ما يبقى من الشعر هو بصمة روح شاعره الخاصة التي تتخذ في الكتابة شكلاً فنياً متوحداً مع بناه المعنوية ولا شك أن هذا التوحد يفترض في صورة جدلية خلقاً أصيلاً للمكان في الشعر بمعنى الالتصاق الحيوي بالبيئة المكانية لكائن الشعر وكونه إضافة إلى المعادلة المركبة لمسألة الزمان التي تحتم عدم استهلاك المرحلة للزمن الشعري واجتناب الاغتراب المطلق في حالة بناء التخطي الزمني التاريخي ، ثمة اتساق جميل لشعرية أيمن أبي شعر مع هذا السمت الإبداعي رغم اعتكافه في دار الفلسفة المرحلية واستغراقه في الحفر في المشهد اليومي لإنسان المرحلة ، وقد تحقق ذلك الاتساق من خلال بناء جذوة لاهبة طازجة في اللغة الشعرية تحلق بجناح ا لغنائية الخصبة التي تشرق بها حواس أبي شعر :
خل من في القاع يلهو
ضاحكاً و س المرايا
قم بنا يا حزن هيا
قد يواسينا المسير
فالمدى يبدو هنيا
لا تسلني ما المصير
فيك رمت الفرق بين
الطير جثماناً
وجثمان يطير
حانياً تدري بأن الومض
في الأحداق بوحي
كرنفال النار في قلبي تجلى
وجه طفل صامت مثل الرحيل
لقد وجه أبو شعر شغله الشعري نحو محاورة شجية لأفق الواقع ، كاشفاً سوءته بنبرة طللية هجائية من جانب ومن آخر مبشراً بإشراق خلاصي كل ذلك بدافع توجهات الشاعر الفلسفية التي تسمو محرضا ًأساساً لتكوين الشعرية عبر فعل استقصاء للطاقات المخبوءة في المسكوت عنه أو المحظور أو المقهور أو الظلامي فيدفع الشعر لأن يكون معانقة ميتافيزيقية للخلاص الوجداني /الإيقاع الكوني الذي يضبط أحاسيس و حلمية الشاعر الاختراقية بوصفه الكائن السيد وبالتالي الشعراستشفاف لأداء الكائن الجمالي للحلم والتراجيديا معاً وهذا ما يحث الشاعر على اختراق التشيؤ عبر تفجير الواقع الروحي الخصب فيه لشحنه بسمو يتحصله لبناء غناء إيقاع ضوئي يحرر الانضغاط الذاتي والواقعي للشاعر و يحقق رؤيته :
ماذا بنا
فنشد غصناً من شجيرات الرؤى
ونقول تلك حكايا مرت بنا
يكي بنا التذكار به
ونعيده
ونبثه أسرارنا فيصونها لغة
من الرعشات تسري بيننا
…
وسيبدأ بالسكر الجميل أوان
يرشف روحنا
خمراً هي الأنت التي كأس لها دوماً أنا
إن الشاعر ينشط شعريته عبر اجتراحٍ مجرى للضياء الوجداني في اللغة التفصيلية أو الخطابية في القصيدة مما يحررها من مجانية التعبئة الصوفية ككفاية شعرية تموج عليها ذاتية الشاعر المغلقة بالذهنية ، فتمارس اللغة اليومية حالة انكشاف حر عن وهج خصوصيتها التعبيرية بلكنة غنائية ثائرة لا تخمد أو تفتر لأنها تمتح من جرح إنساني ، لذلك تحس و أنت تقرأ أيمن أبي شعر و كأنك تداري لغة مبللة بالدم حبلى بالنزيف الذي لا تعرف من أي خاصرة للحرف سيتفجر :
أنا نزف شريان قهر الرجاء
تدفقت إذ معصمي في نصال الشرك
توغل في عظمه ناب فخ السوار
وسالت دمائي لما انشبك
