أنا قتلت
ميخائيل بولغاغوف
ترجمة د.أيمن أبو الشعر
ابتسم الدكتور ياشفين ابتسامة عريضة غريبة وسأل:
- أيمكن نزع ورقة من التقويم؟ الساعة الآن هي الثانية عشرة تحديدا هذا يعني أنه حل اليوم الثاني في الشهر.
- تفضل، تفضل- أجبت أنا.
توجه ياشفين نحو الزاوية وسحب بِرِقّةٍ بأصابعه البيضاء النحيلة الورقة العليا. كانت تحتها صفحة فيها الرقم “2” وكلمة “الثلاثاء”. ولكن شيئا ما في الصفحة الرمادية الصغيرة أثار اهتمام ياشفين إلى درجة كبيرة. ضيق عينيه وحمْلق ثم رفع عينيه ونظر إلى مكان ما نحو البعيد بحيث بات واضحا أنه يرى لوحة غامضة تتراءى له وحده خلف حدود جدران غرفتي، ربما أبعد من ليل موسكو في الضباب الرهيب لصقيع شباط.
“ما الذي بحث عنه هناك؟”- فكرت وأنا أميل بجسمي نحو الدكتور. كان يثير اهتمامي دائما. فمظهره الخارجي لم يكن يتناسب مع مهنته. كان الناس الذين لا يعرفونه يظنونه ممثلا. شعره أسود لكن بشرته في الوقت ذاته ناصعة البياض، وقد جمَّله ذلك وميزه عن الشخوص الآخرين. كان يحلق ذقنه بشكل ناعم جدا، ويلبس بأناقة كبيرة، وكان يحب الذهاب كثيرا إلى المسرح، وإن تحدث عن المسرح فإنه يتحدث بذوقية ودراية. كان يتمايز عن جميع السكان عندنا بحذائه وهو الآن ضيفي. كنا خمسة أشخاص في الغرفة أربعة منا بأحذية رخيصة من الكروم مقدماتها ساذجة مدورة، أما الدكتور ياشفين فكان ينتعل حذاء له مقدمة مدببة وواقيات صفراء. وبالمناسبة لا بد من القول أن براعة ياشفين لم تستدع انطباعا سلبيا، وكطبيب لا بد من تقديره حق قدره فقد كان جيدا. شجاعا وموفقا والأهم أنه كان يتمكن من القراءة رغم زياراته المستمرة لمسرحيتَي “فالكيري” و “حلاق إشبيليا” (1).
المسألة بالطبع لا تتعلق بالحذاء بل في أمر آخر فقد لفت انتباهي بميزة غير عادية خاصة به، وهي أنه يكون صامتا منغلقا، ولكنه في بعض الحالات يصبح راوية ممتازا. كان يتحدث بهدوء كبير دون خيالات ودون إظهارٍ للذكاء ودون تصنع، يتحدث دائما بموضوع مثير جدا. التهب الطبيب المتريث الأنيق حماسة، كان يومي بيده اليمنى البيضاء بشكل نادر بحركات انسيابية قصيرة كما لو أنه يضع في الهواء معالم قصيرة للقصة، ولم يكن يبتسم أبدا إن قص شيئا مضحكا، وكانت تشبيهاته أحيانا مميزة وزاهية إلى درجة أنني حين كنت أسمعه أغرق مرهقا في فكرة واحدة” “أنت طبيب جيد ومع ذلك أنت اخترت طريقا غير طريقك، وكان عليك أن تغدو كاتبا وحسب”
وعاودتني هذه الفكرة الآن رغم أن ياشفين لم يقل شيئا، لقد حدق في الرقم “2” وسرح بعيدا إلى مكان مجهول.
“عن ماذا بحث هناك مليا؟ هل عن لوحة”. نظرت من خلف الكتف ورأيت أن اللوحة ليست مثيرة أبدا. كان مرسوما في اللوحة حصان غير متناسق بصدر رياضي وقربه محرك وتوقيع: ” حجم المقارنة الحصان (قوة 1) أما قوة المحرك فتعادل (قوة 500 حصان) “.
