الرسائل الوجدانية زمن الحرب
- القصائد المقاومة أغان ورسائل ساهمت في صنع النصر إبان الحرب الوطنية العظمى في الاتحاد السوفييتي
بقلم: د. أيمن أبو الشعر
قدم الاتحاد السوفييتي أثناء الحرب العالمية الثانية – الحرب الوطنية العظمى-أكثر الصفحات الإبداعية المضيئة إنسانيا وتضحية وفداء وحماسا في جميع الفنون، وخاصة الشعر والقصة والرواية. وكان من البديهي أن تكون القصائد سواء التي تحولت إلى أناشيد وأغان، أو تلك التي تم تناقلها على كل لسان كتأكيد على المقاومة أكثر التصاقا بالمشاعر المتأججة عدا عن أنها لعبت دورا حماسيا مباشرا، ورافقت الجنود وهم يتوجهون إلى الجبهات، والأنصار الفدائيين وهم يقومون بأعمالهم البطولية خلف خطوط العدو أو في المناطق التي احتلها، عدا عن تشجيع الناس في الداخل على مزيد من الصبر والعطاء. وحتى أولئك الأدباء الذين لم يتمكنوا من خوض الحرب بشكل مباشر نتيجة عوامل عديدة وضعوا ظانفسهم تحت تصرف قيادة الدفاع الشعبي حتى أن الكاتب الكبير ميخائيل شولوخوف صاحب الدون الهادئ كتب إلى للجنة الدفاع الشعبي يقول” اعتبروني مستعدا في أية لحظةللانخراط في صفوف جيش العمال وافلاحين الأحمر للدفاع عن وطني الاشتراكي حتى آخر قطرة من دمائي” (1)
ويلفت النظر في هذا المجال أن انخراط غالبية السكان في الدفاع عن الوطن جعل الكثيرين من الأدباء والشعراء يعايشون تجربة القتال ضد النازيين بشكل مباشر، ويشاركون في المعارك مما أعطى لنتاجاتهم مسحة حميمية واقعية منبثقة عما عاشوه وعايشوه، واستشهد المئات منهم وهم يحملون السلاح، أو في معسكرات الاعتقال. وانتشرت القصيدة الأغنية كالنار في الهشيم، ومن أوائل هذه الأغاني اللاهبة قصيدة الحرب المقدسة لكوماتش، والتي لحنها الكساندروف وأدتها فرقة الجيش الأحمر:
وليكن للغضب الشهم أن يغلي كالموج
فالحرب الشعبية تمضي
إنها الحرب المقدسة (2)
وتنوعت الأغنية القصيدة، فتناولت حتى أنواع الأسلحة والعمليات الحربية، فهناك أغان عن معراك الدبابات والطيران وأخرى عن المشاة أو البحرية:
ووداعاً يا هوانا يا مدينةْ
في غدٍ للبحرِ نمضي
من عميقٍ نحو أعمقْ
إذ يلوحُ الشالُ حباً
خلف ألواحِ السفينةْ
راعشاً واللونُ أزرقْ (3)
وانتشرت بشكل خاص في الحرب الوطنية العظمى القصائد الأغاني التي تتحدث عن الحياة والفراق والحب والخوف من الموت فقط لأنه قد يحول دون هذا القاء المنتظر، وبشكل خاص تلك التي تنبثق عن تجربة حقيقية كما في القصيدة الأغنية “في المكمن الأرضي” لسوركوف الذي كان في الجبهة ووقع في حقل ألغام، فتذكر حبيبته وهو على بعد خطوات من الموت، ولكنه يتمكن من الوصول إلى المكمن الأرضي وهو أشبه ما يكون بغرفة صغيرة منيعة وسط الخنادق تحت الأرض:
كي ألتقيكِ الدربُ نائيةٌ قصيةْ
وببضعِ خطواتٍ إلى الموتِ الوصولْ
في بردِ هذا المكمنِ الأرضيِّ إني أتدفّا
بالحبِّ حبُّكِ ليس يُطفا (4)
من جهة ثانية حاولت القصائد الأغاني أن تستنهض التراث الثوري والعزف على الحس الأممي، وحتى استنهاض مشاعر التلاحم إبان الحرب الأهلية انطلاقا من تعايش القوميات في وطن يضم قوميات عديدة تتنافس على الفداء والتضحية في سبيل صونه والدفاع عنه، يضاف إلى ذلك اعتماد اللغة البسيطة، والعبارات السهلة والجمل السريعة بحيث تحمل بذاتها إيقاعات يمكن ترنيمها، ثم تأخذ مداها إبان التلحين والأداء. ولم يخل الأمر من ملامح المرح الضرورية في هذه الأجواء الجهمة، والاعتماد على المفارقات الحياتية محملة بالروح الوثابة، ومرتبطة ارتباطا وثيقا بالحرب والمقاتلين دفاعا عن الوطن، والشوق للحبيبة التي تنتظر أن يعود حبيبها بطلا حقيقيا سجل المآثر، ثم تتراجع في أحلامها وتُبَسِطها في إطار مداعبة مرحة متمنية أن يعود حيا وهذا أهم شيء:
