دراسة للدكتور عادل الفريجات
تأتي مجموعة الشاعر أيمن أبو الشعر “عصفور محكوم بالإعدام” الصادرة في دمشق 2004 بعد ثلاث عشرة مجموعة شعرية لهذا الشاعر الذي شارك في المشهد الشعري السوري بقوة منذ أكثر من ثلاثة عقود خلت، إذ صدرت مجموعته الأولى “خواطر من الشرق” عام 1971.
وتثبت هذه المجموعة كما أثبت غيرها من المجموعات أن شاعرنا متورط في هموم وشجون المواطن، ومسكون، على نحو رئيس بهواجس الحب والحرب، أو فلنقل بشؤون النضال والعشق، وكلاهما يغرفان من نبعة واحدة، إذ لا يحب أمته بإخلاص امرؤ يكره الناس، ولا يقوى على عاطفة العشق من لا تؤرقه شؤون بلاده وشجونها.
تجلت هواجس الأمة في قصائد معينة تمثلت في القصيدة الأولى في الديوان وهي بعنوان “عصفور محكوم بالإعدام” التي تتحدث عن استشهاد الطفل (محمد الدرة) في أحد شوارع غزة. وفي قصيدة “قنبلة الجسد” التي تشرح للناس طريق الجلجلة التي يسلكها من يفدي وطنه بروحه مفجرا جسدا في جموع الأعداء. وفي قصيدة “لم يحدث شيء” التي تتخذ من منطق الأعداء مادة للسخرية، ثم تكر عليه لتبطله وتنقضه. وفي قصيدة “دعوني أموت كما أشتهي” التي تناجي العراق الجريح تاريخا وحاضرا، بعد أن وضع بنوه بين خيارين أحلاهما مر، هما: سياط الطغاة ونعال الغزاة، كما يقول الشاعر في قصيدته تلك (ص 63).
أما شؤون القلب وشجونه، فتجلت في قصائد أخرى مثل قصيدة “عودة حبيب” و “سقطت أجمل قلعة حب دون قتال” و “ما الذي تبغين بعد الآن مني” و “أبغي العناق كي لا تلمحي وجهي” و “حبيبي كالأريج نسيم روض” و “أيها الرائع مهلا، و “أفدي عيونك… الخ.
وتنزل الشعر في هذه المجموعة وفق نمطين اثنين من أنماط الشعر العربي السادة اليوم وهما: شعر الشطرين، وشعر التفعيلة.
- العنوان
- التكرار
- التناص
- لغة الديوان
- العنوان:
اختار الشاعر أن يجعل عنوان القصيدة الأولى عنوانا للمجموعة كلها، وفي هذه المجموعة – كما ذكرنا-تجسيد لمقتل الطفل (محمد الدرة) على أيدي المجرمين الصهاينة إبان انتفاضة الأقصى على مرأى من أحداق العالم وشاشات التلفزة.
وللعنوان عامة، وجوه من الدلالة، فهو يمثل العتبة الأولى التي نعبرها إلى النص، وقد يمثل قراءة ثانية له، أو قد يرسم اتجاه البوصلة التي يريد الشاعر أن نتبعه لنعرف مراميه.
وعلى الرغم من ان هذا العنوان لم يختر من خارج القصائد المحتواة، فإننا نرى فيه المحدود يمتد، والمجزوء يتكامل، ففكرته الكبرى تشير إلىكفر بالمحتل واستنكار لظلمه، وترحيب بالحرية، وتخليد للبطولة، وتنديد بالتخاذلم، فميتة محمد الدرة، كما تمت، قسمت العالم – كما يقول أبو الشعر- إلى أبعاض فأبعض:
“فبعض يأسى، وبعض يصرخ، وبعض لا يتجرأ أن يغضب حتى همسا، وبعض لا يتذكر حتى ينسى”.
