انزياح الجليد

 

انزياح الجليد-

قصة: مكسيم غوركي

ترجمة: أيمن أبو الشعر

 

كان سبعة من النجارين يقومون على عجل في النهر مقابل البلدة بإصلاح قاطعة الجليد – ركيزة الجسر التي تعترض الجليد عند تحركه، والتي خلع سكان الضاحية المحليون بعض أخشابها شتاء لاستخدامها كوقود.

تلكأ الربيع هذا العام ونظر آذار اليافع بعيون تشرين. كانت تظهر عند رابعة النهار – وهذا ليس كل يوم- شمس شتائية بيضاء في السماء الملبدة بالغيوم، ولا تلبث أن تغطس في الأصقاع الزرقاء بين السحب وأشعتها ترمق الأرض شذرا بتجهم.

حل يوم الجمعة من الأسبوع الأخير للصيام ” الجمعة الحزينة”، وكانت خيوط الماء تتجمد ليلا مشكلة صواعد زرقاء بطول نصف ذراع، وكان الجليد الذي تعرى من الثلج يميل إلى الزرقة أيضا كالغيوم الشتائية.

كان النجارون يعملون، وفي البلدة ترنمت الأجراس النحاسية بحزن ورجاء. وكانت رؤوس العمال ترتفع إلى الأعلى وتوغل عيونهم إطراقا في اللجة الرطبة الرمادية التي تحتضن المدينة، وغالبا ما كان الفأس المشرع للأعلى للانقضاض يتوقف ثانية في الهواء بتردد وكأنه وجل من أن يعكر صفو الرنين الوديع.

على امتداد النهر الواسع هنا وهناك تدلت فنن السرو معوجة دالة على الطريق، أما الفجوات والانهدامات في الجليد فقد ارتفعت إلى السطح كذراعي غريق يبسها التشنج.

ويفوح من جهة النهر ضجر مرهق حيث كان النهر مسطحا مغطى بفقاقيع بثورية، ومضطجعا بكآبة مشكلا طريقا مستقيما نحو منطقة العتمة من حيث تزفر بحزن وملالة ريح رطبة باردة.

كان أوسيب – رئيس الورشة- رجلا ضئيل الجسم نظيفا مهندما ذا لحية مشذبة فضية ملتفة بتجاعيدها الحلقية حول خديه الورديين ورقبته اللدنة، وهو ذائع الصيت وملفت للنظر في كل الأوقات والأمكنة.

يصيح أوسيب رئيس الورشة:  

  • تحركوا بنشاط يا أولاد الدجاج!

ثم يتوجه نحوي موحيا بسخرية:

  • أيها الناظر، علام تحشر أنفك الأفطس في السماء؟ إنني أسألك لأي عمل عينوك؟ أنت من طرف المتعهد، من طرف فاسيلي سيرغييتش؟ خليق بك أن تحثنا على العمل، اعمل بهمة، أناس سيئون، أنظر أية مأثرة أوكلت إليك، ولكنك تهمل عملك رامشا عينيك بسذاجة… يا ولدي، أيها الشجرة النخرة، لا يجب عليك أن تغض الطرف، انظر بكلتا عينيك، بل واصرخ طالما أرسلت إلينا كمراقب عمل… أطلق أوامرك يا بيضة الوقوق
  • ومن جديد عاد يصرخ بالشباب:
  • لا تتثاءبوا يا عفاريت المستنقع،[1] هل سننهي العمل اليوم أم لا؟
  • كان نفسه الكسول الأول في فريق العمل، إنه يتقن عمله بشكل جيد ويستطيع العمل بمهارة وإتقان، بذوق وحماس لكنه لا يحب أن يتعب نفسه، وهو يقص دائما أقاصيص سحرية مثيرة تماما في أوج العمل عندما ينغمس الشغيلة بعملهم بصمت وتركيز، وفجأة عندما تأسرهم رغبة الانغماس في العمل، وعندما يصنعون كل شيء بنجاح وسلاسة يبدأ أوسيب بصوت أشبه بخرير الماء.

إليكم يا أخوتي هذه الحادثة. وتمر دقيقتان أو ثلاث وكأن الرجال لا يسمعونه وهم منهمكون بعملهم يُنجِرون ويقشطون ويقطعون… لكن صوته الناعم ينساب وينعطف حالما مشبكا وشادا انتباه الناس إليه، ويضيق أوسيب عينيه الزرقاوين الصافيتين بوداعة ويروح ينظم حديثه كلمة إثر أخرى فاتلا بأصابعه خصلات لحيته ومتلمظا من الارتياح:

  • أمسك سمكة الشبوط هذه ووضعها في جعبته – ويتابع أوسيب قصته- من ثم طفق يمشي في الغابة وهو يفكر… (سيكون لدي حساء سمكي رائع) يصرخ صوت نسائي بحدة وفجأة دون أن يدري من أين «…يليسيا أ، يليسيا أ …”

أنزل ليونكا الطويل الناحل كالهيكل العظمي الساطور ووقف فاغرا فمه وهو مردوفي يلقب بالشعيبي.

يتابع أوسيب قصته:

ومن الجعبة يجيب صوت جهوري… (أنا هنا …) وفي هذه اللحظة انقذف غطاء الجعبة ووثبت السمكة ومضت متجهة إلى كوة النهر حيث كانت.

ويقول سانيافن العجوز- وهو سكير متجهم وجندي سابق، يعاني من ضيق التنفس كما أنه غير راض دائما طوال عمره، يقول بصوت متهدج كالشخير:

  • كيف سار الشبوط على الأرض طالما هو سمكة؟
  • وهل يمكن أن يتكلم الشبوط؟ يسأله أوسيب بمداعبة.

أما موكي بوديرن وهو رجل قاتم صامت لا يلفت النظر، له وجه كلبي تنفر عظام وجهه وفمه إلى الأمام، وترتد جبهته إلى الخلف فإنه يخرج من فمه ثلاث كلمات أثيرة لديه ببطء.

  • هذا صحيح تماما

في كل مرة يقص فيها أحدهم أمرا رهيبا أو رائعا، وسخا او شريرا يسارع موكي بوديرين بهذه العبارة

  • هذا صحيح تماما

كان كما لو أنه يضربني بصدري ثلاث مرات بقبضته الثقيلة.

توقف العمل تماما لأن ياكوف بويف ذا اللسان المعوج والكتف المائلة يريد أن يقص هو أيضا شيئا عن العالم السمكي، وها قد بدأ لكن أحدا لا يصدقه، ويضحك الجميع لوقع حديثه المجعوك، وهو يصلِّب ويشتم بغضب ملوحا بالإزميل في الهواء بالعا ريقه الحانق ويصرخ متضايقا من ضحك الجميع:

  • تتقبلون من شخص كل ما يقوله كذبا، وأنا رغم أنني أقول الحقيقة تقهقهون كالأجلاف، فلتطلق النار على أرواحكم.
  • ترك الجميع العمل وبدأوا بالضجيج ملوحين بأيديهم. عندها رفع أوسيب قبعته كاشفا رأسه الفضي المنمق، ورقعة صلعاء في قمة رأسه صارخا بصرامة:
  • – يكفي ! لقد ثرثرنا وارتحنا، حسنا هذا يكفي.

قال الجندي بصوت خشن وهو يبصق في راحتيه:

  • أنت الذي بدأت بذلك.
  • ثم يتوجه أوسيب نحوي:
  • أيها الناظر…

يبدو لي أنه يعيق الناس عن العمل بأقاصيصه لغاية في نفسه، ولكني لا أفهم أيريد إخفاء كسله بالثرثرة أم إعطاء العمال فرصة للراحة. إنه يرتجف ويداهن أمام المتعهد بتواضع ذليل مظهرا نفسه كغبي أمامه، وكل يوم سبت يستجدي كأسا من الشاي (يقصد الفودكا) لجماعة العمل.

