إيفان الكسييفيتش بونين 1870 – 1953
يعتبر من أهم الكتاب والشعراء الروس وكان أول أديب (قاص وشاعر) يحصل على جائزة نوبل للآداب عام 1933.
ولد في أسرة نبلاء ارستقراطية لكن والده أفلس واضطر إلى بيع ضيعته وجميع أملاكه فعانى ايفان بعض الفقر حيث عمل في المجال الصحفي منذ شبابه المبكر، وراح ينشر قصصه وأشعاره ولاقى نتاجه ترحيبا كبيرا من الأوساط الأدبية. تنقل بونين فيما بعد بين البلدان برحلات بعيدة زار فيها مصر وسوريا وفلسطين وانعكست رحلاته هذه في العديد من أشعاره من مثل “ليلة القدر” و”الهجرة” و” القافلة” وامرؤ القيس… وقصص من مثل معبد الشمس وبحر الألهة وظل الطير. وبعد الثورة البلشفية غادر إلى فرنسا وتابع إبداعاته المتميزة حتى بات يُشبَّه بغوته الألماني. ومن قصصه في فرنسا قصة الفنان المجنون التي حملت تساؤلات إشكالية حول بواعثها ويرجح أن فيها بعض ظلال من تجربته وخاصة إبان الترحال.
الفنان المجنون
أيفان بونين
ترجمة د. أيمن أبو الشعر
توشحت الشمس بظلال ذهبية في المشرق، وخلف الزرقة الضبابية للغابات البعيدة، خلف السهوب الثلجية المنخفضة التي أطلت عليها من شاطئ جبلي غير مرتفع قبعت مدينة روسية قديمة. كانت عشية ليلة الميلاد، وكان الصباح لطيفا مع صقيع خفيف وجليد.
كان قد وصل للتو قطار بيتروغراد: امتد باتجاه الجبل في الثلج الذي مرَّ عليه طويلا من محطة القطار حوذيو الزحافات بركاب وبدون ركاب.
كان الفندق القديم في الساحة الكبيرة مقابل صفوف المحلات التجارية هادئا وفارغا ومرتبا للعيد. لم ينتظروا الضيوف هناك في الفندق. وها قد جاء إلى المدخل سيد يضع نظارات فوق أنفه له عينان مدهشتان، ويعتمر قبعة مخملية سوداء ظهرت من تحتها تجاعيد مائلة للون الأخضر، يلبس معطفا طويلا داخله من الفراء وكستنائي رائع من الخارج.
راح الحوذي ذو اللحية الحمراء الجالس في مقعد الزحافة يحمحم عن قصد ليظهر أنه تجمد من البرد ولا بد من إكرامه. لم يعره الراكب انتباها تاركا للفندق أن يحاسبه.
– قدني إلى الغرفة الأكثر سطوعا –قال ذلك ومشى بخطوات احتفالية في الممر الواسع خلف عامل الفندق الذي حمل الحقيبة الأجنبية- أنا فنان- قال ذلك وتابع- ولكن هذه المرة لا أريد غرفة في الشمال. أبدا على الإطلاق!
فتح عامل الفندق الباب على مصراعيه في الجناح الأول المخصص للضيوف الكبار، الجناح مؤلف من مدخل وغرفتين كبيرتين حيث كانت مع ذلك النوافذ غير كبيرة وغائرة عميقة نتيجة سماكة الجدران. كانت الغرف مريحة ودافئة وهادئة، ومضيئة كالكهرمان بأشعة الشمس التي خف سطوعها بتأثير الصقيع على الزجاج الواطئ. أنزل عامل الفندق الحقيبة على السجادة عند منتصف الممر داخل الغرفة، انتظر عامل الفندق- وهو شاب ضئيل الجسم بعينين ذكيتين مرحتين- كي يأخذ الجواز وأية طلبات يمكن أن توجه إليه. سار الفنان وهو مربوع القامة خفيفا فتيا خلافا لعمره سار بقبعته وسترته الفرائية من زاوية إلى أخرى ثم رمى بحركة الحواجب نظارته الأنفية، وراح يفرك بيديه البيضاوين كالمرمر وجهه المنهك الشاحب. ثم نظر إلى الخادم بشكل غريب نظرة شاردة من رجل مبعثر قصير النظر.