وفي هذه القصيدة حوار مع العالم الغريب والعالم القريب، فالعالم الغريب يقول- ويا للسخرية- مخاطبا محمد الدرة:
أنت الإرهابي لأنك تعلن أن جراحك ساخنة
أو أن رياحك داخنة بشواء زنودك وسط سعير
والعالم القريب كما يصفه الشاعر على لسان الشهيد الدرة:
“نصل رسمي يذبح الناس حين يشاء ويطلقهم عفريتا حين يشاء”.
ولكن هذا النصل الذي يملكه الأحباب، الممتد كالحرباء، بكل دلالاتها المتقلبة، لا يعني الشاعر شيئا لأن سدنته:
“تموء بأقدام الأعداء، وتلعق نعلا للغرباء، وتجرح القلب في يوم العزاء”.
ولهذا يبوح الشاعر بنبوءته، وهو شاعر الرؤيا فيقول:
“إن السيف شهي في كف شهي وحقير في كف حقير”.
ولآن هذه النبوءة تشكل محورا من محاور النص، ومركزا من مراكز الاستقطاب فيه، نراها تخرج من مكانها لتكتب مرة أخرى على غلاف المجموعة الأخير، لتؤكد ما يروم الشاعر أن يبثه في الأذهان والنفوس… وتأتي اللوحة التشكيلية وسط القصيدة للفنان طلال أبو شعر لتتناغم مع الشعر ودلالاته، فهي تصور محمد الدرة يلتصق بأبيه وقد أسنج الاثنان الأعزلان زهريهما إلى جدار ضعيف، في حين صوبت فوهات بنادق الأعداء عليهما من كل حدب وصوب.
أما الشهيد محمد الدرة فيراه الشاعر، بعد أن صار دريئة صياد معربد، صار أيضا ضمير العالم، ولكن التاريخ، كما يرى الشاعر، أعمى، والعالم دون ضمير”.
ولو تأملنا العنوان من جديد، لوجدناه يجمع بين قطبين متناوحين متناقضين: بين براءة السماء وعلاها وطهرها، وهو ما اختص به العصفور وغيره من الطيور، وبين جناية الأرض كرعشة القلب التي تجمعت في الجندي الصهيوني بكل دنوها ودناءتها ودنسها، فها هنا طفل كرعشة القلب آمن مسالم كان يمر بالشارع عرضا، وهناك جندي غاصب محتل يطلق عليه الرصاص بحقد مجنون عمدا. إنها الفعلة الشنيعة التي لو بعص إثرها النبي (داود) لبال على نجمته الكبرى قرفا، ولو بعث بعدها (سليمان) الحاكي بلسان الطير، لتبرأ من غدر الجرذان وقانون الغاب الذي يحكم بالإعدام على الصبية الأبرياء. إننا أمام مواجهة غير متكافئة وظالمة ما بين وداعة الطيور من جهة وحقد البشر من جهة ثانية. والإشارة في العنوان إلى حكم الإعدام على عصفور يعادل طفلا، يثير قضية العدل المفقود في المعادلة، لأن العدو هو الخصم والحكم، وهذه حقيقة عالمنا المقلوب رأسا على عقب، والمستفز بامتياز، فالغازي أرض الآخرين محق، وصاحب الأرض الحقيقي محقوق، فيا لسخرية الأقدار…!
وفي هذا النص الجامع ما بين الموضوع والذات، والمازج ما بين الخارج والداخل، تطالعنا عبارة شعرية تكررت أربع مرات في القصيدة وهي قول الشاعر: “يا رعشة قلبي يا وجه محمد”. وهي تتكرر بوصفها فاتحة لأربع مقاطع شعرية تأتّى إليها الشاعر في كل مرة من زاوية جديدة للقضية، بغية الإغناء والتنويع والحجاج. ويسلمنا هذا الشأن إلى البند الثاني في دراستنا هنا، وأعني به ظاهرة التكرار.
