أيمن أبو الشعر شاعر الالتزام لا الإلزام
الدكتور سهيل الملاذي
أيمن أبو الشعر هو عطاء فني متميز عبر مسيرة شعرية طويلة أكد فيها ذاته وحقق بشعره جماهيرية واسعة وشق لنفسه طريقا بين شعراء الجيل منضويا في مذهب شعري يجمع الالتزام إلى الحرية ويمزج الأسطورة بالرمز حين نقول الالتزام فنحن لا نعني الإلزام ولا نرى فيه فكرا مفروضا سلفا بل نقصد العفوية النابعة من حس وطني وقومي سليم يستمد مقوماته من حضارة عريقة وجذور عميقة وتراث أصيل. فأنت تحس رغم انتماءات أيمن أبو الشعر العقائدية أن ليس ثمة مواقف إيديولوجية مسبقة تفرض عليه ما يقوله بل لنقل إن شعره هو الذي يحدد أيديولوجيته لا العكس ويسوقها نحو الحس الجمعي ويجعلها تنتمي إلى التاريخ والحاضر والمستقبل لأن هذا هو منطق الأمور. وحين نقول الحرية فهي حرية الوطن والإنسان والشاعر مستعد للدفاع عنهما حتى النهاية ليس قولا وحسب بل ممارسة في كل لحظة معاشة وحين نقول الرمز فهو الرمز الشفاف الأنيق الموحي المستمد من الواقع والحياة والطبيعة والأسطورة يرسم فيه صورته المعبرة والمفهومة بآن معا وحين نقول الأسطورة فنحن نغوص في أعماق الزمن تستيقظ فينا ذاكرتنا الشعبية وننتبه إلى عشتار وتموز وأدونيس وغلغامش يمثلون أمامنا ونرحل معهم إلى بابل وصور وأفاميا وإبلا وأوغاريت ونشعر أن تريخنا متصل بهم وأنهم حاكو نسيجنا.
أيمن أبو الشعر يغرف في شعره من ينبوع شعوره المرهف الذي يقدس الخير والجمال والحب والوطن. الكلمة عنده مسؤولية وأمانة وهو حريص على أداء الأمانة والقيام بالمسؤولية من هنا كانت جماهيريته التي تكمن في هذا التعبير الصادق عن آلام الناس وآمالهم وطموحاتهم وانتمائهم إلى الأرض والتراب والتاريخ والجغرافيا ولهذا يتغلغل شعره في مطاوي الضمير يحرض اللاشعور بالشعور ويدغدغ الوجدان بالأمل، ويعري الشر بالخير ويدحض الظلم بالعدل ويكشف الزيف بالصدق، إنه يعبر عن أعماق كل نفس نبيلة من كبرياء فيدين الضعف والتخاذل ويرفض التطبيع والتفريط والتهاون والمهادنة والتذلل وإلغاء الذات وتقبيل يد الجلاد.
أيمن أبو الشعر في مدرسته الشعرية يؤكد ما رمى إليه فؤاد الشايب حين ميز بين الأدب السياسي وهو أدب الديكتاتورية والسوط والظلم والسياسة الأدبية وهي على النقيض تعني إشراك الفكر في بناء المجتمع السياسي إشراكا مطلقا وطليقا من العصبية إن السياسة الأدبية عندهما هي عمل اجتماعي جليل يشد الأدب إلى الحياة، وإن مهمة الأدب في توجيه السياسة هي خلق الحس القومي والاجتماعي في الكتلة الشعبية توج أيمن أبو الشعر إصداراته الشعرية بديوان انتحار الدلفين في مئة وثمان وعشرين صفحة صدر عن دار الطليعة الجديدة في دمشق يضم ست عشرة قصيدة معظمها من شعر التفعيلة وبعضها على عمود الشعر التقليدي. في هذا الديوان تتوضح معالم المدرسة الشعرية التي ينتمي إليها الشاعر، وتصبح تجربته أكثر نضجا.