الرابع والعشرون من شهر ديسمبر كانون أول عام ألف وتسعمئة وستة عشر- قال الفنان ذلك- هذا التاريخ يجب أن تتذكره!
حاضر -أجاب عامل الفندق.
تناول الفنان ساعة ذهبية من جيب سترته الجانبي، وضيق إحدى عينيه ونظر في الساعة.
– التاسعة والنصف تماما- ثم تابع مرتبا نظارته الزجاجية فوق انفه- أنا عند هدف الحج الذي أبتغيه. المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة! سأعطيك الجواز فلا تقلق، ولكني حاليا في شغل شاغل عن الجواز. فليس لدي ولا دقيقة متاحة. إنني الآن على عجلة من أمري للذهاب إلى المدينة لكي أعود في الحادية عشرة تماما. عليّ أن أنجز عملا انتظرته طيلة حياتي. يا صديقي الشاب – قال ذلك مادا يده إلى عامل الفندق مظهرا له خاتَمَي زواج، واحد منهما نسائي كان يضعه على الخنصر– هذا الخاتم هو خاتم العهد الذي قطعته عند احتضارها!
أجاب عامل الفندق: هكذا تماما.
– وأنا أنفذ هذا العهد- قال الفنان ذلك بلهجة جهمة- سأرسم شيئا خالدا! وسأهديك إياه.
-لك الشكر بكل طاعة-قال عامل الفندق.
– ولكن يا عزيزي لم آخذ معي لا القماش ولا الألوان، فقد كان جلبها مستحيلا بسبب هذه الحرب اللعينة. آمل أنني سأحصل عليها هنا. سأجسد أخيرا كل ما دفعني إلى الجنون طيلة عامين ثم توضح بشكل رائع في ستوكهولم!
نظر الفنان بتركيز إلى محدثه عبر نظارته وهو يتكلم مشددا على الكلمات.
– العالم كله يجب أن يعرف ويفهم هذا الوحي هذا الخبر الطيب! – هتف ملوحا بيده بطريقة مسرحية- أتسمع؟ كل العالم! الجميع!
حسنا -أجاب عامل الفندق- سأقدم تقريرا لصاحب الفندق.
- ارتدى الفنان المعطف من جديد واتجه إلى الباب. أسرع عامل الفندق وفتح الباب. أوما إليه الفنان موحيا بالأهمية وخطا في الممر. وعند ردهة الدرج توقف قليلا وأضاف:
- في العالم يا صديقي لا يوجد عيد أسمى من عيد الميلاد.
لا يوجد سر مقدس مثل ولادة الإنسان. آخر لحظة للعالم الدموي القديم! يولد إنسان جديد!
في الشارع حل النهار وبات مشمسا تماما. وارتسم على خطوط التلغراف في السماء الزرقاء بلطف صقيع رمادي مائل للزرقة وراح يتفتت ويتهاوى. وفي الساحة ازدحمت غابة من أشجار الشربين الخضراء الداكنة. وفي واجهات دكاكين الجزارين وقفت أجساد خنازير بيضاء متجمدة مسلوخة مع شقوق عميقة في قفا الأعناق، وتعلقت الدجاجات البرية والبط المنتوف والديكة الرومية المدهنة المجمدة. كان المارة يتبادلون الأحاديث وهم مسرعون وراح الحوذيون يسوطون الخيول الشعثاء، ولعلع الصرير.
سأعرفك يا روسيا! قال الفنان بصوت عال وهو يخطو في الساحة وينظر إلى التجار المنتعشين الشادين الأحزمة على ملابسهم السميكة والبائعات، وجميعهم يصرخون ويصرخن قرب أكشاكهم وأكشاكهن التي تعرض فيها لعب خشبية وكعك على شكل أحصنة وديوك وأسماك.