- التكرار:
جاءت ظاهرة التكرار في هذه المجموعة واضحة وساطعة. ووردت على مستوى المفردة الواحدة، ومستوى السطر الشعري الكامل، فكلمة عصفور تكررت ست مرات في القصيدة الأولى، وعبارة يا رعشة قلبي يا وجه محمد تكررت أربع مرات أيضا. وكذلك تكرر السطر الشعري “لأن الشعر في ذقني نما ما فوق همي” في قصيدة أيها الجندي هل ضممت إليك طفلا”، أ{بع مرات أيضا. أما عبارة لم يحدث شيء فتكررت في القصيدة التي صارت عنوانا لها إحدى عشرة مرة. وجاءت عبارة لم لأكن ض\ أحد في قصيدة “قنبلة الجسد” ست مرات… إلخ.
والتكرار في الشعر والفن معا قديم جدا، ويعود في جذوره إلى الأدب الرافدي الموغل في القدم، فقد كان ذلك الأدب، بمناجاته وابتهالاته وأغانيه، مترعا بإيقاع التكرار. والتكرار موجود أيضا في الشعر الجاهلي بوضوح. وقد كرر الشاعر الحارث بن عباد صدر بيته التالي “قربا مربط النعامة مني” عشرات المرات في قصيدته اللامية المعروفة التي قرضها في حرب البسوس. وكذلك وقع التكرار في شعر المعاصرين. ونحن واجدون له شواهد جمة في شعر كل من بدر شاكر السياب ومحمد عمران ومحمود درويش وآخرين كثيرين.
وللتكرار وظيفتان كبريان وهما: توكيد المعنى، وصنع الإيقاع من خلال التشابه مع قانون الطبيعة والحياة. فالإيقاع ماثل في فصول الطبيعة وتوالي الليل والنهار وأطوار حياة المرء المراوحة ما بين طفولة وشباب وكهولة وشيخوخة… الخ. وكان التكرار في شعر أيمن أبو الشعر يحقق هاتين الميزتين بوضوح. فالتكرار عنده يشبه مفتاحا لمقطع شعري جديد، أو مشهد شعري آخر يقلب فيه الشاعر قضيته على وجوهها المتعددة، ويعالجها من زوايا متباينة، حتى إذا ولجنا إلى الأعماق، وجدنا شاعرنا يؤثث قصيدته بألوان منزعة من الجمال اللغوي تتشكل منها سجادة مزركشة الألوان تقدم نفسها بسلاسة ودونما تعقيد، أو لجور إلى إبهار المتكلف. ومن أمثلة ذلك تعبير الشاعر عما يجول في نفس الفدائي، الذي يجعل من ذاته قنبلة بشضرية تطيح بمطامع أعدائه وشرورهم، بعد أن عز إيجاد التكافؤ في السلاح بين الطرفين يقول:
“لم أكن ضد أحد، كان في صدري بساتين ابتهالات الطهر في الليمون/ حلما لا يحد”.
ثم يصيف بعد حالات من الكينونات المسالمة الوادعة التي كانت تميز حال الفدائي:
“لم أكن ضد أحد، لم أكن… لكنهم جاؤوا إلى صدري بمحراث الأفاعي والنصال/ أوغلوا للجذر في بيارة التكوين، واجتثوا نداء الدفق في اليخضور”.
ويتابع وصف أفعال الأعداء المجرمين الذين اصطادوا عصافير قلبه، وخطوا حقول الرمي في فؤاده، وعبأوا في جلده المسلوخ كبريتا حارقا، لينتهي إلى القول:
“لم أكن ضد أحد/ لك أكن… لكنهم قد خيروني/ بين موت الذل أو موت الكمد/ فتعانقت وموتا آخرا/ كرمى لأحزان البلد/ عاشقا أمضي إلى عرسي بتفجير الجسد”.
والحق أن الشعر هنا يتسق مع الحقيقة اتساقا قويا، فقد عرف المراقب السياسي للأحداث أن الإسرائيليين قد عرضوا على الفلسطينيين في محادثاتهم في أمريكا في العام (2000) أن يعيشوا بينهم كالعبيد تماما. ولكن الإعلام المعادي، المشبع بالتأثير الصهيوني لم يشأ أن يتفهم أن من يفجر جسده في أعدائه القتلة الظالمين هو طالب حرية، ومنتضل في سبيل حقه ووطنه وكرامته.