عموما هو إنسان تعاوني، ولكن الكهول لا يحبونه ويعتبرونه مهرجا طفيليا، ويعاملونه بدون احترام، ويستمع الشباب إلى ثرثرته بشغف لكنهم لا ينظرون إليه بجدية، بل بشكوك واضحة وساخطة باستمرار.

قال لي ليونكا المردوفي– وهو شاب متعلم كنت أتحدث إليه من القلب أحيانا- قال ساخرا مجيبا عن سؤالي ذات يوم: أي نوع من الرجال أوسيب؟

  • لا أدري الكلب قد يعرف… لكنه ليس سيئا

ثم استتبع مفكرا:

– ميخائيلو الذي مات كان رجلا حادا ذكيا، ولذا تشاتم ذات مرة مع أوسيب، نعم وراح يقول له أتظن أنك رجل؟ لقد فطس العامل في أعماقك، والمسؤول لم يولد بعد – هكذا كان يقول- ستظل طوال العمر تثرثر كالمسطرين المنسي في الخيط… هذا بشكل عام وصف دقيق عنه…

  • ثم أضاف المردوفي مفكرا بارتباك:
  • ولكنه عموما إنسان طيب…

الواقع أنني في وضع لا أحسد عليه بين هؤلاء الناس، شاب في الخامسة عشر من العمر، وعُينت ناظرا لتسجيل المواد المستهلكة ومراقبة النجارين لكيلا يسرقوا المسامير ولكيلا يبيعوا الدفوف الخشبية إلى حانة البلدة. إنهم يسرقون المسامير ولا يخجلون من وجودي هنا، والجميع يظهرون لي باستمرار بأنني شخص غير مرغوب فيه بينهم في العمل بل إنسان زائد، وإذا تسنى لأحد منهم أن يصدمني بلوح خشبي أو أن يسبب لي بطريقة أخرى إزعاجا فإنهم لا يتورعون عن القيام بذلك ببراعة.

محرج وضعي معهم ومخجل، أريد أن أقول لهم شيئا ما …بحيث يعم الوئام بيننا، لكنني لا أجد الكلمات اللازمة ويزيدني غما إحساسي الجهم بأنني غير ضروري هنا.

في كل مرة عندما أسجل في الدفتر كمية المواد المأخوذة يقترب مني أوسيب بهدوء ويسأل:

-أرسمت؟  – يقصد سجلت- أرني…

ينظر إلى السجل مضيقا عينيه ويتحدث بشكل غير محدد:

  • تكتب بخط ناعم…

إنه يستطيع القراءة فقط عندما تكون الكتابة بالحروف الطباعية، ويكتب كذلك بحروف طباعية من النوع الكنسي، أما الكتابة اليدوية متصلة الحروف فكانت غير مفهومة لديه.

  • ما هي هذه الكلمة الشبيهة بالطست؟
  • مواد
  • مواد! وهذه كالأنشوطة… وما هو المكتوب في هذا السطر؟
  • خمسة ألواح سميكة بطول تسعة أذرع.
  • ستة…
  • خمسة
  • كيف خمسة! الجندي قطع واحدا منها…
  • هذا ليس جيدا، لم يكن من الضروري أن يفعل ذلك.
  • كيف ليس ضروريا، لقد هرَّب نصف اللوح إلى الحانة.

 نظر إلي بعينين زرقاوين كالزهور البرية مخفيا ضحكة مرحة فيهما، وراح يلف فتائل لحيته بإصبعه متحدثا دون أدنى خجل.

  • ارسم (يقصد سجل) ستة كما يجب… تمحص يا بيضة الوقوق، برد ووحل، والعمل قاس يجب مداراة مشاعر الناس وتدفئة أرواحهم بقليل من النبيذ، لا تكن صارما فإنك لن ترشي الله بهذه الصرامة.

تحدث طويلا بوداعة ومخاتلة، وتناثرت كلماته عليّ كالنشارة، ورحت أريه بصمت كيف أصحح الرقم في السجل وكأنما عميت بصيرتي.

  • هكذا… صحيح تماما، وحتى الرقم أكثر جمالا، كزوجة تاجر تجلس بدينة وديعة…

كنت ألمح كيف يتحدث للنجارين بانتصار عن نجاحه معي، وأعلم أنهم جميعهم سيزدرونني نتيجة تنازلي. قلبي ذو الخامسة عشرة يبكي من الإساءة، وفي رأسي تدور أفكار مملة رمادية:

-” كل هذا غريب وساذج، لماذا هو واثق أنني لن أقوم بتصحيح الرقم ستة إلى خمسة من جديد، وأقول للمتعهد أنهم سكروا بثمن اللوح المسروق؟”.

ذات يوم سرقوا قرابة ثماني مئة غرام من المسامير الكبيرة وعددا من الزردات الحديدية.

  • اسمع- نبهت أوسيب- هذا سأسجله.
  • سجل – قال موافقا وهو يتلاعب بحاجبيه الشائبين- في الواقع ما هذا التساهل؟ هيا ارسم ” دوِّن” ذلك..يا لهم من ملاعين.

ثم صرخ بالشباب:

إيه أيها الزعران المسامير والزردات سجلت غرامة عليكم…

  • سأل الجندي بتجهم:
  • لماذا؟
  • ستغرمون بثمنها- شرح أوسيب بهدوء-

تذمر النجارون وهم يرمقونني بازدراء، لم أكن واثقا أنني سأفعل ما هددت به، ولكن إذا فعلت فذاك سيكون أفضل.

قلت لأوسيب:

  • سأترك العمل ولتذهبوا جميعا إلى الشيطان، على هذا المنوال سأغدو لصا معكم.

فكر أوسيب ومسح ذقنه ثم جلس بالقرب مني لاصقا كتفه بي وقال بهدوء:

  • هذا صحيح
  • ماذا؟
  • يجب أن تغادر العمل! أي مراقب أنت؟ أي ناظر؟ من ضروريات هذا العمل أن تعرف كم لديك من المواد، العمل يحتاج إلى نفسية كلاب الحراسة لكي تحافظ على المواد كما تحافظ على جلدك ما ورثته أمك لك، أما أنت فصغير كجرو على هذا العمل. أنت لا تشعر ماذا تتطلب هذه الموجودات، ولو أسرَّ أحدهم إلى فاسيلي سيرغييتش كيف وبماذا تسمح لنا للطمك على رقبتك مباشرة، أقول لك ذلك بجدية كاملة، ذاك أنك تدفعه إلى الخسارة وليس إلى الربح، وعلى الإنسان أن يخدم سيد العمل بما يجلب له الربح- أفهمت؟

لف سيجارة وقدمها لي قائلا:

  • دخن سيصبح الأمر أسهل في دماغك. لو لم يكن لديك أيها المولع بالتسجيل هذا الأسلوب العدواني والفضولي لقلت لك اذهب إلى الرهبنة، لكن شخصيتك لا تتناسب وهذا الأمر، نموذج فظ أنت، أنت جلف في روحك، حتى وإن قدر لك ذلك فإنك لن تكون مَرِنا مع رئيس الدير ذاته، مع إنسان له مثل هذه الشخصية لا يمكن فعل أي شيء، والراهب شبيه بالغراب لا يهمه معرفة أي حَبٍّ يلتهم، جذور المسائل لا تهمه لأنه يشبع بالحَبِّ وحده وليس بالجذور تحت التراب… إنني أقول لك كل ذلك من القلب لأنني أرى أنك إنسان غريب عن أمورنا، أنت يا بيضة الوقوق وقعت في غير عشك.