نادى على حوذي غير محجوز وأمره أن يمضي به في الشارع الرئيسي.
– ولكن انطلق أسرع عليّ أن أكون في الحادية عشرة في المنزل في العمل- قال وهو يجلس في الزحافة الباردة واضعا على ركبته قطعة ثقيلة من القماش المتصلبة من البرد.
حرك الحوذي قبعته، وأسرع ناقلا إياه على حصانه المخصي الشبعان في الطريق المتألقة التي طال المرور فوقها.
– هيا بسرعة أكثر! راح الفنان يكرر. – في الساعة الثانية عشرة ضوء الشمس سيكون ساطعا – نعم- قال وهو يتأمل – المكان مألوف ولكن نسي تماما! ما اسم هذه الباحة؟
عفوا ماذا؟ – سأل الحوذي
– إنني أسألك أنت، ما اسم هذه الساحة؟ صاح الفنان فجأة وقد استشاط غضبه- قف، حقير! لماذا أتيت بي إلى الكنيسة المُصلى؟ إنني أخاف من الكنائس والمصليات! توقف! هل تعلم أن أحد الفنلنديين أحضرني إلى المقبرة وعلى الفور كتبت رسالة إلى الملك والبابا وحكم عليه بالإعدام! عد بي!
كبح الحوذي حصانه المتوثب ونظر إلى الراكب بدهشة:
– إلى أين تأمرني أن أمضي؟ أنت قلت إلى الشارع الرئيسي..
. – لقد قلت لك في متجر الأدوات الفنية!
كان الأولى يا سيد أن تستأجر حوذيا آخر نحن لا نفهم
– اذهب إلى الشيطان! هذه قطع نقودك!
وخرج الفنان بإحراج من الزلاجة ورمى للحوذي ثلاث روبلات ومضى بعيدا إلى الخلف وسط الشارع. انفتح معطفه وتمرغ بالثلوج وراحت عيناه تجوبان في الأرجاء تائهتين معذبتين. رأى من نافذة المتجر شرائح التزيين الخشبية المذهبة فدخل بسرعة إلى المتجر. ولكن ما إن تحدث عن الألوان حتى قالت له السيدة المتوردة التي تجلس في معطفها وراء صندوق المحاسبة مقاطعة:
– آخ، لا، نحن لا نبيع الألوان. عندنا تباع الأطر والشرائح الخشبية وأوراق الجدران. وعموما من المستبعد أن تجد في مدينتنا قماشا وألوانا زيتية.
أمسك الفنان برأسه بيأس حقيقي.
– يا إلهي، هل يعقل هذا؟ آخ كم هذا الأمر مروع! الآن الألوان تحديدا الآن بالنسبة لي مسألة حياة أو موت! لقد اكتملت الفكرة ونضجت وأنا بعد في استكهولم وتجسيدها يجب أن يخلق انطباعا هائلا غير مسبوق. عليّ أن أرسم مغارة بيت لحم، وأرسم الميلاد، وأن أغمر اللوحة بأكملها مع الحضانة والطفل والعذراء والأسد والحمل المستلقين بالقرب – تحديدا بالقرب! ببهجة كبيرة من الملائكة وبذلك الضوء المميز بحيث تعبر عن ولادة إنسان جديد حقا. ولكن ذلك سيكون عندي وحدي في اسبانيا في بلد رحلة زواجنا الأولى. في البعيد كانت جبال زرقاء وأشجار مزهرة على التلال وفي السماوات المفتوحة…
عذرا يا سيد – قالت السيدة الشابة بنوع من الخوف- يمكن أن يأتي مشترون إلى هنا. لدينا فقط إطارات وشرائح خشبية للزينة وتكوينات خشبية لتتعرش عليها النباتات…
انتبه الفنان ورفع قبعته بتأدب مفرط:
– آخ، اعذريني كرمى لله! أنت على حق! ألف مرة أنت على حق!
وخرج بسرعة.