ولما كان الأداء اللغوي يتساوق مع روح الإبداع، ويشف عن أعماق الصورة المبتكرة، فإننا نرى أن الاكتفاء بالقول: “لم أكن” إشارة إلى أن صبر الفدائي قد عيل، وعندما ولج لحطة التأزم العظمى، رد على ظلم الأعداء بتفجير الجسد، مختارا الموت على حياة الذل والهوان مجسدا نصيحة الشاعر التي تقول:
عش عزيزا أو مت وأنت كريم بين طعن القنا وخفق البنود
واستوقفتني في هذه الظاهرة جعل الشاعر عبارته المتكررة سبيلا للربط والإحكام بين مقاطع النص، فهو مثلا بعد أن يكرر عبارة “لم يحدث شي” إحدى عشرة مرة، وبروح من السخرية من منطق الأعداء، يكر عليها ليقول بصيغة الإيجاب: بل حدث شيء كثير… وهكذا فحين تغير المتكلم تغير أسلوب الكلام، يقول أبو الشعر (ص 57) لم يحدث شيء يمكن أن يفسد ذاك الود بين الطاعن والمطعون/ لم يحدث شيء هاك بلاط الأسياد نظيف/ والجو لطيف/ والعالم يغفو فوق وسادته والريش حنون/ لم يحدث شي، فلماذا تضرب رأسك فوق عمود الزمن/ وتنفخ في الصور بأوصال الطيفون.
ثم يقول محاورا:
حدث كثير يا أصحاب العزة في ذاكرة النار وللنار شجون/ إني ما عدت وحيدا أطرق رأسي فوق عمود الزمن الشاحب كالمجنون/ فالدم الناغل في أحشاء الأرض يعد مفاجأة كبرى للنخاس وللوسواس/ ومن سجل خطأ بين الناس/ مفاجأة كبرى وجنون القهر فنون/ حدث كثير يا أصحاب العزة/ حدث كثير – جدا- جدا لو تدرون.
فالشاعر هنا بلغة بسيطة لا تعقيد فيها يتوعد الإعداء الذين يتخيلون بسذاجة غريبة بأن الود يبقى كما كان في سابق عهده بين الطاعن والمطعون، بقوله إن ما زرعوه سيحصدونه، فالدم الناغل في جوث الأرض سيتحول إلى نار تحرق وتبيد من سفح ذاك الدم ظلما وعدوانا.
ولو دققنا في المقطع الول من هذه القصيدة، لوجدنا الشاعر يستثمر فيه أية من القرآن الكريم، وهي قوله النفخ في الصور، وهو مؤشر على قيامة الموتى وزمن البعث والنشور. وهذا الملمح ينقلنا إلى البند الثالث في دراستنا هذه وهو التناص الموجود في هذه المجموعة.
- التناص
- يعد التناص في الفن تجسيدا للعلاقات بين النصوص، وهو ر يعني تأثر نص بنص، أو تتبع المصادر التي استقى منها المبدع نصه فحسب، بل يعني تفاعل أنظمة أسلوبية، كما تعني العلاقات التناصية إعادة الترتيب والإيماء، والتلميح والتحويل والتحوير والمحاكاة والاقتباس. وربما توزع التناص ما بين اجترار وامتصاص، وما بين اقتباس وحوار. وما فعله الشاعر أيمن أبو الشعر كان أقرب إلى القطب الثاني من التناص، وأعني به الامتصاص والحوار.
إذا اقتربنا من الشواهد، لاحظنا أن التناص قد اتخذ أنواعا في المجموعة التي بين أيدينا. فثمة تناص مع القرآن الكريم، وآخر مع الأسطورة، وثالث مع الشعر العربي القديم.
ومن أمثلة التناص مع القرآن الكريم قول الشاعر:
“لماذا تضرب رأسك فوق عمود الزمن، وتنفخ في الصور بأوصال الطيفون”.
