المعطف الأسود
لودميلا بيتروشيفسكايا
ترجمة د. أيمن أبو الشعر
حدث أن وجدت إحدى الفتيات نفسها في مكان لا تعرفه عند أطرف المدينة، زد على ذلك أنها كانت تلبس معطفا أسود غريبا عنها. نظرت إلى ما تحت المعطف فرات أنها كانت ترتدي لباسا رياضيا.
وكان في قدميها حذاء رياضي كذلك.
لم تكن الفتاة تذكر عموما من هي وحتى ما هو اسمها.
وقفت تكاد تتجمد في الشتاء على طريق عام غير معروف لها قرب المساء.
كانت هناك غابة غير بعيد عنها وقد حل الظلام.
فكرت أن عليها التحرك إلى مكان ما فقد كان الطقس باردا ولم يمنحها المعطف الأسود أي دفء أبدا.
مضت في الدرب.
في ذاك الوقت أطلت شاحنة من المنعطف. رفعت الفتاة يدها ملوحة فتوقفت الشاحنة. فتح السائق باب السيارة. كان قد جلس راكب أخر في المقصورة.
- إلى أين تقصدين؟
أجابت الفتاة بأول ما خطر على بالها:
- وأنت إلى أين تمضي؟
- إلى المحطة – أجاب السائق وهو يضحك.
- وأنا إلى المحطة – (تذكرت أنه لابد من الابتعاد عن الغابة إلى أية محطة).
- فلننطلق – قال السائق وهو لا يزال يضحك- طالما إلى المحطة فليكن إلى المحطة.
- ولكن قد لا يتسع المكان- قالت الفتاة.
- سيتسع لك – ضحك السائق- الرفيق نحيل جدا هنا إنه مجرد عظام.
صعدت الفتاة إلى المقصورة وتحركت الشاحنة.
الشخص الثاني أوسع مكانا لها وهو متجهم.
لم يكن وجهه ظاهرا نتيجة انتفاخ غطاء الرأس.
انطلقت بهم الشاحنة في الطريق المعتم وسط الثلوج صمتَ السائق وهو يبتسم، وصمتت الفتاة إذ لم تشأ أن تسأل عن أي شيء لكيلا يلاحظ أحد أنها نسيت كل شيء.
وصلوا أخيرا إلى منصة لركاب القطارات مضاءة بالمصابيح، نزلت الفتاة وانغلق الباب وراءها، وانطلقت الشاحنة من جديد.
صعدت الفتاة إلى المنصة وجلست في القطار الكهربائي وسافرت فيه إلى مكان ما.
تذكرت أنه من المفترض أن تشتري بطاقة، ولكن توضح أنه لم تكن في الجيوب نقود: كان هناك كبريت وورقة ومفتاح.
لقد خجلت حتى أن تسأل إلى أين يمضي القطار، ولم يكن هناك من تسأله فقد كانت العربة فارغة تماما ومضاءة بشكل سيء.
أخيرا توقف القطار ولم يعد يتحرك إلى أي مكان، وكان عليها أن تخرج.
كان المكان عبارة عن محطة قطارات كبيرة، ولكن ما من أحد هناك في مثل هذا الوقت والأضواء مطفأة.
كانت الحفر منشرة في الأرجاء، وهناك حفر جديدة قبيحة لم تغطيها الثلوج بعد.
كان هناك مخرج وحيد، وهو عبر الهبوط إلى النفق، ونزلت الفتاة على الدرجات للأسفل.
كان النفق مظلما أيضا وأرضيته منهدمة غير مستوية، وكان ضوء شحيح يأتي من الجدران المبلطة بالسيراميك الأبيض.
أسرعت الفتاة بسهولة نحو الأسفل عبر النفق دون ان تلمس تقريبا الأرضية، كانت تتقافز قريبا من الحفر كما لو في الحلم، رفوش ونقالات، يبدو أن عملية اصلاح تجري هنا أيضا.
انتهى النفق وأفضى في نهايته إلى شارع، ووصلت الفتاة متنهدة إلى الهواء الطلق.
كان الشارع فارغا كذلك ونصف مهدم.
لم تكن هناك أضواء في البيوت، وبعضها كان دون أسقف أو نوافذ، كانت هناك فجوات وحسب، وفي وسط مكان العبور برزت حواجز مؤقتة: كان المكان محفورا أيضا هناك.