رفع قبعته وهي عادته عندما يريد أن يقول شيئا هاما بالذات نظر إلى السماء الرمادية، واستتبع بصوت عال، ولكن باستكانة:

  • نحن لصوص أمام الله، ولن يكون لنا شفيع عنده.
  • وافق موكي بوديرن ملحنا صوته كالمزمار:
  • هذا صحيح تماما.

منذ ذلك الحين صار أوسيب ذو الشعر الرمادي الأجعد والعينين الصافيتين والنفس المعتمة أثيرا لدي… وتوالدت بيننا علاقة ودية، لكني لاحظت أن علاقته الطيبة معي تربكه في أمر ما، فهو لا ينظر إلي أمام الاخرين، حدقتاه الزرقاوان الفارغتان تركضان وتهتزان بسرعة وشفتاه تنعوجان استعدادا للكذب، وأنا أحس عندها بعدم الارتياح حين يتحدث معي:

  • إيه، انظر بكلتا عينيك، كن جديرا بثمن الخبز الذي تحصل عليه، ها هو الجندي يلتهم المسامير بنهم.

  ولكنه عندما نخلو واحدنا إلى الآخر يتحدث إليَّ بوداعة وأسلوب إرشادي، وتلتمع في عينيه مداعبة ذكية وهما تنظران بأشعتهما الزرقاء مباشرة في عيني، كلمات هذا الرجل أسمعها بانتباه كأنها موثقة موزونة في الروح بصدق رغم أنه يتحدث أحيانا بشكل غريب.

 قلت له ذات يوم:

  • يجب أن يصبح المرء إنسانا جيدا
  • طبعا – قال مُبديا موافقته إلا أنه أخفى عينيه ساخرا وقال بهدوء:
  • ولكن كيف نفهم المقصود بالإنسان الجيد؟ أنا أعتقد أن الناس يبصقون على الجودة والورع اللذين تعنيهما، إذا كان هذا الورع لا يعطيهم فائدة… لا، أولي هؤلاء الناس اهتماما وامنح كل قلب ما يكفيه من الطيبة، دللهم قليلا، أسعدهم ربما يعود عليك ذلك بالخير في وقت ما، طبعا لا خلاف شيء مريح أن تنظر في المرآة لترى سحنتك كإنسان جيد، ولكن كما أرى لا فرق بالنسبة للناس إن كنت محتالا أم قديسا، يهمهم أن تكون مشاعرك قلبية تجاههم وطيبا معهم، هذا ما يحتاج إليه الجميع.

إنني أتمحص الناس بانتباه كبير، وأعتقد أن على كل إنسان أن يدفعني – وهذا يحدث- إلى استيعاب هذه الحياة المعقدة غير المفهومة، الحياة المزعجة، ودائما يواجهني هذا السؤال المتوتر القلق:

  • “ما الذي تعنيه الروح الإنسانية؟”

يخيل إليّ أن بعض النفوس “الأرواح” مصاغة ككرات نحاسية مثبتة بقوة في الصدر، وهي تعكس ما يمكن أن يمسها فقط، تعكس كل شيء من خلال نظرتها الخاصة، تعكس بشكل مشوه غير صحيح، بشكل مضجر، وهناك نفوس ملساء كالمرآة، وهذه النفوس على أية حال كأنها غير موجودة.

 أعتقد أن غالبية النفوس البشرية دون مظهر محدد كالغيوم مشوبة بألوان عديدة، تماما كحجر كريم خداع اللون، هذه النفوس تتغير بليونة وفق اللون الذي يمسها.

لا أدري ولا أستطيع أن أفهم أي روح لدى أوسيب ذي النفسية الطيبة التي لا يجب تقبلها بالعقل.

أفكر بهذه الأمور متأملا خلف النهر حيث البلدة الملصوقة على الجبل والتي تغني أجراسها جميعها في أبراجها المرتفعة إلى السماء كالأسطوانات البيضاء في الأرغن الذي أحبه في الكنيسة البولونية. وبدت صلبان الكنائس كالنجوم الباهتة المنجذبة نحو السماء الرمادية تهتز وتلتمع متشوقة كأنها شغوفة بأن تنعتق إلى السماء الصافية عبر ستار الغيوم الرمادي الذي مزقته الرياح. وتتابع الغيوم ركضها وهي تمسح بظلالها الألوان المبرقشة للمدينة، وفي كل مرة عندما تتسلل من التجاويف العميقة الزرقاء أشعة الشمس راشقة المدينة بألوان زاهية تعدو مسرعة إثر ذلك مباشرة لتغلف الشمس وتصبح ظلالها الرطبة أكثر ثقلا، ويبهت كل شيء كأنما شاكست بالبهجة لدقيقة عابرة وحسب.

بيوت المدينة بدت كأكوام الثلج المتسخ، والأرض من تحتها سوداء عارية، وأشجار الحدائق كالتلال الترابية، وبريق زجاج النوافذ الباهت على جدران الأبنية الرمادية يذكر بالشتاء، وحول المكان فوق كل شيء ينفرش حزن الربيع الشمالي الشاحب الآسر.

شرع ميشوك دياتلوف – وهو شاب يافع أبرص أشرم الشفة عريض المنكبين وغليظ الطباع، شرع بالغناء:

جاءت إليه صباحا

لكنه كان قد مات في الليلة ذاتها

صاح الجندي به:

  • إيه أنت يا ابن الزانية هل نسيت في أي يوم نحن؟
  • ينزعج بويف أيضا ويلوح بقبضته لدياتلوف قائلا:
  • أيتها الروح الكلبية!

أما أوسيب فيقول لبودرين وهو جالس في قمة قاطعة الجليد:

  • الناس هنا أبناء غابة، يعمرون طويلا، أقوياء عركتهم الحياة – ثم يرصد المنحدر وقد ضيق عينيه وهو يتابع حديثه- وجِّهْ العارضة قليلا نحو اليسار… وإذا قلنا ببساطة أنه شعب همجي… ذات يوم زارنا رئيس الأديرة، أحاط به الناس وركعوا على ركبهم يتشكون: – أعذنا يا قداسة رئيس الأديرة من الذئاب، انصرنا عليها…آه كيف صرخ بهم رئيس الأديرة: تقولون أنكم مسيحيون أرثوذكسيون، سأسوقكم إلى محكمة لا ترحم… لقد انزعج إلى حد كبير حتى أنه بصق في وجوههم. كان عجوزا بوجه طيب وعينين دامعتين…

على بعد يزيد عن عشرين ساجِنا[2] من قاطعة الجليد انهمك النوتيون والمشردون بإزالة الجليد حول القاطرات المائية، إنهم يضربون بالمُخول مقعقعين وهم يهشمون القشرة الرمادية فوق النهر، ولاحت في الهواء عصوات خطافة نحيلة دافعة قطع الجليد المبتورة إلى العمق، المياه تنساب، ومن الشاطئ يتواصل إلى مسامعنا خرير الجداول، بينما تظهر المساحيجُ هنا صريفَها، وتئز المناشير وتدق السواطير غارسة الزردات الحديدية بالدرفة الصفراء المقشوطة بشكل ناعم، ومع كل هذه الأصوات يمتزج رنين الأجراس المتضائل نتيجة بعد المسافة بشكل يثير الروح. يبدو لي أن هذا اليوم الرمادي يبتهل بكل ما فيه إلى الربيع داعيا إياه إلى الأرض التي ذاب الجليد عنها وبدت عارية ذليلة.

شخص ما يصرخ بصوت مخنوق:

-نادِ الألماني نحن هنا قلة

ومن الشاطئ يجيبون:

-أين هو؟

– في الحانة… انظر هناك

تعوم الأصوات فوق الهواء الرطب بصعوبة، وتنساب فوق النهر الواسع بكآبة.

