الحب والرحلات

الحب والرحلات

فيكتوريا توكاريوفا

ترجمة: د. أيمن أبو الشعر

عندما ظهر بروكوشيف صباحا في مرآب سيارات التكسي اقترب منه رئيس اللجنة المحلية بروتسينكو وقال له أن هناك رحلات سياحية إلى فرنسا لمدة عشرة أيام.

  • وكم ثمنها؟ – أبدى بروكوشيف اهتمامه.
  • سبعمئة روبل – أجاب بروتسينكو.
  • هكذا إذن! أبدى بروكوشيف دهشته – سبعمئة روبل لقاء عشرة أيام. عليّ أن أكدح يوميا سبع ساعات لمدة ثلاثة أشهر لجمع مثل هذا المبلغ.
  • إذن لا تشتر- بسط بروتسينكو الأمر- ما من أحد يجبرك على ذلك.

مر أسبوع. وبوكوشيف يعمل مرة في المناوبة الأولى، ومرة في المناوبة الثانية، ولكن حتى إبان المناوبة الأولى والثانية وحتى أحيانا في المناوبة الليلية لم يكف عن تفكيره بالرحلة السياحية. طبعا فكر بأن عشرة أيام هي أقل بعشرة مرات من الأشهر الثلاثة. ولكنها عشرة أيام على أية حال ليست في أي مكان بل في فرنسا حيث يمكن أن تمر الباريسيات مباشرة في الشوارع، وهناك حتى الأطفال الصغار يتحدثون بالفرنسية. بينما الأشهر الثلاثة هي تسعون يوما متشابهة كبقية الأيام – العمل في التكسي مع العداد، والعيش مع الزوجة لوسكا التي ازداد وزنها بعد الولادة ثلاثين كيلوغراما وظهرت في وجهها ملامح الخمول. ومهما كان المبلغ الذي تجلبه لها تقول “هذا قليل” وبدا أن بروكوشيف يقتر بالمال إذ أن البقشيش دخلٌ لا يمكن السيطرة عليه.

من أجل ماذا يعيش الإنسان؟ وعموما هل هو إنسان أم خنزير همه أن ينظر في الأرض بحثا عن ثمار البلوط. ومن ثم سوف يُعجِّز وتغدو رقبته ثقيلة لا يستطيع عندها رفع رأسه لكي يتأمل السماء.

أوصل بروكوشيف الراكب الذي كان معه ومن ثم أدار السيارة وعاد إلى مرآب سيارات التكسي. صعد إلى الطابق الثاني ودخل إلى مكتب رئيس اللجنة المحلية بروتسينكو وقال:

  • أعطني بطاقة الرحلة السياحية. إنها باريس على أية حال.
  • وهل كنت في بلغاريا؟ – سأل بروتسينكو.
  • لا لم أكن هناك.
  • أما أنا فقد كنت في بلغاريا. هناك بدل نعم يقولون لا. على هذا الشكل تكون: «لا” – هز بروتسينكو رأسه- وهكذا تكون “نعم” – هز بروتسينكو رأسه علامة النفي.
  • لقد قررت أن أسافر إلى فرنسا – تجاوب بروكوشيف- فليذهب المال إلى الجحيم. السعادة ليست في المال…
  • تنبهت في الوقت المناسب- أبدى بروتسينكو ملاحظته بتعاطف ودون سخرية- الرحلة إلى فرنسا التي تحلم بها أخذوها منذ زمن.
  • كيف؟ لم يفهم بروكوشيف.
  • كانت هناك بطاقتان فقط.
  • ومن أخذهما؟ -سأل بروكوشيف بصوت منهار-وظن أنه ربما لم يخسر كل شيء بعد ويمكن أن يتم تغيير شيء ما مثلا أن يقنع ذاك الشخص ويتودد إليه ويرجوه عابثا بأزرار قميصه وناظرا إلى عينيه.
  • وما هو الفارق – لم يجب بروتسينكو  متعاطفا مع زر قميص شخص ما وعينيه – أخذوهما وانتهى الأمر.

كان أنف بروتسينكو قصيرا، والمسافة بين أنفه وشفتيه طويلة ومشقوقة كالأرنب. شعر بروكوشيف أنه يكره هذا الشق. خرج بسرعة من المكتب وراح ينزل على الدرج وأدرك أن هذا الدرج يزعجه مع الدرابزين المدهون.

وكذلك البيت – البيت مع لوسكا (1) بشكل أقل إلى حد ما، ومع ابنته ناستكا. شعرت ناستكا (2) بانزعاج والدها ولهذا حين عادت من المدرسة لم تتناول طعام الغداء في المطبخ بل في غرفتها. وجلست بهدوء كما الفأر. وتنهدت لوسكا بهدوء ولكن من أعماق روحها متأسفة على حياتها الضائعة. ولكن لم تستطع أن تجعل التنهيدة هادئة فدوت التنهيدة كخوار بقرة في معلفها.

وهذا بديلا عن باريس.