على بعد بضعة بيوت في متجر “المعرفة” اشترى طبق ورق مقوى خشن كبير وأقلاما ملونة وألوان مائية للوحة ورقية. ثم قفز من جديد إلى زلاجة وقاده الحوذي إلى الفندق. ورن الجرس على الفور في الفندق. فظهر عامل الفندق نفسه. أمسك الفنان بيده الجواز
– هاك! – قال مادا يده إلى عامل الفندق بالجواز. – هذه مسؤوليتك. ومن ثم يا عزيزي عليك أن تحضر لي كأس ماء لمزج الألوان. ألوان زيتية للأسف غير متوفرة أبدا في أي مكان. الحرب! العصر الحديدي! عصر الكهوف!
– فكر قليلا ثم ابتهج فجأة:
– أي يوم رائع! يا إلهي أي يوم رائع! عند منتصف الليل تماما يولد المخلص! مخلص العالم! هكذا سأوقع أسفل اللوحة: “ولادة الإنسان الجديد!” وسأرسم العذراء مع تلك المرأة التي منذ اليوم سيغدو اسمها مقدسا، سأُحييها، تلك التي قتلتها القوى الشريرة مع الحياة الجديدة التي تحملها تحت قلبها.
عبّر عامل الفندق مرة أخرى عن استعداده الثابت لخدمته ومضى من جديد. ولكن حين أحضر عامل الفندق بعد بضعة دقائق كأسا وأبريق ماء نقي كان الفنان يغط في نومه. كان وجهه النحيل الشاحب شبيها بقناع مرمري اللون. كان ينام على ظهره فوق الوسائد على السرير في غرفة النوم ورأسه ملقى للخلف ناثرا شعره الطويل الرمادي المائل للون الأخضر، ولم يكن يسمع حتى تنفسه. انسحب عامل الفندق على رؤوس أصابعه، فاصطدم بصاحب الفندق وراء الباب وهو ذو جسم قصير غليظ بشعر قصير في جانبي الرأس وعينين حادتين.
– ماذا في الأمر؟ – سأل صاحب الفندق بهمس سريع.
– نائم – أجاب عامل الفندق.
معجزة! قال صاحب الفندق. ولكن الجواز صحيح.
فقط هناك ملاحظة بأن الزوجة قد ماتت. اتصل إيفان ماتفييتش من الشرطة وأمر بالمراقبة. انتبه وافتح أذنيك جيدا. الزمن يا أخي زمن حرب.
-يقول لي – سأمنحك اللوحة، دعني فقط. أنجز العمل – قال عامل الفندق- حتى أنه لم يسأل عن السماور…
هاك، هاك! – التقط صاحب الفندق شيئا وألصق أذنه في الباب.
ولكن كان الصمت سائدا وراء الباب، وهيمن الحزن فقط، الحزن الذي يكون عادة في الغرفة التي ينام فيها إنسان.
تراجع شعاع الشمس ببطء من الغرفة. ثم غابت تماما. أصبح الصقيع على النوافذ رماديا مملا. صحا الفنان مع الغروب فجأة وتوجه فورا إلى الجرس.
– هذا رهيب! – صرخ مجرد أن دخل عامل الفندق- أنت لم توقظني! في حين بسبب هذا اليوم تحديدا قمت بهذه الرحلة التي تشبه الأوديسة. تخيل كيف كانت بالنسبة لها، وهي امرأة حامل في شهرها الثامن! لقد مررنا بآلاف المعيقات المختلفة لم ننم ولم نأكل قرابة ستة أسابيع. والبحر والتأرجح الرهيب! وهذا الخوف المستمر بحيث تنظر وقد تطير في الهواء، فليصعد الجميع إلى الأعلى! حضِّر أطواق النجاة! كل من ينقذف نحو الزورق دون إيعاز سأمزق جمجمته!”
– صحيح تماما- قال عامل الفندق مندهشا من صراخه الصاخب.