حينَ مضى للحربِ الجهمةْ
في ليلٍ نجميِّ الظُلمةْ
عرضَ على المحبوبةِ قلبهْ
فأجابتْ تلكَ المُعتدةُ وهي تمازحْ
حينَ تعودُ وفوقَ الصدرِ وسامْ
نتحدثُ في أمرِ الخطبة…
لم تمنحْهُ الحربُ وساما
لكنْ كُرِّم بمداليةْ
كالطائرِ جاءتهُ رسالةْ
عُدْ لي حتى بِمداليةْ (5)
ولعل من أشهر القصائد الأغاني إن لم تكن أشهرها على الإطلاق قصيدة قسطنطين سيمونوف “انتظريني سوف أعود”، وقد ساهم في شهرتها الواسعة كذلك أنها كرست نمطا واتجاها كاملا في أدب الحرب، وهو أدب الرسائل من الجبهة، ويلخص فيها الشاعر بشكل حي وحميمي جدا تلك المشاعر التي يعيشها الجندي، وهو يقاتل الأعداء، ويخفق قلبه بالحب، ونتيجة هذا الحب يؤمن أنه سيعود حتما لحبيبته إن كانت تنتظره بكل تلك اللهفة التي عنده، والحقيقة أن القصيدة الأغنية – الرسالة هي في الواقع موجهة إلى الجمهور عبر الحبيبة لأنها تعكس مشاعر فردية- عامة فردية، بمعنى أن كل شخص يعيشها بدرجات متفاوتة، وعامة كونها تمثل ذاك الجيل المقاوم الذي يمنحه الحب القدرة على التغلب على جميع الصعاب، والرائع في هذه القصيدة أن الجنود حين انتشرت بسرعة هائلة بينهم كانوا ينسخون بعض مقاطعها ويرسلونها لحبيباتهم عبر رسائلهم من الجبهات:
انتظريني سوفَ أعودْ
لكنْ انتظري بصمودْ
انتظري إنْ حزنٌ جاءْ
عبْرَ الأمطارِ الصفراءْ
انتظريني سوفَ أعودْ
وسْطَ الحَرِّ أوانَ يهوجْ
إن هبَّتْ عاصفةُ ثلوجْ
… حين يملُّ جميعُ الناسْ
حلمَ المنتظرِ الموعودْ
انتظريني سوفَ أعودْ
وهو يستنهض في هذه القصيدة ليس مشاعر الصمود وحسب، بل ويطالب حبيبته بألا تصدق ما كان يشاع أحيانا عن أن فلانا قد قتل، وفلانا قد أسر، ويطلب منها أن تسترشد بقلبها وألا تفعل كما فعلت بعض الفتيات اللواتي قيل لهن أن الذين ينتظرنهم قد ماتوا، وآن أوان النسيان. ومثل هذه القصص تكرس فاجعة ثنائية حتى وإن كان الأصدقاء قد أقاموا مأتما بصدق، فهو يشدد على رفض الاستسلام لهذه الأنباء لأن الحب الهائل بينهما سوف ينقذه حتما:
لا تتمني الخيرَ لِمنْ
يحفظُ غيباً أنْ قد حانْ
في البُعدِ أوانَ النسيانْ
… وليتعبْ صحبي في الدارْ
منتظرينَ بقربِ النارْ
وعلى ذكرى روحي خمرا
إن جرعوا تذكاراً مُرّا
لا ترتشفي كأسَ خلودْ
انتظريني سوفَ أعودْ
ثم تجيْ الخاتمة الموضحة لهذه الأسطورة، وهي أن الحب الحقيقي يستطيع أن ينتصر على الموت نفسه الأمر الذي يصعب فهمه على الناس العاديين لكن العشاق لا يفهمونه وحسب بل يعيشون انتصاره:
…لن يفهمَ أحدٌ أبدا
وسْطَ النارِ برغمِ الموتْ
صبرُكِ أنقذني فنجوتْ
كيف حييتْ
لا بدَّ سنعرفُ ذاكَ غدا
وحدي أعرفُ ذاكَ وأنتِ
يكفي أنَّكِ أنتِ قدرتِ
أن تنتظري دونَ سُدى
وكمثلكِ أحدٌ ما صمَدا (6)
أخيرا أود أن أشير إلى أن قصيدة انتظريني سوف أعود باتت عنوانا للنتاجات الإبداعية المقاومة لسنوات عديدة بعد الحرب، بل يمكن القول أنها مستمرة لأجيال عديدة، وانتشرت كذلك بشكل هائل بين الطلاب الأجانب الذين يحفظها قسم كبير منهم، كما أنها ترجمت إلى العديد من اللغات بما في ذلك إلى العربية، ولعلها من بين القصائد القليلة التي لاقت اهتماما كبيرا من الأدباء والشعراء العرب الذين قدموا ترجمات عديدة جميلة مقاربة لروعة هذه القصيدة.
- – كاسالابوف شعر الرجولة دار الأداب الفنية ص 238
- كوماتش ليبيديف أغان وقصائد ص 141
- أنطولاوجيا الشعر السفييتي المجلد 2 – ص 391
- سوركوف المجلد 1- جار الآداب الفنية ص 230
- الكسي فاتيانوف مختارات دار الآداب الفنية ص 28
- للتوسع انظر مؤلفنا الشعر السوفييتي-الروسي دراسات وترجمة المجلد الأول 1986 ص 466-467