كان هذا اليوم يوم الثلاثاء. يوم أسود. جاء بروكوشيف إلى المغسل لكي يغسل سيارته ورأى عاملة التنظيف الجديدة رايكا تتلاسن مع مديرتها المباشرة. احتدت رايكا من وراء الزجاج ولم تكن الكلمات مسموعة، ولكن كان يمكن أن يرى كيف تهز رايكا (3) يديها حينا للأعلى وحينا إلى الجانبين وأحيانا معا وأحيانا على حدة وهي تلبس فستانا قصيرا وشعرها مضموم وراء شريط مشدود. ولسبب ما فكر بروكوشيف لأول مرة في حياته أن الإنسان هو جزء من الطبيعة وغضبُ رايكا يشبه عاصفة ربيعية عندما تنهمر أمطار غزيرة لاطمة الأوراق الفتية. كان بروكوشيف في طفولته يركض تحت الأمطار الغزيرة موجها وجهه إلى المطر ويغمض عينيه نصف إغماضة. متى كان ذلك… لو أن بروكوشيف الآن خلع حذاءه وركض تحت المطر لظن الجميع أنه فقد عقله، ولجلبوا له مظلة لإنقاذه من المعاناة.

أنجزت رايكا الملاسنة مع رئيستها بل يمكن القول أنها لم تنجز الملاسنة بل قطعتها عند ذروتها وخرجت من المغسل بوجه متوقد بلطف وكأنه الخزامى.

  • رايا – أوقفها بروكوشيف- فلنذهب اليوم إلى السينما…
  • ولكنك متزوج- استغربت رايا، افترضت بسذاجة أن الناس المتزوجين يذهبون إلى السينما مع زوجاتهم فقط، أو أنهم لا يذهبون نهائيا إلى السينما. بل يجلسون في المنزل.
  • مرة متزوج وأخرى أعزب… – وعد بروكوشيف بشكل غير محدد.
  • حسنا عندما تغدو أعزب تعال -قالت رايكا بعنين زرقاوين مبللتين.
  • هل ستذهبين؟ – سأل بروكوشيف بجدية.
  • سأذهب- أجابت رايكا بجدية وهرعت لترتيب أمورها ناسية الخلاف الذي انتهى قبل قليل. ثم التفتت ولوحت لبروكوشيف براحة كفها.

“وماذا بعد -فكر بروكوشيف – أنتن كثيرات. تزوج من الجميع”. الزوجة لوسكا رغم أنها بدينة إلا أنها وفية. مجربة. إنها تتكاسل في الانتقال من مكانها… أما رايكا فتركض ملوحة بيديها… أن تكون لديك مثل هذه المرأة رايكا كمن لديه جاسوس في مقر هيئة أركانه.  ستهرب في أية فرصة مواتية كما هرب كوربسكي (4) إلى البولونيين من إيفان غروزني. كما أن بروكوشيف إنسان غيور إلى حد كبير. إن حدث شيء فهو إما سيطردها أو يقتلها ويجلس بعدها في السجن. والأرجح أن يقوم بالأمر الثاني. والسجن ليس هو المقصد الذي على المرء أن يسعى إليه.

كان النهار مشمسا وفتح بروكوشيف المذياع في السيارة على محطة “ماياك” “5”. حيث انسابت الموسيقى مرة ناعمة وأخرى مرحة. كانت السيارة مفعمة بالموسيقى وكأنها تتأرجح على أجنحة الرقة والمرح. ولم يعد الركاب إلى جانب بروكوشيف مستعجلين، باتوا وكما لو أنهم خرجوا من حومة الزمن، وكانوا لسبب ما يتحدثون عن أمر واحد هو غرابة الحب.

فهم بروكوشيف فجأة أنه وقع في حب الغسالة الشابة “رئيسة نيكانوروفونا”، وفهم أن حالة الحب هي الحالة الصحية. أما العيش بدون حب فهو مرض لا يجوز السماح به بأية حال من الأحوال وإلا فإن الروح ستموت. الروح تموت بدون الحب كما يموت الدماغ دون أكسجين. وطبعا -فكر بروكوشيف- فإن لوسكا إنسانة وفية وقوية. وكما تقول حماته: “السجن قوي والشيطان يسعد به” (6) وربما تتحقق السعادة مع رايكا، السعادة كثيفة بحيث لو تم تمييعها فإنها تكفي لثلاثة أشخاص. ويتبقى منها. ظل بروكوشيف طيلة الأسبوع يحلم ويقلب الأمور موازنا بين ما هو سلبي وإيجابي. فمن جهة يشعر بالأسف تجاه ناستيا رغم أنها وقحة وتمسح يديها بفستانها، ومن جهة ثانية فإن ناستيا ستكبر بعد عشر سنوات وتعشق وتغادر ولن تعود. ستتصل بالهاتف لتهنئ بيوم الميلاد أو بيوم الجيش السوفييتي… ومن أجل هذا الامتناع عن السعادة الشخصية…أدرك بروكوشيف بعد أسبوع أنه لا يمكن حساب وموازنة الأمور لأن كل ظرف له جانبان متناقضان تماما. يجب القيام بتصرف حازم ومن ثم تقدير الحالة الناشئة من داخلها.

ارتدى بروكوشيف طقما بلجيكيا أنيقا وجاء إلى المغسل وطلب أن ينادوا على رئيسة نيكانوروفنا.