– وكم كان الضوء بهيجا! – تابع الفنان مهدئا نفسه- إنني في حال وجود مزاج روحي كما هو الآن يمكن أن أنهي العمل في ساعتين أو ثلاث ساعات. ولكن ما العمل! يجب أن أعمل طيلة الليل. ولكن ساعدني في تحضير بعض الأمور. هذه الطاولة مفيدة كما أعتقد…
اقترب من الطاولة التي قرب الأريكة ورفع عنه الغطاء المخملي وهزه:
– إنه منيع إلى حد كبير. ولكن لديكم هنا شمعتان. يجب إحضار ثماني شمعات أخريات وإلا فلن أستطيع أن أرسم. أحتاج إلى ضوء باهر! خرج عامل الفندق لفترة طويلة ثم عاد معه سبع شمعات مثبتة في شمعدانات مختلفة.
– ينقص واحدة فقط، كلها موزعة على الغرف قال عامل الفندق.
توتر الفنان من جديد وصرخ من جديد:
– آخ، كم مزعج هذا! أنا بحاجة إلى عشر شمعات إلى شمعات عشر! المعيقات والحقارات في كل خطوة! ساعدني على الأقل في أن أضع الطاولة في منتصف الغرفة. سنقوي الضوء من خلال الانعكاس في المرآة…
حمل عامل الفندق الطاولة وثبتها بقوة في المكان الذي حدده له الفنان
– الآن يجب أن نغطيها بغطاء أبيض لا يمتص الضوء – تمتم الفنان وهو يساعد بشكل محرج ويوقع نظارته ومن ثم يضعها على أنفه. – بماذا نغلق هذا؟ أخشى أن تكون الأغطية البيضاء غير… آ… لدي كمية كبيرة من الصحف وحرصت ألا أرميها!
فتح حقيبة كبيرة كانت على الأرض وأخذ من هناك عدة أعداد من الصحف ومدها على الطاولة وثبتها بأزرار، ورتب الأقلام واللوحة ووزع الشمعات التسع في صف واحد وأشعلها جميعها. اكتسبت الغرفة مظهرا احتفاليا غريبا ولكن بطابع شرير نتيجة غزارة النيران. اسودت النوافذ، وانعكس خيال الشمعات في المرآة فوق الأريكة، وألقت ضوءا مذهبا ساطعا على وجه الفنان الجدي وعلى الوجه المهموم الفتي لعامل الفندق. عندما بات كل شيء جاهزا في نهاية المطاف تراجع عامل الفندق باحترام نحو العتبة وسأل:
– هل تود تناول الطعام عندنا أم في مكان آخر؟ صرخ الفنان حانقا بشكل مسرحي:
– يا بني! إنه يتخيل أنني أستطيع تناول الطعام في مثل هذا الوقت! اذهب بسلام يا صديقي، أنت حر الآن حتى الصباح.
وخرج عامل الفندق شبه مطرود من الغرفة.
مضت الساعات. وراح الفنان يسير من زاوية إلى أخرى. قال لنفسه: “يجب أن أستعد”. اسودت خلف النافذ الليلة الصقيعية. وأسدل فوقها الستائر. ساد الصمت في الفندق وسمعت في الممر خطوات حذرة لصوصية- كانوا يراقبون الفنان حتى من ثقب قفل الباب ويسترقون السمع. ثم هدأت الخطوات. توهجت الشموع وارتجفت نيرانها منعكسة في المرآة. أصبح وجه الفنان أكثر إيلاما.
– لا! هتف فجأة وتوقف بحدة – في البداية يجب أن أحيي في ذاكرتي ملامحها. فليبتعد الخوف الطفولي!
– انحنى نحو الحقيبة وتدلت خصلات شعره. مد يده بين الملابس وأخرج ألبوما مخمليا أبيض كبيرا وجلس على الأريكة قرب الطاولة. فتح الألبوم وقذف برأسه نحو الخلف بكبرياء وإصرار وجمد متأملا.
كانت في الألبوم صورة كبيرة لكنيسة من الداخل، كنيسة صغيرة فارغة مع أقواس وجدران لامعة من الأحجار الملساء. وفي الوسط امتد على مرتفع مغطى بقماش مخصص للحداد تابوت طويل تمددت فيه امرأة نحيلة بجفون مغلقة منتفخة. كان رأسها النحيل الجميل محاطا بباقة من الزهور، وعاليا فوق صدرها كان ذراعاها مطويين بهدوء.