وقفت الفتاة عند طرف الرصيف بمعطفها الأسود، وكادت أن تتجمد من البرد.
في هذه الأثناء اقتربت منها شاحنة صغيرة، فتح السائق باب السيارة وقال لها: – اجلسي سأنقلك.
كانت الشاحنة نفسها، وقد جلس قرب السائق إنسان تعرفه بمعطف أسود مع غطاء الرأس.
ولكن خلال هذه الفترة التي لم يتقابلا فيها بدا كما لو أن الراكب بالمعطف وغطاء الرأس قد سمن وضاق المكان كثيرا في المقصورة.
- هنا المكان ضيق – قالت الفتاة وهي تجلس في المقصورة. وكانت مسرورة من صميم قلبها بأن بعض المعارف القدماء قد التقوا بها بأعجوبة.
كان هذان الشخصان هما الوحيدان اللذان تعرفهما في هذه الحياة الجديدة غير المفهومة التي تحيط بها الآن.
- سيتسع لك المكان- ضحك السائق المرح وقد أدار وجهه لها. استطاعت الجلوس ووسعها المكان بسهولة فعلا، بل وكانت هناك فرجة بينها وبين جارها المتجهم إذ تبين أنه نحيل جدا، لقد كان معطفه فقط عريضا.
وفكرت الفتاة: سأتشجع وأقول لهما أنني لا أعرف شيئا.
كان السائق أيضا نحيلا جدا، وإلا لما كانت المقصورة في الشاحنة الصغيرة قد اتسعت لهم بحرية.
كان السائق فائق النحول وأفطس إلى درجة غير معقولة أي كما لو كان مشوها وأصلع تماما، ومع ذلك كان مرحا جدا: كان يضحك باستمرار مظهرا أثناء الضحك جميع أسنانه.
يمكن القول أنه لم يتوقف عن الضحك بملء فمه دون أن يصدر صوتا.
الشخص الثاني كان لا يزال يخفي وجهه في طيات غطاء رأسه ولم ينبس ببنت شفة.
صمتت الفتاة أيضا: وماذا كلن يمكن أن تقول؟
مضوا في الشاحنة بشوارع ليلية محفورة فارغة تماما يبدو أن الناس قد ناموا منذ زمن في بيوتهم.
- إلى أين يجب أن تذهبي؟ سأل السائق المرح ضاحكا بملء فمه.
– عليَّ الذهاب إلى بيتي- أجابت الفتاة.
- وأين منزلك؟ سأل السائق ضاحكا دون صوت.
- آ… في نهاية هذا الشارع ثم ننعطف إلى اليمين- قالت الفتاة بلهجة غير واثقة.
- وبعد ذلك؟ سأل السائق وما زال يكشر عن أسنانه.
- بعد ذلك دائما بشكل مستقيم.
هكذا أجابت الفتاة وهي فيي عمق روحها خائفة من أن يطلب منها العنوان.
- أسرعت الشاحنة بدون صوت رغم أن الطريق كان فظيعا مليئا بالحفر.
- إلى أين؟ سأل المرح.
- هنا شكرا – قالت الفتاة وفتحت باب السيارة.
- ألن تدفعي؟ – صاح السائق وقد فغر فمه حتى الحد الأقصى.
بحثت الفتاة في جيوبها، ومن جديد وجدت ورقة وعلبة كبريت ومفتاحا.
- ليس لدي نقود – اعترفت الفتاة.
- إن لم يكن لديك نقود لم يكن من الضروري أن تجلسي -قهقه السائق – في المرة الأولى لم نأخذ منك شيئا وقد أعجبك ذلك كما يبدو. هيا اذهبي إلى البيت واحضري لنا نقودا. أو أننا سنأكلك نحن نحيلان وجائعان أليس كذلك؟ أليس رأسها فارغا؟- سأل رفيقه ضاحكا – نحن نتغذى بأمثالك. إنها طرفة بالطبع.
خرجوا جميعا من الشاحنة إلى مكان قفر حيث انتصبت متناثرة بعض البيوت غير المسكونة بعد، ويبدو أنها جديدة.
على أية حال لم تبد هناك أية أضواء.
كانت هناك بعض الفوانيس التي أضاءت نوافذ قاتمة بلا حياة.