هيفا هي إحدى تجليات المعزوفة المحورية للشاعر ينوع على ألحانها أوتاره ورؤاه، إنها الحبيبة الوطن، الحبيبة القضية الإنسانية التي يؤمن بها ويشحنها بأروع صفات الوفاء والصمود ليستمد تفاؤله من رمزها في الوقت العصيب. حينا تبدو الحبيبة دمشق أو الشام، فنراه يبثها عشقه ولهفته يقول في قصيدة دمشق ترفض ألعاب الشطرنج:
يا بابا لم يبق الآن سواه يدق
ضميني أقطع من عيني كحلا لدمشق
ضميني صفوة تكويني لرباك العشق
هلهولة: المجد لأحجار الصوان
هلهولة: المجد لأحداق الفرسان
هلهولة لن ترمى الشام على الميزان
وأحيانا يجتزئ الشاعر من رمز الحبيبة الشامل مساحة يتكثف فيها جرحها ليناجيها كحبيبة وعاشق كما في قصيدة إلى حبيبة تدعى الوطن حيث يلتحم الشاعر بالجولان الوطن ويتعانقان عناقا حميميا كما هو عناق الأم والولد، وهنا يعطي الجولان بعدا أكبر من الجغرافيا لأنها تمثل الوطن الأكبر:
لقد شدوك يا جولان عن صدري
وشالوني عن الشفتين محمولا
وغطوا بالأهازيج ارتعاشاتي
وحبر زائف الأنباء قد رشوه معسور
وكم رسموا شفاعا كي تشاغلني
وحسي كان مغلولا
لثمت لثمت من ألمي
وما زالت بثغري نكهة الإشراق
طعم القبلة الأولى
وحين يتسع مجال الحديث ليدور حول الصراع الشامل نرى الشاعر يتوغل في عالم الأسطورة السحري بحيث يتاح له توسيع رمز الحبيبة، ويستطيع بما يتوفر له من رؤى ورموز موحية اسقاط الجوانب السلبية في هذه الجواء الأسطورية على مساحة الواقع المعاش، وهنا تبرز أمامنا رموز عشتار وبنلوبي وأوليس وحصان طروادة في نسيج تكاملي ملحمي يحافظ فيه الشاعر على خيوط التواصل مع المتلقي عن طريق ارتباط المشهد الواقعي بخلفيته الأسطورية يقول في قصيدة موت بنلوبي:
أوليس لم يزل مقاتلا بلجة البحار
لم ينس أمجاده
لكنهم شدوا لآرز المكر بنلوبي
وشادوا من ربى بيروت
حصان طروادة
وكثيرا ما يستحضر الشاعر بطله الأسطوري من زمنه الغابر ليرمز به على شخص آخر في ظروف جديدة مع المحافظة على جوهر رمزه وتشابه إيحاءاته، وهكذا تبدو عشتار فتاة من حي الفقراء سيقت إلى قصر الطغاة الذين يضطهدونها لكنها تظل تحلم بالثوار يوميا إلى أن تحقق حلمها وجاء الثوار، غير أن هؤلاء لم يكونوا ثوارا حقيقيين إذ سرعان ما بدأوا بدورهم يمارسون القهر ذاته على الآلهة عشتار التي هي في الوقت نفسه الفتاة الفقيرة وهيفا وبنلوبي والحبيبة الوطن. يقول في قصيدته عشتار تحلم بالثوار:
في القصر وليمة غصت قاعات الأزهار
وفتاة من حي الفقراء
عيناها تحلم بالثوار
ساقوها للقصر يتيمة
هيا غنينا يا عشتار
هزي الردفين وفكي أغلال الأزرار
تساقط رطب وغنيمة
فتحدق في ألم عشتار وتغيب لتحلم بالثوار
جنت رغبات الأشرار عروها امتنعت
ضربوها
عرضوا نهديها للزوار
و اكتملت في الليل جريمة
بفتاة من حي الفقراء عيناها تحلم بالثوار
السحب انفجرت في الساحات
وانتفضت أوردة الأموات
وانطلقوا للقصر عزيمة
فتهاوى الرعب
انقطعت أطراف السعلاة
وانتحرت غيلان الحية
وتحقق حلم ظل يطوف زمانا في جفن أسيرة
لكن المائدة كبيرة
والجوع يعربد كالكفار
كبرت أسنان الثوار
واتسع الحلق مع الفكين
لفتهم هالات الأنوار
واشتعلت أحداق الغيرة
فأضاعوا السمت من العينين
فكوها عارية كانت
وتمادوا في دعك النهدين
خطبوا بالحشد بيوم الثار
تفديك دمانا يا عشتار
وتنادوا للنصر مسيرة
منحوها أوسمة الأطهار لقبا فخريا كأميرة
وتتالت أفواج الأحرار
رفعوها للعرش اصطفوا
بالشبق الفاضح نادوها
ذهلت ما ردوا اغتصبوها
في صحن الدار
فبكت من ألم عشتار
وعادت تحلم بالثوار