إن غنائية أبي شعر من نوع آخر إنها دراما غنائية ملتهبة بعيدة عن السكون و التأمل الذهني ، فهي توقع همهمة الجرح ونزقه و لا تنغم حرقة الداخل و حسب و هكذا تصير للغنائية فتوحاتها الشعرية الممتازة عبر ارتقائها إلى مدارات صفاءاتها خاصة عندما تعالق معنى مفتوحاً للتجربة الإنسانية المتخلصة من ضحالة اللغة العاطفية الأولية العائمة على الأحاسيس البسيطة ؛ و الموغلة في استشراف جهات القهر الروحي ، فتتملك الغنائية في هذه الحالة خصوبة انكشافها عن عوالم شديدة السحرية والتنوع والسرية التي تعني محيط خصوبة الوجود الإنساني الفريد ولحظة تشكله الجمالي :
فكم ذا بحلمي أفقت
وألغيت فيه اكتمالي و كم ذا بصحوي غفوت
فأفقت فيه احتمالي
ظلالا غدوت
فلا أملك الحق في أن أعيش بصحوي
وفي الحلم
في أن أموت
أيا برق يا برق .. رفقاً
بعتمي
ما أسطعك
لم تعد الغنائية لدى أيمن أبي شعر توقيعا لرغبة الذات الناصعة بعواطفها ، بقدر ما تتحول إلى صيرورة تشكيلية لوجوده المتدفق لحظة شعرية لمدارات تفتحه على العوالم السرية للوجود، إن الغنائية استكشاف في مجهول التكوين الإنساني وتوقيع إضاءاته بخبرة تصفّيه وتوهجه ضمن إطار الاختزال النقي والغني معاً لمعاني الكون المكتشف بالغناء الحر الدافئ مما يجعل الحماس و الخطاب المباشر يتقوض ذاتياً بين ضفاف الغنائية :
حصانك ماكبا و يظل خلفــي
حصاني سابق مهما كبا بــي
نما نبضي سـلالم للقبــــــاب
بذكرى من سلالم دقّ بابـــــي
..
ومهما عاث في عش غـــراب
حرام أن يقارن بالعقــــــاب
أمن في ريشــــه أدران روث
كمن بجناحه طعم السحاب
تنبثق غنائية أيمن أبي شعر من فيض لغة الحواس التي تنفتح بحساسية شعرية متوترة على جسد الحياة تتقراه تذوقه تشمه ، تسمعه ، تتخيله ، تخاطره تتقمصه ، وتعيد صياغته من جديد إيقاعاً شعرياً هائماً ، إن اكتشاف غنائية الحواس يعني إعادة بناء تشكيلات الحياة المستمرة المتنوعة ، مما يدفع هذا الشعر أحيانا إلى مغازلة صريحة لمجال لصورة الرومنتيكية و تقاطيعها الفنية و الفكرية ، لكن الشاعر لا يرتخي بتأمله إلى اجترار فلسفتها وتقاطعها مع الطبيعة كون الشاعر يوجه هذا التأمل إلى الحفر في جغرافية الهم الإنساني ، فيصير الشعر جدلاً حيوياً لبناء الحياة بحس درامي ينزاح عن الوصفية الساكنة لحياة الرومنتيكية ؛ لكن ذلك لا ينجو بلغة الشعرية من تحجرها القاموسي واستهلاكها أحياناً نتيجة دورانها حول ألفاظ محددة يتوهم شعريتها و جماليتها مما يضيّق بكارة حياة القصيدة من جانب ، ويوجهها من جانب آخر إلى ميادين خطابية حماسية أرضها وقع الحافر على الحافر مراراً :
هذا النداء صقيع
فيه الجليد مدى
حتى الرجاء نجيع
ينساب محض سدى
ودعتها و مضيت
وطويت ذاكرتي أحسست إعصاراً قد طاف في رئتي
البرد في الساحات
بشوارع الحانات
أرتج كالمحموم
يبقى لأيمن أبي شعر وهجه الشعري الخاص الذي تمكن باقتدار من بناء جمهور متفاعل مع خطابه الشعري لاسيما في مرحلة يندر فيها هذا التواصل الذي حققه أبو شعر في حميمية أليفة تدفعنا دائماً إلى قراءة ملامح هذه الروح الشعرية التي يحبذها الجمهور دون غيره لربما نستطيع القول مع إضمار سوء الظن بالمعيار الثقافي النقدي السائد إن أبا شعر غنى هموم الآخرين ببساطة و عفوية صادقة صادرة عن تجربة فنية خاصة في عناقها مع كائن المرحلة دون تعال أو إسفاف فحرر الشعر من أقنعة و قيود الذهنية الثقافية فتحرر له جمهوره .