- كل هذا هراء يا رفاق – قلت ذلك متابعا الحديث- حقارة عادية. الشياطين يلومون الأطباء كما يلومون الموتى، ويلوموننا نحن الجراحين بشكل خاص. فكروا أنفسكم إن الإنسان يجري مئة عملية لاستئصال الزائدة، وفي المرة الأولى بعد المئة يموت المريض على طاولة العمليات. فهل يعني ذلك أنه قتله.
- حتما سيقولون قتله – قال الدكتور- وإن كانت زوجة أحدهم هي التي ماتت، فسيأتي الزوج إلى العيادة ليرمي كرسيا في وجهك- أكد بثقة الدكتور بلونسكي حتى أنه ابتسم، وابتسمنا رغم ان الحديث في الواقع لم يكن مضحكا عن رمي الكراسي في العيادة.
- لا أستطيع احتمال الكلمات الزائفة والمعبرة عن التوبة – تابعت أنا-: “أنا قتلت، آه، أنا طعنت”. ما من أحد يطعن أحدا، وإن مات المريض بين أيدينا فإن الذي قتله هو حادث مؤسف. هذا شيء مضحك في الواقع! فالقتل ليس من سمات مهنتنا. أي شيطان! أنا أسمي قتلا تدمير الإنسان مع سبق النية والتخطيط، وفي أسوأ الأحوال مع وجود الرغبة في القتل. جراح وفي يده مسدس- هذا مفهوم بالنسبة لي. ولكني لم أقابل جراحا كهذا طيلة حياتي والأرجح أنني لن أقابله.
- الدكتور ياشفين أدار رأسه نحوي فجأة وقد لاحظت أن نظرته باتت قاسية وقال:
- أنا في خدمتك.
في الوقت نفسه أدخل إصبعه في ربطة العنق وابتسم ابتسامة عريضة ولكن ليس بعينيه بل بجانب فمه.
نظرنا نحوه بدهشة.
- بأي معنى؟ سألته.
- لقد قتلت- أوضح ياشفين.
- متى؟ سألته بسخف.
أشار ياشفين إلى الرقم 2 وأجاب:
- تخيلوا مثل هذه المصادفة. ما إن تحدثتم عن الموت انتبهت إلى التقويم ورأيت أن التقويم يشير إلى التاريخ 2 . بالمناسبة إنني كل عام أتذكر تلك الليلة. أتعلمون قبل سبع سنوات تماما في مثل هذه الليلة نعم أعتقد …
- أدار ياشفين الساعة السوداء وحملق- نعم… وفي مثل هذه الساعة نفسها تقريبا في ليلة الأول إلى الثاني من فبراير -شباط قتلته.
- المريض – سأل غينس.
- نعم المريض.
- ولكن ليس عن قصد؟ – سألته.
- بلى، عن قصد – أجاب ياشفين.
- ولكني أخمن – قال بلونسكي متشككا مخرجا الكلمات من بين أسنانه- أنه كان مصابا بالسرطان على الأرجح، وكان يموت موتا بطيئا، وهو يتعذب، وقد أعطيته أنت مورفي بحقنة مضاعفة عشر مرات.
- لا المورفين هنا ليس له علاقة أبدا- أجاب ياشفين- ولم يكن مصابا بالسرطان أبدا. كان هناك صقيع رائع كما أذكر قرابة خمس عشرة درجة تحت الصفر، النجوم … آخ أية نجوم فوق أوكرانيا. سبع سنوات تقريبا أعيش في موسكو ومع ذلك أحس بانجذاب نحو بلدي. قلبي يؤلمني لدي رغبة معذبة في أن أذهب إلى القطار… لا توجد في العالم مدينة أجمل من كييف.