كانت الفتاة لا تزال تأمل بشيء ما فمضت إلى آخر بيت وتوقفت.
توقف مرافقاها أيضا.
- أهو هنا؟ سأل السائق الضاحك.
- ربما – أجابت الفتاة مازحة وقد تجمدت من الوضع المحرج: الآن سيظهر أنها نسيت كل شيء.
دلفوا إلى المدخل وراحوا يصعدون على الدرج المظلم.
كان جيدا أن الفوانيس كانت تضيء قليلا، بحيث يمكن رؤية الدرجات.
كان هناك صمت مطبق في الدرج.
وحين وصلت الفتاة إلى أحد الطوابق لا على التعيين أخرجت المفتاح من جيبها عند أول باب واندهشت لأن المفتاح دار بسهولة في القفل.
كانت فسحة المدخل في البيت فارغة فتابعت، والغرفة الأولى أيضا فارغة أما في الغرفة الثانية فقد كانت هناك في الزاوية كومة أغراض غير مفهومة.
- أتريا ليس لدي نقود، خذوا الأغراض- قالت الفتاة موجهة كلامها إلى ضيفيها.
- في غضون ذلك لاحظت أن السائق ما زال يبتسم ابتسامة عريضة، والرجل الثاني بغطاء الرأس ما زال يخفي وجهه مبتعدا.
- وما هذا؟ -سأل السائق
- هذه أغراضي ولكني لم أعد بحاجة إليها- أجابت الفتاة.
- هل تعتقدين ذلك؟ سأل السائق.
- بالطبع – قالت الفتاة.
- إذن لا بأس- قال السائق وانحنى على الكومة.
- راح هو والشخص الآخر يتفحصان الأغراض ووضعوا شيئا ما في فيهما.
تراجعت الفتاة بهدوء وخرجت إلى الممر.
- سأحضر حالا – صاحت الفتاة حين رأت أنهما رفعا رأسيهما نحوها.
خطت على رؤوس أصابعها في الممر خطوات واسعة، ووصلت إلى الباب وإذ بها على الدرج.
خفق قلبها بصوت مسموع وطرق في حنجرتها الجافة.
لم تكن تستطيع أن تتنفس.
كيف حالفني الحظ في أن أول شقة صادفتها انفتح بابها بمفتاحي – فكرت- لم يلاحظ أحد أنني لا أذكر شيئا.
نزلت إلى الطابق الذي تحت هذا الطابق، وسمعت خطوات سريعة في الأعلى على الدرج.
خطر ببالها مرة أخرى أن تستخدم المفتاح.
ومن الغريب أن أول باب لم يكن مغلقا، فانسلت الفتاة إلى الشقة، وأغلقت الباب وراءها.
كان يخيم الهدوء والظلام.
لم يتبعها أحد، ولم يطرق أحد الباب، ربما نزل الغريبان إلى الأسفل على الدرج. حاملين معهما الأغراض، وتركا الفتاة المسكينة وشأنها.
الآن يمكن أن تتأمل وضعها.
في الشقة لا يوجد برد شديد وهذا أمر جيد.
أخيرا تم العثور على ملجأ ولو أنه مؤقت، ولكن يمكن التمدد في مكان ما في الزاوية.
شعرت بألم في رقبتها وظهرها نتيجة التعب.
دخلت الفتاة بهدوء في الشقة وقد سقط ضوء على النافذة من مصابيح الشارع، وكانت الغرف فارغة تماما.
ولكن عندما دخلت من الباب الأخير طرق قلبها بقوة، فقد وجدت في الزاوية كومة أغراض على الأرض.
كما هو الحال في زاوية الطابق الأعلى.
وقفت الفتاة منتظرة أن تجري حادثة جديدة ما ولكن لم يحدث شيء عندها اقتربت إلى تلك الكومة وجلست على الخرق.
- ماذا بك هل ذهلت؟ صرخ صوت نصف مخنوق وشعرت بأن الخرق تهتز تحتها كما لو أنها تضج بالحيوية وكأنها أفاعي.
ومن الجنب انبثق رأسان وأربعة أيادي واحدة تلو الأخرى، إنهما الشخصان اللذان تعرفهما وقد تخبطا بحيوية داخل الخرق ومن ثم خرجا إلى السطح.