والنفخ في الصور يعني النفخ القرن كما في تفسير الجلالين، وهو من دلائل يوم القيامة. بدليل ما جاء في الآية 99 من سورة الكهف من قوله تعالى: “وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض، ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا”.
وأوضح هنا أن الشاعر يحول العبارة القرآنية عن سياقها، في نطاق علاقة حوارية، ليقول إن دماء الشهداء ستثأر من قاتليها، وترد كيد المعتدين إلى نحورهم.
أما التناص في الأسطورة فنمثل عليه بقول الشاعر (ص 64):
هو القلب وحد فينا مسيل الدماء/ وزغرودة النوف في مجده/ لئن حز عنق الضفاف الموات/ ففي القاع طمي غزير الحياة/ وعشتار تسكن دفء النواة/ ستنمو جنينا بلحن الأنين/ كأنشودة الورد في خده.
والإشارة إلى عشتار في هذا المقطع الشعري هي تذكير بآلهة الحب والخصب والجمال، فهي التي أعادت الحياة إلى (أدونيس) بعد أن قتله الخنزير البري، في الأسطورة الفينيقية المعروفة. وإيرادها في الشاهد السابق يعني أن الحياة للعراق ستعود من جديد، بعد أن أفنى الأعداء الكثير من مظاهرها، أو كادوا أن يفعلوا ذلك…
وهنا تظهر نفحة التفاؤل التي أشاعها في شعره، الشأن الذي يذكرنا بالنزعة التموزية التي تغلغلت في الشعر العربي زمن النهوض القومي منذ عقود خلت. فالولادة لا الموت هو ما يغني له الشعراء.
أما أقوى مظاهر التناص الحواري فقد تجلت بالاشتباك مع الشعر العربي القديم ففي قول الشاعر (ص 63):
“أنا من سبتني المها في العراق/ من الجسر حتى الرصافة”
إعادة انتاج واضحة لقول علي بن الجهم:
عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن إلى الهوى من حيث أدري ولا أدري
فانبعاث الهوى عند كلا الشاعرين (أيمن) و (علي) كان بفعل سهام العيون التي تشبه عيون المها في حورها وسحرها وفعلها.
وكذلك الشأن في قول أبو الشعر (ص 119):
داري هي الحلم عشقا أنت تسكنه ما الحب للدار بل من حل بالدار
فهو يحاكي قول الشاعر العربي القديم:
أعود على الديار ديار ليلى إقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
والأمر ذاته يصدق على قول شاعرنا (ص 64):
يقولون ليى وهت في العراق/ ولست الطبيب المداوي الجراح/ تعز المراهم عن طبه/ محال فقلب لها ما وهي وقلبي بها لم يه/ سيبقى وفيا لحلم العناق.
فهذا المقطع يذكرنا بقول مجنون ليلى:
يقولون ليلى بالعراق مريضة فيا ليتني كنت الطبيب المداويا
وإبداع أبو الشعر السابق يتكئ على ما قاله (المجنون) ولكنه ما إن يلامسه حتى يفارقه، ليقول شيئا جديدا يحتقب معنى آخر معجونا بروح اللحظة، ومتماهيا مع صميم البرهة، وذلك من خلال موسيقى متماوجة شكلتها قافيتان متعاقبتان هما القافية المنتهية بالاف بداية ونهاية في كلمتي (العراق) و ( العناق) على التعاقب المتراخي، والمتلوه بالهاء المتكررة في (طبه) و (يه) على التتابع المتوالي. وهذه الصنعة الموسيقية هي سمة من سمات الحداثة.