عند مقدمة التابوت وقف ثلاثة من رجال الدين الكنسيين وفي أسفل التابوت عند مكان القدمين اضطجع تابوت صغير مع طفل صغير أشبه ما يكون بالدمية.
نظر الفنان بتوتر إلى الملامح الحادة للمتوفاة. وتقعر وجهه فجأة بشكل رهيب. رمى الألبوم إلى السجادة وقفز مسرعا إلى الحقيبة. نقب في الحقيبة كلها حتى قعرها وكان يرمي إلى أرض الغرفة القمصان والجوارب وربطات العنق…ولم يجد ما كان يبحث عنه لم يكن موجودا ذاك الشيء.! راح ينظر يائسا إلى كل الجهات فاركا جبينه بيده…
– نصف العمر وراء الريشة- صاح بصوت أجش ضاربا الأرض بقدميه- نسيت، نسيت، كم أنا تعس! ابحث من جديد! إخلق معجزة!
ولكن لم تكن هناك ريشة! بحث في جيوبه فوجد سكينا صغيرا ركض إلى المعطف … هل أقطع قطعة صغيرة من الفراء وألصقها بالقلم، بشطفة خشب؟ ولكن من أين أحصل على الخيط؟ الآن ليل، والجميع نيام… سيعتبرونه مجنونا! وتناول قطعة الكرتون بغضب من فوق الأريكة ورماها فوق الطاولة وركض إلى غرفة النوم لجلب الوسائد ووضعها على الأريكة لكي تكون جلسته أعلى، وراح يلتقط أقلام التلوين مرة هذا القلم ومرة ذاك ودخل في حومة العمل.
راح يعمل دون استراحة. رفع النظارة عن أنفه وانحنى منخفضا نحو الطاولة، راح يوزع ضرباته القوية الواثقة، ويتراجع محدقا في المرآة التي كان ضبابها مليئا بالأضواء الملونة. ونتيجة الحر الذي كانت تبعثه الشمعات تندى شعر صدغي الفنان، ونتيجة التوتر انتفخت عروق رقبته. شعر بحرقة في عينيه اللتين أدمعتا، وتغيرت ملامح وجهه.
في النهاية رأى أن لوح الكرتون قد فسد تماما- كان واضحا أن الرسومات مشوشة بشكل سخيف، ومتنافرة تماما فيما بينها من حيث المعنى والهدف: حيث استعصى على الفنان ذاك الإلهام الحار، وكانت النتيجة غير ما كان يتمناه على الإطلاق. قلب لوح الكرتون والتقط القلم الأزرق وتجمد بعض الوقت. كان الألبوم المفتوح قرب أريكته. وكان يظهر من الألبوم التابوت الطويل والوجه الميت. أغلق الألبوم بحنق. ظهرت من الحقيبة بين الثياب قارورة كولونيا بزجاج مضفور. قفز نحوها بسرعة وفتح غطاءها ثم راح يشرب وهو يشعر بحرقة في حلقه، وقد شربها كلها تقريبا، وراح ينفخ وكأنه يزفر من لهبة عبقة من حنجرته الملتهبة وراح يزرع الغرفة من جديد بخطاه.
وسرعان ما استحوذت عليه قوة فتية وثقة شجاعة بكل أفكاره وبكل مشاعره، وإدراك بأنه يستطيع فعل كل شيء ويجرؤ على كل شيء وليس لديه أدنى شك بعد الآن وليست أمامه معيقات. لقد امتلأ بالآمال والفرح. بدا له أن الهواجس الشيطانية الكئيبة للحياة التي كانت تغمر بأمواجها السوداء خياله بدأت تتراجع عنه. أوصانا -المجد لك! تبارك الذي يأتي باسم الرب!