ركضت الفتاة إلى الدرج.
كانت ساقاها كأنهما من القطن
شخص ما انسل من وراء ظهرها بحيوية إلى الممر.
وعلى الفور شاهدت خطا من الضوء تحت الباب القريب.
ومن جديد فتحت الفتاة بسهولة باب الشقة المقابلة بمفتاحها واندفعت إلى هناك وأغلقت الباب وراءها.
وقفت عند العتبة أمامها امرأة وبيدها عود ثقاب مشتعل.
- أنقذيني كرمى لله- همست الفتاة.
- سمع على الدرج من وراء ظهرها حفيف خفيف كما لو أن أحدا يزحف.
- – ادخلي – قالت المرأة رافعة للأعلى عود الثقاب الذي يكاد يكمل احتراقه.
- تحركت الفتاة خطوة أخرى وسدت الباب.
- ساد الهدوء في الدرج كما لو أن أحدا قد توقف وراح يفكر.
- ماذا هل تتسكعين على الأبواب في الليالي – سألت بفظاظة المرأة التي تحمل عود الثقاب.
- فلنذهب إلى هناك- همست الفتاة- إلى مكان ما هناك وسأشرح لك.
- لا أستطيع الذهاب إلى هناك- قالت المرأة بصوت خفيض- سينطفئ عود الثقاب على الطريق إننا نحصل على عشرة أعواد فقط.
- لدي أعواد ثقاب- فرحت الفتاة- خذي- تحسست علب الكبريت في جيب المعطف ومن ثم مدت يدها بها إلى المرأة.
- اشعليها بنفسك- طلبت المرأة. أشعلت الفتاة عود ثقاب وسارتا في الممر مع خفقان لهبة الكبريت.
- كم عودا لديك؟ – سألت المرأة ناظرة إلى علب الكبريت.
هزت الفتاة العلب متفحصة.
- قليل – قالت المرأة -ربما هي تسعة الآن.
- كيف يمكن أن نتحرر؟ – سألت الفتاة همسا.
- يمكن أن نصحو-أجابت المرأة- ولكن ذلك لا يحدث دائما. أنا مثلا لن أصحو بعد الآن. انتهت أعواد الثقاب التي معي. نفدت.
- ابتسمت المرأة كاشفة عن اسنان كبيرة. ضحكت بهدوء شديد دون صوت كما لو أنها أرادت فقط أن تفتح فمها أكثر قدر الإمكان. كما لو أنها تثاءبت.
- أريد أن استيقظ – قالت الفتاة – هيا فلننهِ هذا الحلم العجيب.
- طالما تشتعل أعواد الثقاب فإنك تستطيعين إنقاذ نفسك- قالت المرأة – لقد استخدمتُ للتو آخر عود ثقاب عندي أردت أن أساعدك.
- الآن كل شيء سيان بالنسبة لي. حتى أنني أود أن تبقي هنا. أتدرين كل شيء ببساطة ما من داع للتنفس. يمكنك الطيران على الفور أينما تريدين. لست بحاجة للضوء لست بحاجة للأكل. المعطف الأسود ينقذك من كل العلل. قريبا سأطير وأنظر كيف هم أولادي. لقد كانوا مشاغبين جدا ولم يستمعوا إلي. ذات مرة بصق الأصغر باتجاهي عندما قلت له أن أباه قد رحل. بكى وتفل. الآن لا أستطيع أن أحبهم. أحلم أيضا ان أطير وأرى كيف هي أوضاع زوجي هناك مع صديقته الصغيرة. الآن أشعر باللامبالاة نحوهم. لقد فهمت الكثير الآن. لقد كنت غبية جدا.
وضحكت من جديد.
- مع هذا العود الأخير يغيب فقدان الذاكرة. الآن أنا أذكر كل حياتي، وأعتقد أنني كنت مخطئة. إنني أضحك على نفسي.
- لقد ضحكت بالفعل بكل فمها، ولكن دون صوت. – أين نحن؟ سألت الفتاة.
- لا يوجد جواب عن هذا السؤال، قريبا سترين بنفسك. ستكون هناك رائحة.
- من أنا؟ سألت الفتاة.
- ستعرفين
- متى؟
- عندما تنتهي العيدان العشرة. وكان عود ثقاب الفتاة قد احترق.