ما زالوا يعملون بصبر وحرارة، ولكن كيفما اتفق ودونما اتقان. الجميع يرغبون بالذهاب إلى المدينة، إلى الحمام، ثم إلى الكنيسة، وقد اهتاج بشكل خاص ساشوك دياتلوف وهو أيضا كأخيه أبيض الشعر أجعده كأنما غلي بمسحوق الغسيل. لكنه متناسق الجسم لبق المعشر، ومن حين لآخر يحدث أخاه ناظرا نحو النهر بعكس اتجاه تياره:

  • أتسمع … كأنها قرقعة! تصدع الجليد؟

حدثت في الليل بعض الانهدامات الجليدية، ومنذ صباح البارحة يمنع خفر الشواطئ النهرية الخيول من المرور فوق جليد النهر، بينما يمشي العابرون بشكل نادر فوق ألواح الجسر كحبات العقد، كما كان مسموعا كيف تتقوس العوارض الخشبية تحت أقدامهم لاطمة الماء بتلذذ.

قال ميشوك رامشا بأهدابه البيضاء:

  • الجليد يتصدع

فيقاطعه أوسيب راصدا النهر وكفه تظلل عينيه:

  • إنها النشارة في جمجمتك تجف محدثة هذه القرقعة، اعمل وتعلم يا ابن السحرة، أيها الناظر، حثهم على العمل فيم أنت غاطس في دفترك؟

كان قد تبقى ساعتان لانتهاء العمل، وقد تغطت حدبة قاطعة الجليد بالألواح الصفراء كالزبدة، تبقى أن تركب الوصلات الحديدية السميكة وقد جوف بويف وسانيافن مكانا لها، ولكنهما لم يتقنا ذلك حيث كانت التجاويف ضيقة ولذا لم تدخل الوصلات في الخشب. صرخ أوسيب ناقرا على راسه من فوق قبعته براحة كفه:

  • أيها المردوفي الأعمى أهكذا يكون العمل؟

فجأة لعلع صوت من على الشاطئ بفرح:

  • تحرك الجليد آ، آ آ!

وما إن غابت اللعلعة حتى انساب خرير هادئ فوق النهر واهتزت أوكرات الأوتاد السنديانية كما لو أنها تود أن تمسك بشيء ما في الهواء، وراح النوتيون والمشردون يلوحون بالمُخل ويتسلقون السلم المصنوع من الحبال بضوضاء فوق أطراف القاطرات المائية.

كان شيئا عجيبا رؤية كيف انبثق الناس حول النهر وكأنهم قفزوا من تحت الجليد، ها هم الآن يتحركون إلى الأمام والوراء كالغربان التي أجفلتها طلقة نارية، تقافزوا وركضوا حاملين الأعمدة والألواح قذفوا بها ثم استعادوها من جديد.

صاح أوسيب:

  • اجمعوا الأدوات بحيوية يا أولاد الزانية، هيا إلى الشاطئ.

صاح ساشوك بجزع:

  • هكذا سنقضي عيد ميلاد السيد المسيح.

خيل إلينا أن النهر ظل دون حراك، ولكن البلدة اهتزت أمام أنظارنا، تمايلت وعامت مع الجبل الذي يضطجع تحتها سابحة عكس اتجاه تيار النهر بهدوء، وارتجت جلاميد الرمل أمامنا على بعد ما يزيد عن عشرة أمتار عنا وانسابت مبتعدة.

صرخ أوسيب دافعا إياي:

  • اركض… فيم أنت منشده فاغرا فمك.

إحساس مرعب بالخطر فطر قلبي، وانقذفت قدماي وحدهما في الهواء لشعوري بأن الجليد ينسحب من تحتهما حاملتين جسدي إلى الرمل حيث نمت أعواد الصفصاف الملداء العارية والمتكسرة من جراء العواصف الشتائية الثلجية… هناك حيث اضطجع كل من بويف والجندي، بوردين والإخوان دياتلوف أما الماردوفي فراح يركض بجانبي وشرع يشتم بغضب في حين خطا أوسيب خلفي صارخا:

  • لا تنبح أيها الشُعيبي…
  • ولكن كيف أيها العم أوسيب
  • هكذا لم يتغير أي شيء.
  • سنعلق هنا ليومين على الأقل
  • وسنجلس هنا.
  • والعيد؟
  • سيعيَّدون من دونك هذا العام…

قال الجندي وهو جالس على الأرض يدخن غليونه بخرخرته المعهودة:

  • جبنتم… عشرين مترا فقط يبتعد الشاطئ عنا، وأنتم هرولتم لا تلون على شيء.

قال موكي:

  • أنت أول الهاربين

لكن الجندي تابع:

  • ومم خفتم، المسيح ابن الرب ومع ذلك مات
  • ولكن المسيح نهض بعد ذلك- بربر المردوفي بانزعاج

صرخ به بويف:

  • اصمت أنت… أيها الجرو، هل مهمتك أن تناقش في هذا الأمر، المسيح قام… اليوم الجمعة وليس الأحد.

توهجت شمس آذار من هوة زرقاء بين الغيوم والتمع الجليد ساخرا منا.

وضع أوسيب يده على جبينه راصدا النهر المنكشف وقال:

  • توقف الجليد ولكن ذلك لن يدوم طويلا.

قال ساشوك بجزع:

  • لقد انقطعنا عن العيد

راح المردوفي ذو الوجه المعتم الحليق بلا لحية وشاربين، والمضلّع كفحل البطاطس غير المقشر، راح يغضن وجهه بغضب ويرمش بعيونه وهو يبربر

  • نجلس هنا لا خبز ولا مال… الناس سعداء أما نحن فنخدم البخلاء كما لو أننا كلاب.

ودون أن يحول أوسيب نظره عن النهر راح يتحدث وكأنه عبر الحلم وقد بدا مفكرا بشيء آخر تماما:

  • الخدمة هنا لا نقدمها  للبخلاء وإنما للضرورة الاضطرارية، نحن ثيران قطع الجليد. من أجل ماذا؟ نحفظ القاطرات المائية من الجليد وما عداها. الجليد أحمق يجثم على قافلة السفن والوداع أيتها البضائع…
  • أبصق على هذه البضائع… أهي أملاكنا؟
  • تتحدث مع غبي…
  • كان أولى لو أصلحناها بوقت مبكر

لوى الجندي وجهه مكشرا وصرخ:

  • صه أيها المردوفي الدنيء
  • تحرك الجليد من جديد_ كرر أوسيب ممم… نعم…

تصايح البحارة فوق السفن، ومن النهر فاح برد وهدوء شرس متربص. تبدلت نقوش العلامات المنتشرة فوق الجليد، وكل شيء بدا متغيرا مليئا بترقب متوتر.

سأل أحد الشباب اليافعين بهدوء ووجل:

-ماذا نفعل أيها العم أوسيب؟

– ماذا في الأمر؟ – أجاب بتناعس.

-هكذا سنجلس هنا؟

– تحدث بويف بخنة متهكما بعد أن صمت طويلا:

– حرمكم الله من عيده المقدس أليس كذلك أيها الكسالى؟

ودعم الجندي رفيقه مادا يده بالغليون نحو النهر ودمدم مبتسما:

  • بودكم الذهاب إلى المدينة؟ اذهبوا… والجليد سيذهب معكم وربما ستغرقون، أو سيأخذونكم إلى الشرطة، هذا هو المناسب في العيد.

قال موكي:

-هذا صحيح تماما

اختبأت الشمس وأعتم النهر وأصبحت المدينة تُرى بوضوح ونظر الشباب نحوها صامتين ممعنين بعيون غاضبة وحزينة، شعرت بالملل والغم، هذا الشعور يرافق الإنسان عادة عندما يرى أن الجميع من حوله يفكرون بأشكال مختلفة، ولا توجد أية أمنية موحدة تستطيع أن تجمع الناس في قوة متكاملة عنيدة. كان بودي أن أغادرهم، وأن أخطو على الجليد وحيدا.