أخفى ياشفين ورقة التقويم في محفظته وجلس منكمشا في الكنبة وتابع:
- مدينة رهيبة، أوقات رهيبة… لقد رأيت أشياء مرعبة لم تروها أنتم سكان موسكو. كان ذلك عام ألف وتسعمئة وتسعة عشر، وبالتحديد في الأول من فبراير – شباط. كان شفق الغروب قد ظهر وحلت الساعة السادسة مساء. أدركتني بدايات عتم الغروب وأنا أمارس أمرا غريبا. كان المصباح على طاولتي في المكتب مشتعلا، وكان الجو دافئا في الغرفة ومريحا، وأنا أجلس فوق الحقيبة وأحشوها بأشياء سخيفة وأهمس بكلمة واحدة:
- الهرب، الهرب…
أحشر القميص في الحقيبة ثم أخرجه لأن القميص الملعون لا ينحشر. كانت الحقيبة يدوية صغيرة، وقد احتلت الملابس الداخلية حيزا كبيرا منها إضافة إلى مئات السجائر وسماعة الطبيب. أُخرج كل ذلك من الحقيبة. أرمي القميص وأصغي. الأطر الشتوية للنوافذ ملطخة، يسمع صوت خافت، ولكنه يسمع… من بعيد، بعيد… تنشدُّ الأصوات بصعوبة بو…و… غو…و… إنها المدفعية الثقيلة. يتردد الصدى ثم يهدأ. أنظر من النافذة فقد عشت في الجزء العلوي من منحدر الكسييف حيث أستطيع أن أرى كل حي “بدول” من هنا. ينسل الليل من نهر دنيبر ويلف المنازل، وتضيء المصابيح بالتدريج كسلاسل وصفوف… ثم يظهر الرجع من جديد. وفي كل مرة تأتي الضربة من خلف الدنيبر أهمس:
-هيا أكثر هيا أكثر.
كان الأمر يتلخص في أن المدينة كلها في تلك الساعة كانت تعلم أن بيتليورا سيغادر قريبا، إن لم يكن في هذه الليلة ففي الليلة التي بعدها. وجاءت من وراء الدنيبر كما أشيع أعداد هائلة من البلشفيين، ولا بد من الاعتراف بأن المدينة كلها انتظرتهم ليس باهتمام وحسب بل يمكن القول بإعجاب شديد. لأن قوات بيتليورا (2) قامت بما لا يصدقه عقل في كييف في الشهر الأخير من وجودها. جرت المذابح باستمرار، وكانوا يقتلون بعض الناس كل يوم مفضلين اليهود وهذا أمر مفهوم. استولوا على بعض الأشياء، وطافت السيارات في المدينة، وفيها أناس تزين قبعاتهم شرائط حمراء، والمدافع لم تهدأ في الأيام الأخيرة ولا لساعة. ليلا ونهارا. الجميع في حالة توق والعيون حادة لدى الجميع ومثيرة للقلق. وعندي تحت النوافذ منذ الأمس تستلقي منذ نصف يوم جثتان على الثلج. إحداهما بمعطف رمادي والأخرى بقميص أسود وكلاهما دون جزمة. وكان الناس يتحاشون الاقتراب، وأحيانا يتجمعون للنظر مجموعات، وخرجت بعض النسوة حاسرات رؤوسهن من البوابات وهن يلوحن بقبضاتهن ويصرخن:
- انتظروا. سوف يأتي البلشفيون.
كان منظر الرجلين اللذين قتلا دون معرفة السبب مقززا بائسا، وفي نهاية المطاف بت حتى أنا في انتظار البلشفيين. وهم يقتربون ويقتربون. ينطفئ البعد وتدمدم المدافع من بعيد وكأنها تطلق من رحم الأرض.
وهكذا…
وهكذا: المصباح يضيء بشكل مريح، ولكن الوضع يثير القلق في الوقت نفسه، فأنا وحدي في الشقة كأني في عزلة، الكتب مبعثرة (والحقيقة أنني في هذه الفوضى كنت أداري حلما جامحا في الاستعداد لنيل شهادة عليا) وأنا فوق الحقيبة.