- طالما إنه يحترق، فأنت تستطيعين الاستيقاظ، ولكنني لا أدري كيف. أنا لم أوفَّق.
- ما هو اسمك؟ – سألت الفتاة.
- اسمي سيكتبونه قريبا بالألوان الزيتية على لوح حديدي. ويغرسونه في تلة صغيرة من الأرض. عندها سأقرأ وأعرف. علبة الألوان باتت جاهزة واللوحة الفارغة كذلك. ولكن ذلك أعرفه أنا وحدي الآخرون لا يعرفون بعد. لا زوجي ولا صديقته ولا أطفالي. فراغ كبير! – قالت المرأة. – قريبا سأطير وأرى نفسي من أعلى.
- لا تطيري أرجوك – قالت الفتاة- أتريدين أعاود الثقاب التي لدي؟
- فكرت المرأة وقالت:
- ربما سآخذ واحدا. يبدو لي أن أطفالي يحبونني. وأنهم يبكون. وأنهم لن يكونوا ضروريين لأي إنسان، لا والدهم ولا زوجته الجديدة.
- أدخلت الفتاة يدها الفارغة في جيب المعطف وتحسست الورقة بدل علبة الكبريت.
- انظري ماذا كتب هنا! “أرجو ألا تتهموا أحدا سامحيني يا أمي” لقد كانت الورقة فارغة من قبل.
- أنت كتبت هكذا! أما أنا فقد كتبت “.. لا أريد ذلك بعد الآن، يا أولاد إنني أحبكم”. لقد ظهرت منذ قليل.
وتناولت المرأة من جيب معطفها ورقتها.
بدأت تقرأها وصاحت:
- انظري الحروف تميع، ربما أحد ما يقرأ الآن هذه الرسالة الصغيرة! لقد وقعت في أيدي أحد ما… لا يوجد حرف “ب” وحرف “و” (1) ها هو حرف “ل” يذوب عندها سألت الفتاة:
- هل تعرفين لماذا نحن هنا؟
- أعرف. ولكنني لن أقول لك! ستعرفين بنفسك. ما زال لديك احتياط من أعواد الثقاب.
عندها تناولت الفتاة علب الكبريت من جيبها ومدت يدها بها إلى المرأة:
- خذيها كلها! ولكن قولي لي! -أفرغت المرأة نصف أعواد الثقاب وقالت للفتاة:
- لمن كتبت هذه الرسالة؟ هل تذكرين؟
- لا
- أشعلي عود ثقاب آخر فقد احترق هذا العود حتى آخره. مع إشعال كل عود ثقاب كنت أتذكر أكثر.
عندها أخذت الفتاة الأعواد الأربعة المتبقية لديها وأشعلتها. فجأة توضح كل شيء أمامها: كيف وقفت على المقعد الصغير تحت الأنبوب، وكيف كانت الرسالة الصغيرة على الطاولة ” أرجو ألا تتهموا أحدا “، وكيف كانت تضطجع وراء النافذة مدينة في الليل وفيها شقة خطيبها الحبيب، لم يعد يرغب في الاقتراب من الهاتف عندما علم أنها حامل، وسيكون لديه طفل منها، وأخذت أمه السماعة وكانت تسأل باستمرار “من أنت، وحول أي موضوع تودين الحديث” – رغم أنها كانت تعرف جيدا من المتصل ولماذا…
احترق العود الأخير ولكن الفتاة كانت ترغب بشدة أن تعرف من كان ينام خلف الجدار في شقتها، من كان يشخر ويئن في الغرفة المجاورة عندما كانت تقف على المقعد الصغير، وكانت تلف شالها الرقيق على الأنبوب عند السقف…
من الذي ينام في الغرفة المجاورة- ومن لا ينام بل يضطجع وينظر بعيون مريضة في الفراغ ويبكي… من؟
كان عود الثقاب قد احترق كله تقريبا. تبقى القليل- وفهمت الفتاة كل شيء. وعندما كانت في البيت الفارغ المعتم في الشقة الغريبة التقطت قصاصة الورق وأحرقتها!
ورأت في تلك الحياة أن الذي يشخر خلف الجدار هو جدها المريض، وأمها تضطجع على السرير النقال بالقرب منه لأنه مريض جدا، ويطلب أن يشرب الماء باستمرار.