وقف أوسيب على قدميه، كان كأنه قد صحا فجأة، رفع قبعته وصلب باتجاه المدينة وقال ببساطة وهدوء وبلهجة المسيطر:

  • هيا يا شباب فلنذهب وليكن الله معنا.

استوضح ساشوك ناهضا:

  • إلى المدينة؟

قال الجندي بوثوق دون أن يتحرك:

سنغرق

  • إذن ابق أنت هنا

 ثم صاح ناظرا إلى الجميع:

  • – تحركوا هيا بنشاط!

نهض الجميع، تحلقوا جماعة ورتب بويف أدوات العمل في الجعبة وقال برنة خاصة:

  • قيل لنذهب، فلنذهب إذن، ومن وجه الأمر هو المسؤول عنه

بدا أوسيب أكثر شبابا وقوة، وبهتت تعابير المداعبة في وجهه الوردي، وأعتمت عيناه وهو ينظر بحزم ومسؤولية، واختفت حتى مشيته الكسولة المهترئة، وصار يخطو بثقة وكبرياء:

  • فليأخذ كل واحد منكم دفا خشبيا وليحمله متصالبا مع قامته، وإذا حدث شيء -لا سمح الله- مثلا إن هوى شخص ما فستستند نهايات الدف الخشبي على الجليد… أيوجد حبل؟ يا شعيبي أعطني الشاقول، هل أنتم جاهزون؟ حسنا أنا في المقدمة وليكن خلفي – ثم سأل- من هو أثقل من الجميع؟ – وتابع- أنت يا جندي، وبعده موكي، ثم المردوفي وبويف ساشوك، أما مكسيميتش أخفنا وزنا فسيكون في المؤخرة، ارفعوا القبعات، صلبوا للعذراء، وها هي أمنا الشمس تستقبلنا

عرى الجميع رؤوسهم الشائبة والشقراء بشكل جماعي، ورمقتهم الشمس من خلال غيمة بيضاء نحيلة ثم اختفت كأنها ترغب ألا تؤمّلهم.

قال أوسيب بصوت جديد جاف:

  • فلنذهب، ليكن الله معنا، انظروا إلى أقدامي، لا تتدافعوا خلف ظهري، حافظوا على مسافة ما يقرب من مترين بين بعضكم بعضا، وكلما كانت المسافة أكبر كان ذلك أفضل، لنذهب يا أولاد!

انتقل أوسيب بحذر وحنان بخطوات وئيدة إلى الجليد مدخلا قبعته تحت سترته ممسكا الشاقول في يده، وفي هذه الأثناء توالد على الشاطئ خلف ظهره صراخ يائس:

  • إلى أين أيها الخراف مااا…

ولكن أوسيب أمر بقوة ورنين:

  • اخطوا ولا تلتفتوا
  • إلى الوراء أيها الشياطين
  • إلى الأمام أيها الشبان الله لن ينسانا، أما من يصيح فهو لن يدعونا ليضيفنا في العيد عنده.

 زعقت صافرة الشرطة، ودمدم الجندي بصوت عال:

  • هيا يا أبطال، يا أبناء ال… دبرتم أمركم، الآن ستقدم مذكرة إلى الشاطئ الآخر في مركز الشرطة…إذا لم نغرق فسنعطى للبق في مخفر الشرطة… أنا لا آخذ على عاتقي هذه المسؤولية.

ساق أوسيب الجماعة خلفه وكأنهم مشبكون بالحبل:

  • انظروا تحت أقدامكم بانتباه أكثر

سرنا مواربة عكس اتجاه التيار، وكان موقعي في المؤخرة يتيح لي جيدا أن أرى كيف كان أوسيب الململم الصغير الحجم برأسه الأبيض كرأس الأرنب يسحب أقدامه بحذق على الجليد وكأنه لا يرفع قدميه تقريبا. امتدت أجسامنا الستة المعتمة المتمايلة خلفه كسرب البط، كأننا مسحوبون مربوطون بخيط غير مرئي، وأحيانا كانت تظهر الظلال بالقرب من هذه الأجساد وتضطجع تحت الأقدام وتنبسط على الجليد، وكانت الرؤوس متدلية كما لو أن الجماعة تهبط من الجبل وتخشى الانزلاق متعثرة.

ازداد الصياح من الخلف أعلى فأعلى، يبدو أن الناس تجمعوا في جمهرة كبيرة، ولم يعد بالإمكان سماع الكلمات بوضوح وبتنا نسمع فقط دمدمة غير محببة.

هذا المسير الحذر أصبح بالنسبة لي عملا آليا مملا، لقد تعودت أن أسير بسرعة، والآن أتهادى في مزاج نصف حالم كما لو أن الروح بدأت تتلاشى حيث يكف المرء عن التفكير بنفسه ويخرج من ذاته، وفي الوقت نفسه ترى كل شيء واضحا، وتسمع كل شيء صافيا بشكل خاص.    

تحت الأقدام يمتد جليد مزرق رصاصي رمادي متآكل بالمياه يعمي بريقه المشع العيون، وفي بعض الأماكن انفقع الجليد محدودبا، وتقطَّع من جراء التحركات إلى قطع صغيرة، واضطجع كتلا منخورة كحجر الخفان، وحادة كزجاج مهشم، وتبسمت الانهدامات الزرقاء ببرود ملتقطة الأقدام. وكانت النعال الواسعة تلطم السطح.

وتتواصل أصوات بويف والجندي التي تدفع للملل كأنهما مزماران في فم واحد:

  • أنا لا آخذ على عاتقي هذه المسؤولية
  • طبعا وأنا كذلك
  • يباح لشخص أن يقود وربما يكون غيره أذكى منه ألف مرة
  • وهل يعيش الناس عندنا بعقولهم؟ عندنا الجميع يعيشون بصراخ حناجرهم.

يشبك أوسيب أطراف سترته في حزامه فتبدو رجلاه في بنطال عسكري من الجوخ تخطوان بليونة وسهولة تماما كنابضين، كان يسير كما لو أن أحدا أمامه يدور ويدور وكأن هذا الشخص يبدو له وحده، يدور ويعرقل السير بشكل مستقيم وبطريق قصيرة وكأنما أوسيب يناضل ضد هذا الشخص الوهمي محاولا تجنبه والإفلات منه، يتنحى يمنة ويسرة ويلتفت أحيانا بغتة إلى الوراء، وهكذا يرقص طوال الوقت راسما دوائر ومنحنيات نصف دائرية على الجليد. كان صوته يرن بحدة وترنيم، وكان مريحا جدا سماع امتزاج صوته برنين الأجراس.

عبرنا إلى منتصف المسافة الجليدية والتي يقدر طولها الكامل بأربعمئة ساجن عندما هدرت من أعلى النهر قعقعة مشؤومة، وفي هذه اللحظة انسحب الجليد من تحت أقدامي، تمايلت ولم أستطع الوقوف فسقطت على ركبتي مندهشا وما إن نظرت إلى عكس تيار النهر حتى أمسك الخوف بعنقي خاطفا صوتي ومعتما رؤيتي. قشرة الجليد الرمادية دبت فيها الروح وتحدبت فجأة، وعلى السطح الأملس ارتفعت زوايا حادة وتهادت في الهواء خشخشة مرعبة كما لو أن أحدا قد خطا بقدم ثقيلة فوق زجاج محطم.