حدث الأمر، ويجب أن أقول لكم أن الأحداث انتقلت إلي في الشقة، فقد سحبوني من شعري وجروني، وطار كل شيء كحلم سيء. عدت انا تحديدا في وقت الغروب إلى الضواحي من مشفى العمل حيث كنت طبيبا متدربا في قسم الجراحة النسائية، وتناولت مظروفا من شق الباب له مظهر رسمي غير مبهج. فضضته على الفور عند العتبة وقرأت ما كان مكتوبا على الورقة وجلست مباشرة على الدرج.
كانت الكتابة على الورقة بخط الآلة الكاتبة الأزرق:
” بهذا المضمون”
هذه هي الترجمة إلى اللغة الروسية باختصار:
“نقترح عليك خلال ساعتين منذ تسلمك هذا المظروف أن تأتي إلى الإدارة الصحية لكي تتسلم تعيينك…”
إذن، بهذه الصورة: هذا هو الجيش الرائع الذي يترك الجثث في الشوارع، إنه جيش أبونا بيتليورا مع المذابح، وانا عليّ ان أكون واضعا شارة الصليب الأحمر على ساعدي مع هذه الشلة…تأملت قرابة دقيقة لا أكثر وأنا ما زلت على الدرج. قفزت كما النابض ودخلت إلى الشقة وقد ظهرت الحقيبة الصغيرة على مسرح الأحداث. نضجت الخطة لدي بسرعة. كان عليّ أن أنقل القليل من الثياب من الشقة وأن أتوجه نحو الضواحي إلى صديق مسعف صحي ذو مظهر كئيب وميول بلشفية واضحة. سأجلس عنده إلى أن ينتصروا على بيتليورا. وكيف ألن ينتصروا عليه أبدا؟ هل يعقل أن البلشفيين الذين طال انتظارهم مجرد وهم؟ أيتها المدافع أين أنت؟ هدأت. لا إنها تدمدم من جديد.
رميت القميص بحنق وصفقت قفل الحقيبة الصغيرة، ووضعت مسدس البراونينغ وبعض الطلقات في جيبي، وارتديت المعطف مع ربطة شارة الصليب الأحمر، وجلت بناظري بكآبة ومن ثم أطفأت المصباح، وتلمست طريقي مسترشدا بظلال الشفق، خرجت من الواجهة الأمامية وأنرتها قليلا، أخذت غطاء الرأس وفتحت الباب على الساحة الصغيرة.
في هذه اللحظة مر أمامي شخصان يحملان على كتفيهما بندقيتين قصيرتين من سلاح الفرسان.
أحدهما كان في كعبي حذائه مهمازان بحلقتين، والآخر بدون هاتين الحلقتين، وكل واحد يرتدي قبعة ذات قلنسوة زرقاء تتدلى على خديهما بجرأة.
راح قلبي يخفق.
- أنت الطبيب ياشفين؟ سأل أحد المجندين في سلاح الفرسان.
- نعم هذا أنا- أجبت بصوت خفيض.
- امض معنا – قال العسكري الأول.
- ماذا يعني ذلك؟ سألت مستدركا نفسي قليلا.
- عمل تخريبي هذا هو الأمر- أجابني مخلخلا بمهمازي كعبيه وهو ينظر نحوي بمرح مخادع- الطبيب لا يريد أن ينضم إلى التعبئة، ولهذا ستحاسب بموجب القانون.
غابت الواجهة الأمامية، وانغلق الباب، وها هو الدرج… ثم الشارع…
- إلى أين تقوداني؟ – سألت ولمست في جيب البنطال برفق مقبض المسدس المضلع البارد.
- إلى أول فوج للخيل – أجابني الذي في كعبيه مهمازان.
- لماذا؟
- كيف لماذا؟ استغرب الثاني- ستُعيّن عندنا طبيبا مداويا.
- من هو آمر الفوج؟
- العقيد ليشينكو – أجاب الأول باعتزاز ورن المهمازان بحلقتيهما من جانبي الأيسر بإيقاع مناسب.