الآن وقف أمام رؤاه الذهنية بوضوح مذهل لا مثيل له حتى الآن، وقف ما تمناه قلبه الذي ليس عبدا للحياة بل لمن أبدعها تحدث لنفسه بأفكاره. السماوات المليئة بالضوء الأبدي، المتوهجة بلازورد الجنة والمضفورة بغيوم مدهشة رغم غموضها تراءت له، كوجوه مشعة، واجنحة لا تحصى لملائكة مبتهجة تبدت في الجمال الطقسي المهول للسماوات، الرب الأب الرهيب الفرِح، الرؤوف والظافر شمخ وسط هذا المشهد رؤيا عملاقة قزحية. العذراء بسحر يعز على الوصف بأحداق مفعمة بنعمة الأم السعيدة تقف فوق تجمعات السحب التي تظهر الأبعاد الأرضية الزرقاء المفروشة تحتها، هذه العذراء ظهرت للعالم ورفعت إلى الأعالي بيديها الإلهيتين طفلها المشع كما الشمس، ويوحنا البري القوي تزنر بجلد حيوان يجثو على ركبتيه قرب قدميها ويلثم طرف ثوبها بفورة حب وحنان وامتنان…
انطلق الفنان من جديد إلى عمله. كسر أطراف الأقلام وبسرعة وسعادة أمسكها بيديه وراح يشذبها بالسكين. الشمعات المحترقة انتفخت وانسكبت فوق الشمعدانات الساخنة وباتت أكثر حرارة قرب وجهه حيث علقت على طول خديه خصلات شعره الرطب.
في الساعة السادسة ضغط بقوة على مجس الجرس: لقد انتهى، انتهى! ثم ركض إلى الطاولة ووقف بقلب يخفق ينتظر عامل الفندق. الآن كان عندها قد غدا شاحبا إلى درجة كبيرة إلى درجة أن شفتيه بدتا وكأنهما سوداوان. كانت سترته معفرة بغبار ألوان مختلفة من الأقلام. اتقدت عيناه المعتمتان بعذابات غير إنسانية وفي الوقت نفسه ببهجة شديدة جدا.
لم يأت أحد. أحاط به صمت مطبق. ولكنه وقف وانتظر وتحول كله إلى انصات وانتظار. سيأتي عامل الفندق خلال لحظة، وهو المبدع الذي أنهى عمله وسكب روحه وفق الإرادة الإلهية نفسها سيقول له بسرعة كلمات رهيبة تعبر عن الانتصار أعدها مسبقا:
– خذ. إنني أهديك هذا.
كاد أن يغمى عليه من وقع نبضات قلبه أمسك قطعة الكرتون بقوة في يده. على الورق المقوى تكدست الألوان بشكل رهيب مما احتل خياله، ولكن بتناقض كامل مع أحلامه الجامحة. اشتعلت سماء وحشية زرقاء مسودة حتى ذروتها بنيران لهباتها دموية يتخللها الدخان تُدمر المعابد والقصور والمساكن. اسودت آلات التعذيب والسقالات والمشانق مع المشنوقين على الخلفية النارية. وفوق اللوحة كلها وفوق كل هذا البحر من النار والدخان انتصب بشكل شيطاني مهيب صليب ضخم عليه مصلوب مدمى معذب يمد يديه طائعا على أكتاف الصليب. الموت، في الدروع والتاج المسنن، كشر كاشفا فكه القبري دافعا وهو يركض إلى الأمام عميقا تحت قلب المصلوب رمحا حديديا ثلاثي الرؤوس. في أسفل اللوحة أظهر كومة فوضوية من القتلى، ومزبلة وخلافات وشجار بين الأحياء، وخليط من الأجساد العارية وأياد ووجوه. وهذه الوجوه مبتسمة تظهر أنيابها بعيون مسحوبة من المدار، كانت قميئة وقذرة ومشوهة بالحقد والشر وشهوة قتل الأخوة بحيث يمكن اعتبارها وجوه حيوانات ووحوش وشياطين ولكن لا يمكن اعتبارها وجوها بشرية.
باريز 1921