تدفق مسيل الماء بصفير هادئ بالقرب مني، وقعقعت شجرة زاعقة كأنما انبعثت فيها الحياة. صرخ الناس وتحلقوا مجتمعين، ورن صوت أوسيب ممتزجا بالهدير الهادئ المرعب:

  • تفرقوا، تباعدوا…ابقوا متباعدين يا أولاد الرب، تدفق الماء… لا بأس تفاءلوا أيها الشباب…تدفق الماء آآآ

صار يتقافز وكأنما انهالت عليه الزنابير ماسكا الشاقول الذي بطول ذراع كبندقية طاعنا به الهواء من حوله كأنما يقاتل أحدا ما، وبجانبه سبحت المدينة مرتعشة، راح الجليد يتهشم تحتي، وتقصّف قطعا صغيرة وتسرب الماء إلى قدمي. نهضت قاذفا نفسي كالأعمى نحو أوسيب الذي صاح ملوحا بالشاقول:

  • إلى أين قف أيها الشيطان

بدا لي أن هذا ليس أوسيب ، فقد أصبح وجهه فتيا بشكل غريب، وانمحى منه كل شيء كنت أعرفه، عيناه الزرقاوان أصبحتا رماديتين ، وكأنه نما نصف ذراع، صاح فاتحا فمه باتساع عنيد كمسمار جديد، جامعا قدميه إلى بعضهما مشرئبا إلى الأعلى:

  • لا تدوروا… لا تتجمعوا وإلا كسرت جماجمكم، -ومرة أخرى لوح بالشاقول نحوي-
  • أنت إلى أين؟

قلت بهدوء:

  • سنغرق
  • صه… اسكت

ثم أضاف بهدوء أكثر وبرقة وهو يتفحصني

  • الغرق، حتى الغبي يستطيع أن يغرق، ولكن أنت! هيا خلص نفسك، حاول أن تخرج من الورطة.

ومن جديد راح يلعلع ويصيح بكلمات مشجعة شامخا برأسه نافخا صدره إلى الأمام.

الجليد تفتت وخشخش متكسرا إلى قطع على مهل وحملنا ببطء بالقرب من المدينة، قوة هائلة صحت في الأرض وراحت تمط الشاطئ، قسم من الشاطئ بدا ثابتا ومنخفضا عنا، والقسم الآخر المقابل ينسحب بهدوء عكس التيار وقريبا تنفطر الأرض.

هذه الحركة البطيئة المرعبة حرمتنا من الإحساس بالعلاقة مع الأرض، كل شيء يبتعد ضاغطا على صدري بغم ويصيب قدمي بالضعف. غيمات حمراوات سبحت في السماء بهدوء، واحمرت أطراف الجليد عاكسة الغيمات كأنها تجمع قواها لتقبض علي، ونبضت الأرض بالحياة للولادة الربيعية، وراحت تتمطى متنفسة الصعداء بصدرها الأشعث الرطب، وتقعقعت عظامها وبدا النهر في لحمها المكتنز كأنه وريد ممتلئ بدم لزج متدفق.  

اضطهدني احساسي المهين بضآلتي وضعفي وسط هذه الحركة الواثقة الهادئة للجة الهائلة، وفي روحي عبر دفوق الغم يتنامى ويتأجج تطلع إنساني جريء بأن أمد يدي وأضعها بحالة مسيطرة على الجبل فوق الشاطئ وأن أقول:

 ” قف إلى أن آتي إليك”.

الأجراس النحاسية الهدارة تتنفس بحزن، ولكني أتذكر أنها بعد يوم واحد ستدوي في الليل بمرح مبشرة بقيام المسيح.

وددت لو أننا نحيا إلى هذا الرنين!…

سبعة أجساد معتمة ترتج في عيوني متقافزة فوق الجليد تلوح بالدفوف الخشبية كأنها تجدف في الهواء، وأمامهم كاللبلاب يدور العجوز شبيها بينقولاي صانع المعجزات ودون توقف يرن بصوته المسيطر:

  • تيقظوا!…

غدا النهر أحرش وارتعش ظهره المسنن، وتلون تحت الأقدام مذكرا بالحوت في الحكاية الخرافية “الحصان الأحدب”[3] وكثيرا ما تطفح من تحت حراشف الجليد جثة النهر المائعة مياه باردة عكرة تلعق ببخل أقدام الناس.

عبرت الجماعة على عارضة خشبية ضيقة فوق مجرى عميق، واستدعت دفقات الماء الهادئة الهاتفة تخيلا عن هوة بغير قرار، وعن سقوط الجسم طويلا بلا نهاية في هذه الهوة الضيقة الباردة، وكيف تنطفئ العيون بها ويتجمد القلب، وارتادت مخيلتي صورة الغرقى والجماجم المتشنجة، والوجوه المنتفخة بعيون جاحظة زجاجية، والأصابع في الأيادي المشدودة المنتفخة، والجلد المنسلخ عن راحات الأكف كخرق بالية.

أول من سقط تحت الجليد هو موكي بودرين. كان يمشي أمام المردوفي كالعادة صامتا غائب الوعي، سار أهدأ من الجميع، وفجأة اختفى كأنما اقتلعوه من قدميه وتبقى رأسه فقط فوق الجليد ويداه متشبثتان باللوح الخشبي.

صرخ أوسيب:

  • ساعده، لا تتجمعوا كلكم… فليساعده واحد أو اثنان

قال موكي باصقا الماء من فمه موجها الكلام لي وللمردوفي:

  • ابتعدا أيها الشابان… أنا بنفسي سأنهض… لا شيء يستحق الهلع.

تسلق الجليد وقال نافضا الماء عن نفسه:

  • يا للشيطان! انظر بمثل هذه البساطة يمكن أن تغرق…

أصبح الآن بشكل خاص شبيها بكلب مسالم وهو يصك أسنانه ويلعق بلسانه الكبير شاربيه المبتلين، وخطر لي بشكل عابر كيف بتر بالساطور قبل شهر إبهام يده اليسرى من المفصل تماما، وكيف رفع القطعة الشاحبة بالظفر المزرق شاعرا بالخطيئة بنظرة قاتمة من عينيه غير المفهومتين ثم قال حينها بهدوء:

  • كم مرة ضربت هذا الإصبع الغريب لا يمكن حساب ذلك، التوى ولم يعد يعمل جيدا، الآن سأدفنه…

لفه آنذاك بشكل مرتب بفتائل القشرة الخشبية ووضعه في جيبه وبعد ذلك شرع يضمد يده النازفة.

إثره غطس بويف، وبدا كأنه قفز بنفسه تحت الجليد، وفي هذا الوقت صرخ زاعقا:

  • يا أبتي…إني أغرق، الموت، يا إخوتي ساعدوني…

وتشنج من الرعب إلى درجة أنهم انتشلوه بصعوبة ومن الحركة العشوائية حوله كاد أن يفطس المردوفي الذي انغمس رأسه في الماء.

قال خارجا إلى الجليد مبتسما باستحياء وقد غدا أكثر نحالة وذا حركة بطيئة:

  • هكذا كان يمكن أن أنتهي إلى الشياطين العابثة.

خلال دقيقة غطس مرة أخرى وزعق بويف فصاح أوسيب مهددا إياه بالشاقول:

  • لا تصرخ يا روح الماعز[4] لماذا تفزع الناس سأريك فيما بعد، انزعوا أحزمتكم يا شباب وأفرغوا جيوبكم ستكونون أكثر مرونة.

خلال كل عشر خطوات كانت تنفتح أشداق مليئة بالأسنان مطقطقة راشة رضابا موحلا، وكانت الأسنان الزرقاء الحادة تختطف الأقدام بدا أن النهر يريد أن يمتص الناس إلى داخله كما تمتص الأفعى الضفادع الصغيرة، وصارت الأحذية والملابس المبتلة تسحبنا إلى الأسفل وتعيقنا عن القفز. الجميع أصبحوا كأنهم ملحوسين، وراحوا يتحركون بصعوبة وصمت ببطء وانصياع.