- “كم أنا ابن كلب- فكرت – رحت أحلم وأنا فوق الحقيبة. وها أنا ذا بسبب ملابس داخلية … لماذا لم أخرج قبل خمس دقائق”
كانت قد انتصبت فوق المدينة سماء صقيعية سوداء تراءت فيها النجوم عندما دخلنا إلى فيللا فاخرة. تلألأت على زخارف الصقيع فوق الزجاج الإضاءة الكهربائية. وقادوني مع رنين المهاميز في الكعوب إلى غرفة فارغة تماما مليئة بالغبار، ومضاءة بمصباح كهربائي إلى درجة تبهر الأبصار تحت زهرة توليب من العقيق مكسورة. ومن الزاوية تدلت فوهة رشاش، ولفتت انتباهي الانسيابات الحمراء والأرجوانية في الزاوية قرب الرشاش، هناك حيث تعلق بساط غال ممزق.
“ولكن هذا دم” – فكرت وانقبض قلبي بشكل غير مريح.
- أيها السيد العقيد- قال بصوت خفيض العسكري صاحب المهمازين- لقد أحضرنا الطبيب
- اليهودي؟ – صاح فجأة صوت جاف أجش من مكان ما.
انفتح بصمت الباب المكسو بقماش مرسوم عليه رعيان صغار، وركض رجل من هناك.
كان يرتدي معطفا رائعا وجزمة بمهمازين. وكان يشد على جسمه أحزمة قفقاسية مع لويحات فضية وسيف قفقاسي يلتمع على وركه نتيجة أضواء الكهرباء. كان يعتمر قبعة من فراء الغنم رأسها أرجواني متصالب مع رباط دانتيل ذهبي. نظرت عيناه المائلتان من وجهٍ لا يتمتع بالطيبة، وكانت حدقتاه السوداوان وكأنهما تتقافزان فيهما بشكل مؤلم. تناثرت بثور الجدري في وجهه، وارتعش شارباه الأسودان المشذبان بشكل غير منتظم بعصبية.
- لا ليس يهوديا- أجاب العسكري من سلاح الفرسان.
عندها تقدم الرجل نحوي ونظر في عيني.
- أنت لست يهوديا – تحدث بلكنة أوكرانية واضحة بلغة غير صحيحة تمزج الكلمات الروسية والأوكرانية- ولكنك لست أفضل من اليهودي. وبمجرد أن تنتهي المعركة سأقدمك لمحاكمة حربية. سيتم إعدامك نتيجة عملك التخريبي. هذا أمر لا مهرب منه! – وأمر العسكري: أعط الطبيب حصانا.
وقفت وصمتُّ وكنت على ما يبدو شاحبا. ثم انساب كل شيء كحلم ضبابي. قال أحدهم من الزاوية بصوت حزين:
- الرحمة أيها السيد العقيد…
رأيت بشكل باهت لحية تهتز ومعطف عسكري ممزق. التمعت حوله وجوه العسكريين من سلاح الفرسان.
- هارب؟ لعلع صوت بات معروفا لدي بحشرجة وبحة- أنت منهم أيها الحشرة، حشرة.
لقد شاهدت كيف سحب العقيد وفمه يهتز مسدسا رشيقا وجهما من جعبته وضرب بقيضته وجه هذا الرجل الممزق. الذي انزوى وراح يغص بدمه سقط على ركبتيه. وانهمرت الدموع من عينيه…
فيما بعد اختفت المدينة الباردة البيضاء وامتدَّ على طول شاطئ دنيبر المتحجر الأسود الغامض طريق تحده الأشجار، وقد سار ممتدا على الطريق أول فوج خيالة متلوّيا كأفعى.