ولكن كان هناك أحد ما هناك، وقد أحست بوجوده بوضوح ومن أحبها، ولكن الورقة انطفأت بسرعة في يديها.
هذا الشخص كان يقف بهدوء أمامها، وأشفق عليها وأراد دعمها، ولكنها لم تكن قادرة على رؤيته أو سماعه، ولم ترغب حتى في التحدث معه، كانت روحها معذبة جدا، لقد أحبت خطيبها كثيرا، أحبته هو فقط، لم تحب سواه، لا أمها ولا جدها ولا من وقف أمامها في تلك الليلة وحاول أن يخفف عنها.
وفي اللحظة الأخيرة عندما احترقت رسالتها حتى آخرها رغبت في أن تتحدث مع من وقف أمامها في الأسفل على الأرضية، وكانت عيناه موازيتين لعينيها هكذا كان.
ولكن الورقة الصغيرة المسكينة احترقت حتى النهاية كما احترقت بقايا حياتها هناك في الغرفة مع المصباح.
نزعت الفتاة عندها عن نفسها المعطف الأسود، ولامست المادة السوداء الجافة حارقة أصابعها بألسنة اللهبة الأخيرة.
صدر صوت نقر وفاحت رائحة حريق، ولعلع صوتان من وراء الباب.
- بسرعة اخلعي معطفك! – صرخت المرأة، ولكن كانت تبتسم بهدوء فاتحة فمها الواسع، وقد احترق حتى النهاية آخر عود ثقاب…
عندها رأت الفتاة التي كانت هنا في الممر المظلم أمام المعطف الأسود الذي ينبعث منه الدخان وهناك في بيتها تحت المصباح، رأت أمامها عينين لطيفتين طيبتين -لامست الفتاة بكمها الذي ينبعث منه الدخان الكم الأسود للمرأة الواقفة وعلى الفور سمع عواء مزدوج على الدرج، وانطلق من معطف المرأة دخان نتن، فرمت المرأة عنها المعطف خافة واختفت.
واختفى كل شيء في محيط المكان.
في تلك اللحظة كانت الفتاة تقف على المقعد الصغير مع الشال المشدود على رقبتها، بلعت ريقها وهي تنظر نحو الطاولة حيث ابيضت رسالتها الصغيرة، وطافت في عينيها دوائر نارية.
في الغرفة المجاورة شخص راح يئن ويسعل، وصدح صوت أمها الناعس: “هيا يا والدي هل تريد أن تشرب؟”
أرخت الفتاة بسرعة قدر ما استطاعت الشال عن رقبتها وتنفست، فكت بأصابعها غير المطيعة العقدة عن الأنبوب قرب السقف وقفزت من المقعد الصغير، وتخلصت من رسالتها، وارتمت في السرير وغطت نفسها ببطانية.
وفي ذلك الوقت تحديدا نظرت الأم في الغرفة رامشة عينيها من الضوء وقالت بأسى:
- يا إلهي أي حلم رهيب تراءى لي…
كتلة ضخمة من الأرض تقف في الزاوية ومنه تخرج جذور.. ويدك…
وهي تمتد نحوي طالبة المساعدة… ماذا هل تنامين مع الشال، حنجرتك تؤلمك؟
دعيني أغطيك يا صغيرتي… لقد بكيت في الحلم…
- آه يا ماما- أجابتها الابنة بنبرتها المعتادة- أنت دائما مع هذه الأحلام! هل تستطيعين أن تتركيني وشأني ولو ليلا على الأقل! الساعة بالمناسبة هي الثالثة صباحا!
وفكرت بشأن نفسها، ما الذي كان يمكن أن يحدث لأمي إن هي أفاقت قبل عشر دقائق…
وفي مكان ما في الطرف الآخر من المدينة بصقت امرأة من فمها حفنة من الحبوب وغسلت حنجرتها بعناية.
ومن ثم مضت إلى غرفة الأطفال حيث كان ينام طفلاها اللذان كبرا جيدا، فهما في العاشرة والثانية عشرة، وأصلحت البطانية التي انزاحت عنهما.
ثم ركعت على ركبتيها وراحت تطلب الغفران.
- المقصود حروف كلمة больше أي بعد – من عبارتها في الرسالة التي تركتها قبل الانتحار (لا أريد ذلك بعد الآن)