ولكن أوسيب الذي كان مبتلا كالجميع راح يقفز كالأرنب من قطعة جليد إلى أخرى كما لو أنه حسب مسبقا الانهدامات في الجليد، يقفز ثم يقف لثانية يتمحص ويصرخ بصوت عال رنان:

  • إيه انظروا كيف يجب القفز

كان أوسيب يلعب مع النهر والنهر يحاول التقاطه، ولكنه خاتل النهر رغم ضآلته واستطاع بسهولة أن يخدع تحركه، وأن يتجنب الأشراك غير المتوقعة، بدا أيضا وكأنما هو من يقود مسير الجليد مقربا إلى تحت أقدامنا قطعا صلبة كبيرة:

–  لا تجزع نفوسكم يا أبناء الرب… إيه

ابتهج المردوفي بهدوء:

  • هيا أيها العم أوسيب، يا له من إنسان، هذا إنسان حقيقي
  • وكلما اقتربنا من الشاطئ كلما بدا الجليد ناعما ومتكسرا، وازداد انغماسنا في الماء. بدت المدينة وكأنها تسبح مبتعدة عنا، قريبا سيحملنا التيار إلى الفولغا، وهناك سنغرق تحت الجليد الذي ما زال جامدا.

قال المردوفي بهدوء ناظرا إلى لجة الماء الكحلية:

  • على الأرجح أننا سنغرق

فجأة وكأن الأمر رأفة بنا، اصطدمت قطعة هائلة من نهايتها بالشاطئ، وتسلقت عليه متهشمة وهي تحدث فرقعة عالية.

صرخ أوسيب بحدة:

-اركضوا …إيه… اركضوا بكل قواكم

قفز إلى القطعة الجليدية وانزلق ووقع، أوسع للجميع لكي يمروا بجانبه وهو جالس على طرف الجليد مبللا بالماء.

هرع خمسة منا إلى الشاطئ متدافعين متسابقين الواحد إثر الآخر، أما أنا والمردوفي فتوقفنا راغبين في مساعدة أوسيب:

  • اركضا أيها الجروان، هيا أيها الخنزيران

كان وجهه أزرق مرتجفا وقد انطفأت عيناه وانفتح فمه بشكل عجيب.

  • انهض أيها العم أوسيب

أحنى رأسه:

  • يبدو أنني كسرت قدمي لن أستطيع النهوض…

رفعناه ونقلناه وقد علق يديه على رقبتينا ودمدم صاكا أسنانه:

  • ستغرقان أيها العفريتان، ولكن حمدا لله إنه لم يتخل عنا، انتبها الجليد لن يصمد لثلاثة أشخاص… اخطوا بحذر… انتقيا الجليد غير المغطى بالثلج فهو أصلب، الأفضل لكما أن تتركاني.

رمقني في وجهي مضيقا عينيه وسأل:

  • وكراسة آثامنا ربما تبللت تماما عندك…آ.. تلِفَت

عندما خرجنا من قطعة الجليد التي اصطدمت بالشط ساحقة عبارة نهرية إلى قطع، طقطقت كل أجزاء الجليد التي بقيت طافية على سطح الماء، وسبحت متمايلة متلاطمة مع المياه.

قال المردوفي باستحسان:

  • أخ منك – موجها كلامه للجليد- لقد فهمت ما الذي يجب عليك أن تفعل!

وعلى الشاطئ بين حشد القرويين كنا مبتلين متجمدين ولكن مرحين، وبدأ بويف والجندي يتبادلان الشتائم مع الناس. مددنا أوسيب على ساق شجرة مشذب وراح يصرخ بمرح:

  • أيها الشباب دفتر الحسابات ابتل… وانتهى… هه…

شعرت أن دفتر الحسابات قد غدا كالآجر في صدري، سحبته بهدوء ورميته بعيدا في النهر فطب في الماء المعتم كالضفدعة.

الأخوان داتلوف ركضا في الجبل إلى الحانة من أجل الفودكا، كانا أثناء ركضهما يتضاربان مرحا ويتصايحان:

  • إيه.. أنت!
  • آخ يا ملعون!

راح عجوز طويل القامة ذو لحية شبيهة بلحى الرسل وبعيون لص يتحدث بثقة فوق أذني:

  • يجب أن نلطمكم على سحناتكم أيها الملاعين لما سببتموه من قلق للناس الآمنين.

وصاح بويف وهو يبدل حذاءه:

  • وبماذا أثرنا قلقكم؟

ودمدم الجندي وقد ازدادت خرخرة صوته:

  • المسيحيون يغرقون… وأنتم ماذا فعلتم؟
  • وماذا علينا أن نفعل؟

اضطجع أوسيب على الأرض مادا قدميه متلمسا سترته بيديه الراجفتين يتشكى بهدوء:

  • آخ يا أمنا الطاهرة، كم تبللت الملابس لقد تخربت نهائيا ولم ألبسها حتى عاما واحدا.

لقد غدا صغيرا وانجعك… بل كأنه راح يذوب مضطجعا على الأرض يصغر ويصغر، فجأة نهض جالسا، تأوه وقال بصوت عال حانق:

  • فلتأخذكم الشياطين أيها الحمقى… تودون الذهاب سراعا إلى الحمام وإلى الكنيسة أترى! يا أخبث من الشياطين إلى هناك إذن… ألن يتم الله عيده من دونكم، لم تكونوا بعيدين عن الموت… لقد خربتم ألبستكم فلتتمزق أرواحكم.

بدل الجميع أحذيتهم وعصروا ألبستهم بلهاث متعب ممزوج بالآهات وراحوا يتبادلون الشتائم وطفق أوسيب يصرخ بحرارة أكثر:

  • انظر كيف دبروا الأمر… الملاعين… يرغبون بالذهاب إلى الحمام، أولى لكم الشرطة لتريكم الحمام جيدا.

أبدى واحد من الناس خدماته:

  • لقد أرسلنا في طلب الشرطة

صرخ بويف في وجه أوسيب:

  • هيه…أنت ماذا تفعل؟ لماذا تتلاعب
  • أنا؟
  • نعم أنت
  • قف ! كيف ذلك؟
  • من دفع الناس للعبور؟
  • من؟
  • أنت
  • أنا؟

اختلج أوسيب كما لو أصابه تشنج، وأعاد بصوت محبط:

  • أنا؟

قال بودين بهدوء وبشكل واضح

  • هذا صحيح تماما

ساند المردوفي ذلك بهدوء وحزن

  • والله أنت أيها العم أوسيب، أنت، أنسيت؟

صرخ الجندي بتجهم مؤكدا:

  • طبعا انت عبأتنا لهذا الأمر

زعق بويف بغيظ:

– نسي.. كيف ينسى؟ لا إنه يحاول، ربما استطاع تعليق ذنبه رقبة غيره كالنهر؟ نحن نعلم!

صمت أوسيب وضيق عينيه، وراح يرمق الناس المبتلين وهم يرتدون نصف ألبستهم…

 ثم راح يدمدم بنشيج عجيب لا يفهم منه هل هو باك أم مبتهج هازا كتفيه وفاتحا فمه:

  • هذا صحيح … بالضبط هذا تدبيري… أهذا ما تريدون؟

صرخ الجندي بانتصار

  • إنها الحقيقة

تابع أوسيب ناظرا إلى النهر الذي بدا وكأنه يغلي كسليق الذرة مجعدا وجهه مخفيا عينيه لشعوره بالذنب:

  • آه كأنها الغيبوبة.. ياللغرابة… وكيف لم نغرق؟ لا يمكن حتى فهم ذلك، يا إلهي أنتم أيها الشباب لا تغضبوا… كرمى للعيد أعذروني… غاب الوعي عني… ربما صحيح أنا دبرت ذلك الأمر… إنني عجوز غبي

قال بويف

  • أهكذا وإن كنتُ غرقت… ماذا كنت ستقول؟

بدا لي أن أوسيب يتعجب بإخلاص كيف فعل ذلك بحقهم دون تعقل، ولم يكن في الأمر ضرورة كبرى. جلس أوسيب على الأرض أملس يذكر بعجل حديث الولادة ملوحا برأسه عابثا بيديه في الرمل من حوله، ودمدم بصوت غريب عنه بكلمات التوبة دون أن ينظر إلى أحد.