وفي نهاية الطابور لعلعت أحيانا عربة بعجلتين تابعة للقافلة. تأرجحت قمتان سوداوان وتأرجت قلنسوتان مدببتان باردتان. مضيت راكبا على سرج بارد، كنت أحرك نادرا أصابعي التي تؤلمني في الجزمة وكنت أتنفس في جوف القلنسوة التي باتت محاطة بالجليد المتراكم المنفوش، وأحسست كيف راحت تضغط حقيبتي المربوطة بقوس السرج على وركي. مضى الحارس الذي لا يفارقني على فرسه صامتا بجانبي. جمد كل شيء بداخلي كما جمدت قدماي. بين حين وآخر كنت أرفع رأسي نحو السماء أتأمل النجوم الكبيرة، وكان يرن في أذني الصوت الملحاح لذاك الهارب، ويغيب بين حين وآخر. لقد أمر العقيد ليشينكو بضريه بقضبان تنظيف البنادق وقد ضربوه في ذاك المنزل الفاخر.
ذاك المكان البعيد الأسود صامت الآن، وأنا فكرت بحزن شديد بأن البلاشفة قد هزموا على الأرجح. كان مصيري بلا أمل. مضينا إلى الأمام نحو بلدة سلابودكا حيث يجب علينا أن نقف هناك ونحمي الجسر الذي يمر عبر دنيبر. فإن هدأت المعارك ولم يعودوا بحاجة مباشرة إليّ فإن العقيد سيحاكمني. تحجر إحساسي مع هذه الأفكار ورحت أنظر بحزن ورقة إلى النجوم.
لم يكن صعبا تقدير نتيجة المحاكمة بتهمة عدم الرغبة بالحضور خلال ساعتين في ذاك الزمن العصيب. مصير وحشي لخريج دراسات عليا…
بعد ساعتين اختلف كل شيء كما في صندوق الدنيا. فقد وجدت نفسي في غرفة بيضاء ملساء. وقف فانوس فيها على طاولة خشبية قرب قطعة خبز وحقيبة طبية ممزقة. تباعدت ساقاي وبدأت أتدفأ فقد كانت تتراقص في الفرن الحديدي الأسود نار بنفسجية. من حين لآخر كان يأتي إليّ عسكريون من فوج سلاح الفرسان وكنت أعالجهم. معظمهم كان مصابا بالتجمد. كانوا يخلعون جزماتهم ويفكون اللفافات من فوق أقدامهم ويتلوّون قرب النار. عبقت الغرفة برائحة حامضة من العرق والتبغ المفروم واليود. أحيانا كنت أبقى وحيدا. حارسي تركني. “لعله هرب” – كنت نادرا أفتح الباب قليلا كنت أنظر فأرى الدرج مضاء بشمعة غارقة بالدهون، ووجوها وبنادق. كان البيت كله مليئا بالناس وكان الهرب صعبا جدا. كنت في وسط المقر. عدت من الباب إلى الطاولة وجلست منهكا ووضعت رأسي بين يدي ورحت أستمع بانتباه. على مدار الساعة كنت أسمع صرخة كل خمس دقائق تندى من تحت الأرضية. بت أعلم حتما ما الأمر. كانوا يضربون أحدا ما هناك بقضبان تنظيف البنادق. كان الصراخ يتحول أحيانا إلى زئير مدو، وأحيانا تضرعات وشكاوى حزينة تندى من تحت الأرض كما لو أن أحدا يتحدث بشكل حميمي مع صديقه، وأحيانا ينقطع بحدة كما لو أن سكينا قد قطعه.
- لماذا تعذبونهم هكذا؟ – سألت أحد جنود بيتليورا الذي كان يمد يده مرتجفا إلى النار. كانت ساقه العارية ممتدة فوق كرسي صغير بلا مسند، وأنا أدهن بالمرهم الأبيض قرحة هزيلة على إبهامه المزرق. أجاب:
– كُشف تنظيم في سلابودكا. معظم أفراده من الشيوعيين. والعقيد يستجوبهم.
صمتُّ. وعندما ذهب لفيت رأسي بالقلنسوة وبت أسمع بشكل خافت. أمضيت ربع ساعة وأنا على هذه الحال، وأخرجني من حالة النسيان التي كانت تطوِّفُ أمام عيني المغلقتين بلا انقطاع وجها مجدورا تحت ضفائر ذهبية، صوت حارسي:
- السيد العقيد يطلبك.
