إلى وجهه مفكرة:

  • ماذا يا فالوديا؟ تسأله.
  • لينا – يقول لها – ستأتي العوامة قريبا؟
  • قريبا يا فالوديا ومن ثم إلى المستوصف. تبقى القليل تجلد.
  • لينا – يكرر فالوديا- أنا معك الآن … ولكننا فيما بعد … – ينهض قليلا في النقالة ويسحب نفسا عميقا.
  • ماذا؟ – تسأل لينا- ماذا أردت أن تقول؟ اضطجع، اضطجع…
  • لا شيء – يقول ذلك وأسنانه تصر ووجهه ينقبض إما من الألم أو بتأثير بعض الذكريات…

تعدل لينا ضماده وتنحني نحوه:

  • بماذا تفكر؟

يلوذ فالوديا بالصمت.

  • غريب أنت غريب يا فالوديا! بماذا تفكر؟ تمسد لينا رقبته وتقبله من ذقنه…- أنا واثقة أننا سنلتقي…

يبقى فالوديا صامتا وهو ممدد

  • – أيتها الأخت – يقول أحدهم فوق رأسها – أمر بسيط. هيا دعينا نأخذه – العوامة تنتظر!

يقف بالقرب ممرضان يحملان النقالات  ومع الأنين يتوجهان إلى العوامة ترافقهما لينا.

  • انتظرا أيها الشابان – يبذل فالوديا جهدا لكي ينهض قليلا وهو منفعل، يستند إلى مرفقيه وينطلق صوته برنين مخنوق يائس:
  • لينا! سينقلونني الآن… أريد أن أقول … أنني لن أراك بعد الآن، لا أستطيع العيش من دونك، لا تشفقي علي… إنها الحرب يا لينا… ليونوتشكا، (2) حبيبتي!…

لم تعد تستطيع سماع أي شيء بعد ذلك… النقالات تحمل الجرحى إلى العوامة، أما هي فتمضي صامتة عاضة على شفتها إلى الموقد ومازال صراخ فالوديا الطفلي اليائس يرن في أذنيها وهو يحاول أن يشرح ما لا يشرح.

وتشعر لينا فجأة بحر شديد كما كان في الوادي آنذاك حتى أنها تشعر بالجفاف في حلقها، وتكاد لا تستطيع التنفس. تجلس منهكة قرب الموقد وتشد على ركبتيها مخفية وجهها بينهما وتبكي بحرقة دون صوت.

.

  • مثل شعبي بمعنى لا تفوت الفرصة في الوقت المتاح
  • (2) مصغر من اسم لينا للتحبب