نظرت إليه مفكرا … أين سطوة الرجل الذي كان يسير في المقدمة أمام الناس ويقودهم وراءه بقلق وذكاء وسيطرة.

تقطر في روحي فراغ غير محبب، جلست إلى جانب أوسيب وقلت له راغبا في أن أحافظ على شيء ما:

  • لا عليك…

نظر إليّ بشكل مائل، وراح يتحدث مخللا أصابعه في لحيته

  • أرأيت… هكذا إذن

ودمدم مرة أخرى بصوت عال متوجها للجميع:

  • يا للغرابة

في قمة الجبل وعلى خلفية السماء المعتمة، وقفت أشجار سوداء مثل لحية، ومال الجبل إلى الشاطئ كوحش كبير حيث ظهرت ظلال المساء الزرقاء، وراحت ترنو من خلال سقوف المنازل الملتصقة بجلد الجبل المعتم كأنها بثور جروح جافة، وشرعت تنظر من أشداق رطبة زهرية اللون للوادي الطيني، وبدت الأشداق مفتوحة على النهر كأنها تزحف إلى الماء لتشربه.

أعتم النهر وأصبح الحفيف وصرير الجليد أكثر هدوءا وبدا أحيانا أنهما متساويان، وكانت قطع الجليد تتصادم بأطرافها مع الشاطئ كتلاطم أوجه الخنازير، ولدقيقة تتوقف دون حركة ثم تنفصل متمايلة وتسبح في النهر، ثم تتسلق قطعة أخرى لتأخذ مكانها بكسل.

تكاثرت المياه بسرعة وطفحت على الأرض غاسلة الأقذار التي انتشرت كالغيم المعتم في لجة الماء الزرقاء، وعلق في الهواء صوت غريب، طقطقة ولعق، كأن حيوانا ضخما يأكل شيئا ما لاعقا بلسانه الطويل.

وفي المدينة عامت متضائلة جلجلة الأجراس برنين حلو حزين.

ومن الجبل تدحرج الأخوان دياتلوف كجروين وبأيديهما زجاجات الفودكا وبالتقاطع معهما بمحاذاة الشاطئ كان يسير عريف أشهب ورجلا شرطة يبدوان أسودين في العتمة.

راح أوسيب يئن ماسحا ركبته بهدوء:

  • آخ يا إلهي

سكان المنطقة أوسعوا ممرا بعد أن رأوا رجال الشرطة، وسكتوا منتظرين. كان عريف الشرطة رجلا نحيفا بوجه صغير وشاربين أشقرين مستقيمين. اقترب منا وقال بحزم محاولا تضخيم صوته الخفيض المصطنع:

  • أهذا أنتم أيها الشياطين…

استلقى أوسيب بظهره على الأرض وقال على عجل:

  • هذا أنا يا صاحب السعادة… أنا فعلت كل ذلك … اعذرني كرمى للعيد العظيم يا صاحب السعادة.

صرخ العريف كيف أنت أيها الشيطان العجوز- لكن صوته لم يتماسك وغرق بانسياب الكلمات اللطيفة الوديعة.

تابع أوسيب:

  • شقتنا هنا في المدينة، وليس لدينا أي شيء فوق هذا الشاطئ، لا مال ولا خبز، وبعد غد يا صاحب السعادة يوم العيد الكبير للسيد المسيح، علينا أن نستحم، ونحن نود أداء الطقوس في الكنيسة ذاك أننا مسيحيون حقيقيون … لذا قلت للشباب هيا إذا كان الله سيعطي فلنذهب ولنتوكل عليه، ونتيجة وقاحتي هذه ها أنا معاقب لقد حطمت قدمي تماما.

صرخ العريف بقسوة:

  • نعم ولكن إذا غرقتم… ماذا كان يمكن أن يكون؟

تنفس أوسيب بعمق وتعب

  • ماذا كان يمكن أن يحدث… لا شيء سيحدث، سامحني يا صاحب السعادة.

راح عريف الشرطة يشتم فيما استمع إليه الجميع صامتين ومنبهين كما لو أن الرجل لم يشتمهم في أمهم بأقذع الكلمات بل كان يتفوه بكلمات هامة على الجميع أن يعرفوها ويتذكروها، ثم ذهب بعد أن سجل أسماءنا جميعا.

تقاسمنا شرب الفودكا الحارقة، تدفأنا وتنشطنا واستعدينا للذهاب إلى المنزل… نظر أوسيب باسما اثر الشرطة وفجأة نهض بسهولة على قدميه وراح يصلب بحرارة شديدة.

  • هذه هي خاتمة كل شيء إذن، الحمد لك يا إلهي!

أردف بويف بهدوء وخيبة أمل واندهاش:

هذا يعني أن قدمك سليمة؟… لم تنكسر إذن؟  

  • ويرضيك أن تكون قد انكسرت
  • آخ منك أيها المهرج… أيها البهلول التعس
  • هيا يا شباب فلنذهب- قال أوسيب ذلك وهو يعتمر القبعة المبللة

سرت بالقرب منه خلف الجميع، قال لي بهدوء وود وكأنما يسر لي سرا لا يعرفه أحد غيره:

  • مهما تفعل ومهما تحاول لن تستطيع العيش أبدا دون غش ودون مراوغة. هذه الحياة فليطلقوا النار في روحها … تريد صعود الجبل… ولكن الشيطان يمسك أقدامك.

حل الظلام وفي الظلام تتوهج نيران حمراء وصفراء وكأنها تقول… “تعالوا إلى هنا..”.

شرعنا بالذهاب إلى لقاء الرنين في الجبل، كانت الينابيع تسيل وهي تخرخر تحت أقدامنا، ويغرق صوت أوسيب الوديع عبر ضجيجها.

  • ها قد استطعت بمكر أن أتخلص من الشرطة… أنظر كيف يجب أن يكون العمل بحيث لا يستطيع أحد أن يفهم شيئا… وليكن… ليتراءى لكل واحد كأنه هو أهم نابض في الأمر… ولندع لكل إنسان إن يفكر أن روحه استطاعت أن تنفذ أمرا هاما.
  • كنت أسمع حديثه لكني لم أكن أفهمه جيدا.
  • نعم لم يكن لدي حتى رغبة في الفهم. تستوطن روحي بساطة وارتياح. لا أدري هل يعجبني أوسيب أم لا، ولكني مستعد أن أمضي بجانبه في كل مكان… وإلى أي مكان حتى لو عبر النهر من جديد على الجليد المنزلق تحت أقدامنا.
  • تهدر الأجراس وترن وتغني، ويراودني تفكير سعيد:
  • ” كم مرة سيكون لي أن أقابل الربيع…!”
  • يقول أوسيب متنهدا:
  • الروح الإنسانية مجنحة تطير في الليل أثناء النوم
  • … مجنحة. هذا رائع!

 

[1] أولاد الدجاج وبيضة الوقوق وعفاريت المستنقع من الشتائم الشائعة الشعبية آنذاك

[2] الساجين ستة أقدام – والقدم 30 سم

[3] قصة خيالية للأطفال كتبها شعرا بيوتر يرشوف في ثلاثينات القرن التاسع عشر، ويقال أن الأسطر الأربعة الأولى منها كتبها الكسندر بوشكين… أو دققها

[4] شتيمة تعني أيها الجبان