نهضت وعين الحارس تراقبني رفعت غطاء الرأس ومضيت في إثر العسكري. نزلنا على الدرج إلى الطابق السفلي ودخلت إلى الغرفة البيضاء. هنا رأيت العقيد ليشينكو على ضوء الفانوس.
كان عاريا حتى الخصر ويجلس متجمدا على كرسي بدون مسند ضاغطا على صدره قطعة من الشاش مغمسة بالدماء. وقف بالقرب منه صبي مرتبك وهو يدوس مطبطبا بالمهاميز.
- حقير – همس العقيد ثم التفت إلي: – إذن أيها الطبيب ضمدني. أيها الفتى أخرج- وجه أمره إلى الفتى-، وفي هذه اللحظة اندفع الباب بصوت مدو. كان الهدوء يعم المنزل. وفي هذه اللحظة اهتز الإطار في النافذة. نظر العقيد من النافذة السوداء وأنا أيضا. “المدفعية” – فكرت وتنفست بشكل متقطع وسألت:
– مم حدث ذلك؟
- بالمطواة – أجاب عابسا.
- من؟
- هذا ليس من شأنك – أجاب بازدراء بارد شرير وأضاف: – آخ أيها السيد الطبيب سيكون ذلك مزعجا لك.
خطر ببالي فجأة: “أن أحدهم لم يتحمل تعذيبه له وهجم عليه وجرحه. هكذا فقط يمكن أن يكون الأمر قد وقع…”
- انزع الشاش – قلت له وأنا أنحني على صدره المغطى بالشعر الأسود. ولكنه لم يلحق أن يبعد كتلة الشاش المغمسة بالدماء حتى سمع خلف الباب صوت متشرد صاخب يصرخ:
- قف، قف اللعنة إلى أين…
انفتح الباب واقتحمت المكان امرأة بشعر أشعث. كان وجهها جافا وبدا لي أنه كان مرحا. فقط بعد زمن طويل أدركت أن الهيجان الجامح يمكن التعبير عنه بأشكال غريبة جدا. حاولت اليد الرمادية الإمساك بالمرأة من المنديل ولكنه تمزق.
- اذهب أيها الفتى اذهب- أمره العقيد، واختفت اليد.
ثبتت المرأة ناظريها على العقيد نصف العاري وقالت بصوت جاف بلا دموع:
- لماذا أطلقتم النار على زوجي؟
- هكذا فدية للرب، أعدمناه -أجاب العقيد وقعر وجهه من الألم، وازدادت الكتلة احمرارا تحت أصابعه.
ابتسمتْ ابتسامة عريضة بحيث بت أنظر إلى عينيها دون انقطاع. لم أر مثل هاتين العينين. ومن ثم التفتت نحوي وقالت:
- وأنت يا دكتور!…
أدخلت إصبعها في ربطة الصليب الأحمر على الكم، وهزت رأسها.
- آي آي- تابعت وقد توقدت عيناها- آي، آي. كم أنت وغد… لقد درست في الجامعة ومع هذه الخرقة… تقف إلى جانبهم وتقوم بالتضميد؟! إنه في الشارع يقوم بضرب الناس… يضرب ثم يضرب. إلى أن يدفعه إلى الجنون… وأنت تضمده؟ …
أصبح كل شيء غائما أمام ناظري إلى حد الغثيان، وأحسست أن الأحداث الأكثر غرابة ورعبا قد بدأت في حياتي المشؤومة كدكتور.
- أنت تتحدثين معي؟ – سألتها وشعرت أنني أرتجف.
- معي؟…- قلدتني- نعم أتدري…
ولكنها لم ترغب في سماعي، التفتت إلى العقيد وبصقت في وجهه. فقفز وصاح: – أيها الفتيان
عندما دخلوا بسرعة قال لهم بحقد.
- اضربوها خمسا وعشرين جلدة
لم تقل شيئا، سحبوها من تحت إبطيها، أما العقيد فقد أغلق الباب ورمى الخطاف محكما إغلاق الباب، ثم انخفض نحو الكرسي الذي بدون مسند ورمى قطعة الشاش. نزف الدم من جرح غير كبير. مسح العقيد البصقة العالقة على شاربه الأيمن.