- لغة الديوان
لا تقتصر لغة الشعر على كونها مموسقة مكثفة رامزة محتشدة، بل هي إلى ذلك يتنازعها حالان: حالة الغرابة، وحالة الألفة. وقد اختار شاعرنا أن يتبنى لغة بعيدة عن التفيهق والتقعر، ولا تحوجنا معانيها إلى استفتاء المعاجم لمعرفة معانيها، ولا إلى جهد مزعج يءول إلى الازورار عما تحمله من معان ورؤى، لتعقيد تراكيبها، وانحجاب مراميها. فنحن امام أداء لغوي يفهمه كل الناس، بل جل الناس، أداء مرن مألوف. وكأني بالشاعر هنا قد أصغى إلى ماقاله الناقد ت س إليوت: “إن كل تجديد في الشعر يعني العودة إلى كلام الشارع”. وعلى الرغم من أن البياتي وأدونيس يرفضان ذلك، فإن أحمد عبد المعطي حجازي يقول في هذا الباب: ” لا أجيد اللعب باللغة، لا أدهش قارئي بالغريب، ولكن أفجؤه بالأليف” (انظر كتاب قضايا الشعر المعاصر، تونس 1988 ص 231).
ويبدو لي أن حجازي كأنه كتب عبارة ناقصة تحتاج إلى إكمال، فالشاعر إذ يستعمل الأليف من الكلام، إنما يستعمله ليرينا ما هو غير أليف، وهذا ما صنعه أيمن أبو الشعر في قصيدته (ص 101):
حباني الدهر بالرؤيا جباني فصار الحلم أحداق الأماني
أرى ما عشت حقا وهو وهم وأسمع أو ألامس أو أداني
تؤول الكائنات كما أراها كفردوس توغل في كياني
فالكائنات تتحول في بيت الشاعر الأخير، حين تلج جنانه، إلى جنة من الجنائن الغناء، أو روضة من الرياض العامرة، وذلك رغم ما فيها من رسوخ وتأييد، وما ذاك في نظرنا، إلا لأن مسا من الشعر والجمال قد أصابها، فانزاحت عن كياناتها المعتادة الكثيفة، لتصبح أرواحا جديدة شفيفة، أو ورودا لها شذاها الطازج المميز. ويقوي هذا الرأي قول الشاعر في القصيدة ذاتها، جاعلا له عينا أرى ما لا يراه الآخرون:
حبيبي كالأريد نسيم روض بمرآتي أراه ولا يراني
ونرى الشاعر وقد دخل في حالة من الوجد الصوفي يقول:
أهيم ولا أريم سوى رفيف كطير الحلم في عش الأماني
وكم وصف الجمال بلا نوال وهل ترقى الحروف إلى المعاني
وحبذا لو قال الشاعر في البيت الأول (أروم) ولم يقل (أريم)، لأن الروم هو الطلب، والريم هو البراح وهو يريد في بيته الطلب لا البراح… فبدا الإصرار على الاتباع هنا ما بين فعلي (أهيم) و (أريم) مخالفا لمعاني اللغة، ومناقضا لما يريده الشاعر.
ونرى الشاعر في موضع آخر، يركز رؤيته للشعر الذي يراه الأجدر بالحفظ والإعادة، فيقول:
ما أروع الشعر الذي تحياه / وتسعى أن تعيده/ طوبى لإيقاع الندى/ قد بات يكتبنا صدى، من تحت أغطية الرؤى/ تتشارك الأقلام والأوراق في خلق القصيدة.
وكم أحببت أن يقول الشاعر: تتشارك الأشواق والأوراق في خلق القصيدة، فبهذا تجتمع الروح والمادة في خلق الجمال، ولا يكون خلقه رهنا بما هو محسوس فحسب. كالأقلام والأوراق فقط، لأن ذلك يقص جناحي الشعر الذي نتمنى أن يكون محلقا دوما.
وبعد، فنحن مع هذه المجموعة أمام شاعر شق دربه في المشهد الشعري السوري بجدارة، مبتعدا عن مأزق الغموض، مالكا أسباب التواصل مع جمهوره بقوة، نافرا من نزعة التغريب والهجانة والتعمية، ملتصقا بتراث أمته، منخرطا في همومها الراهنة، مقدما لنا رؤاه اليانعة من أفقين كانا أثيرين عنده، هما أفق العشق وأفق النضال، وهما أفقان تدور في محورهما قيم عظيمة، هي قيم العطاء، والتضحية، والعزة، والسؤدد.