  • لقد استقالت- قالت له المسؤولة التي كانت قد تلاسنت معها.
  • لماذا؟ – لم يفهم بروكوشيف.
  • تزوجت. زوجها لم يسمح لها بأن تعمل في مرآب سيارات التكسي.
  • لماذا؟ – سأل بروكوشيف مرتبكا بصوت منهار.
  • لأن السائق رجل- قالت المسؤولة وغادرت.

بعد هذه الحادثة لم يأخذ بروكوشيف بقشيشا من أحد طيلة عام تقريبا. ليس من أجل المبدأ وليس نتيجة اعتبارات وعي راق بل نتيجة عدم المبالاة. بات كل شيء لديه سيان. وفكر في كل شيء: “وما الفارق؟”… باتت لوسكا بمبادرة منها تشتري له زجاجة بسعة نصف لتر. وكان يشرب وتترسب اللامبالاة من الصدر إلى البطن ومن البطن حتى الكعبين عندها غدا بروكوشيف كله لامبالاة كاملة. حتى أنه لم يعد يخلع ملابسه وبات ينام بنفس الملابس التي عمل بها طوال النهار.

استدعت لوسكا والدتها من رستوف لكي تتجاوز الاحساس بالوحدة. سابقا لم يكن بروكوشيف يتحمل حماته فهي تترك شعرها في كل مكان في المشط والحساء.

ولكن الآن كان الأمر سيان بالنسبة إليه. اللامبالاة -كشبكة العنكبوت- الملتصقة في الجدار والمعلقة في السقف وكان من الضروري نقله باليدين لكي يتنقل في الشقة عبر شبكة اللامبالاة.

ذابت الثلوج أواسط آذار ثم عاد الصقيع من جديد فتشكل الجليد. وراحت السيارات تنزلق وتدور حول محورها، وكانت تأتي سيارات تكسي معطوبة طيلة اليوم إلى المرآب.

كان بروكوشيف عائدا من مطار دوماديديوفا ويسير بسرعة عادية بالنسبة لطريق السفر حوالي ثمانين كيلومترا في الساعة، وفجأة ظهرت أمامه امرأة عجوز معروقة تلبس ثيابا سوداء كانت ملفحة بالسواد تماما كعود ثقاب محترق. كانت تسير ساهمة في التفكير كما لو أنها تتمشى في فسحات عشبية وسط الغابة وتتذكر بعضا من شؤون شبابها. أدرك بروكوشيف أنه لن يلحق أن يضغط على الكوابح وأن لديه كما هي العادة مخرجان: الأول أن يتابع إلى الأمام ويدهس العجوز والثاني أن ينعطف بحدة نحو اليمين، وقد أدار بروكوشيف المقود نحو اليمين إلى عجلات عالية لحافلة سياح أجانب. لم يكن لدى حافلة السياح أي خيار أو وقت للتفكير بمخرج، واصطدمت مباشرة بسيارة بروكوشيف الفولغا ذات اللون الأخضر مع شارة التكسي على جنبها. ارتطم صدر بروكوشيف بالمقود. عبرت العجوز الطريق العام السريع دون أن تلحظ شيئا، وتابعت سيرها محافظة على تأملها الفلسفي. وفكر بروكوشيف أنه بسبب إحدى العجائز الموغلة في العمر التي يبحثون عنها في العالم الآخر حاملين الفوانيس حطَّم سيارة حكومية، وحطم صدره أيضا. وأحس أنه سيكره المرأة حتى تلفظ أنفاسها. سحب بروكوشيف نفسا عميقا لكنه لم ينسحب حاول مرة أخرى أن يسحب نفسا ولكنه لم يفلح كما لو أن فمه وأنفه التصقا بشدة براحة كفه. لقد انقذف إلى الأعلى والأسفل وظلت حياته هناك في مكان ما مع لوسكا البدينة الوفية وابنته الحبيبة ناستيا الوقحة والأمطار الغزيرة في مدن أخرى…

اجتمع كل موظفي مرآب سيارات التكسي في يوم التأبين. وتحدث بروتسينكو وأربعة أشخاص آخرون. وأشاد كل من تحدث ببروكوشيف الذي كان رجلا مستقيما ومات كالأبطال.

 

  • لوسكا هو تصغير استلطافي لاسم لوسا
  • ناستكا هو تصغير استلطافي لاسم ناستيا
  • رايكا – رايا هو تصغير استلطافي لاسم رئيسا أو رئيسة.
  • أندريه بورسكي ضابط غضب عليه القيصر نتيجة هزيمة عسكرية يقال أنها حدثت نتيجة خيانته وتعاونه مع المخابرات الليتوانية، وقد خالف من انتقام القيصر وهرب إلى الليتوانيين الذين أغدقوا عليه العطايا.
  • أشهر محطة إذاعية اجتماعية تهتم بالمنوعات زمن الاتحاد السوفييتي لهذا ذبذبات خاصة تصل إلى الجميع تقريبا
  • من الأمثال الشعبية التي تدل على أن الشخص موثوق يمكن الاعتماد عليه