- المرأة؟ – سألتُ بصوت غريب تماما.
التهب الحقد في عينيه.
-نعم…- قال ذلك ونظر إلي نظرة شريرة. الآن أرى أي طائر أعطوني بديلا عن الطبيب…
يبدو أنني أطلقت إحدى الرصاصات في فمه… لأنني أذكر أنه تمايل على الكرسي وانسكب الدم من فمه ومن ثم تدفق سيلا على صدره وبطنه ثم انطفأت عيناه وتحولتا من اللون الأسود إلى اللون الحليبي، ثم هوى على الأرض. أتذكر أنني كنت أخشى أن أخطأ في حساب الطلقات وأطلقت الطلقة السابعة الأخيرة. وها هو موتي يقترب – فكرت وفاحت رائحة طيبة من دخان المسدس. وما إن تصدع الباب قليلا حتى ألقيت بنفسي من النافذة بعد أن حطمت زجاجها بقدمي. دللني القدر، ركضت في فناء الدار الصماء بقرب أكوام الحطب إلى الشارع الأسود. كان يمكن أن يقبضوا عليَّ حتما، ولكني انقذفت صدفة نحو هوة بين جدارين قريبين من بعضهما، وجلست هناك في ذاك الأخدود كما في مغارة، جلست على قطع الآجر لعدة ساعات. كانت الخيل تعدو بالقرب مني فقد سمعت ذلك. قادني الشارع الصغير إلى دنيبر وقد بحثوا طويلا عني في النهر. من خلال الشق رأيت نجمة ولا أدري لماذا ظننت أنها المريخ. بدا لي أنها انفجرت. كانت هذه أول قذيفة أغلق انفجارها النجمة. ثم استمرت اللعلعة والإطلاقات في سلابودكا وأنا أجلس في وهدة من الآجر، ورحت أفكر بصمت بالدرجة العلمية العليا، وفيما إذا كانت تلك المرأة قد ماتت أثناء الجلد بقضيب تنظيف البنادق. وعندما هدأ الوضع قليلا ولاح قليل من الضوء خرجت من مخبأي غير متحمل هذا العذاب فقد تجمدت قدماي. كأن سلابودكا قد ماتت فكل شيء صامت وشحبت النجوم. وعندما وصلت إلى الجسر بدا أنه لم يكن هناك أبدا العقيد ليشينكو ولا فوج الخيالة… الروث فقط وطريق مليئة بآثار الأقدام والحوافر.
وقطعت وحدي كل هذا الطريق إلى كييف ودخلت في المدينة عندما حل النهار تماما. قابلتني دورية غريبة يعتمر أفرادها قبعات لها أغطية على الآذان.
أوقوني وسألوا عن وثائقي.
قلت لهم:
- أنا الطبيب ياشفين. أهرب من عساكر بيتليورا. أين هم؟
قالوا لي:
- خرجوا في الليل. الآن اللجنة الثورية في كييف.
ورأيت أحد أفراد الدورية ينظر في عيني ثم لوح بيديه بشفقة وقال:
- إذهب إلى بيتك يا دكتور.
- وقد مضيت.
****
بعد فترة صمت سألت ياشفين:
- هل مات؟ هل قتلته أم جرحته وحسب؟
أجاب ياشفين وهو يبتسم ابتسامته الغريبة:
- اهدأ, لقد قتلت. ثق بخبرتي كجراح.
توضيح من المترجم
(1) فالكيريا أوبرا من فصلين للموسيقي والكاتب المسرحي ريتشارد فاغنر وحلاق أشبيليا أوبرا هولية لتشزارة ستربيني وموسيقا جواكينو روسيني نقلا عن مسرحية بيير بومارشية أواخر القرن الثامن عشر
(2) سيمون بيتليورا قائد اوكرايني من اليسار القومي الشوفيني