الليلُ عجوزٌ هنديٌّ يرمِقُني من خلفِ القُضبانْ
وعناكبُ تنسجُ أشراكاً كالشرفةِ بِزوايا الجُدرانْ
بابُ الزنزانةِ تاريخٌ حفرَتْهُ أصابعُ مخضوبَةْ
والأرضُ جليدٌ مسعورٌ والسقفُ نزيزٌ ورطوبةْ
الوقتُ بليدٌ كالساعاتِ تمرُّ ثوانْ
وأنا أتكوَّرُ كالمطعونْ
وأقلِّبُ صفحاتِ الأزمانْ
حيناً ابتسمُ لجرذٍ مرَّ وحيناً تبتسمُ الفئرانْ
… أغفو وأقاومُ أجفاني
فصراخُ رفيقي منطفئٌ ما عادَ ينزُّ بآذاني
أنتفضُ وأدركُ أنَّ السوطَ بكفِّ الجلادِ
سيبحثُ عن طعمٍ ثانِ
أعركُ عينيَّ ولا جدوى
تتشابكُ أهدابي تُطوى
وأشدُّ الجفنَ ولا أقوى
سبع ليالٍ والجفنانِ بوجهي شُباكان
مفتوحانِ على الأحزانْ
جندُ النومِ تحاصِرُني
تأمُرني أنْ أغفو … أغفو …
فالنومُ بلا عرشٍ سلطانْ
فليقفِ الزمنُ بأحداقي
لا شكَّ سينساني السجَّانْ
الرعشةُ ترسبُ في جلدي
وتسافرُ بقطارِ الشريانْ
ويدورُ الرأسُ بلا معنى
تتمطّى ذاكرةٌ تُحنى
تتهجى كرّاسَ النسيانْ
تنتَصِبُ أمامي حورية
ترنو … تدنو … تحنو وتلامسُ أنفاسي
النهدُ يشبُّ على خصري
فأشدُّ الرأسَ إلى صدري
أتنهدُ تهمسُ آلامي:
لا وقتَ الآنَ لغيرِ النومِ حذارِ ستصحو أيامي
… نامي … نامي …هويا …هويا …
هيا افتَرِشي صدري نامي
غيبي تحتَ الجلدِ ومرّي خدَراً بين عِظامي
لكن… نامي … هويا …هوفي …نامي …هوفي (صفير على إيقاع هوفي) 1
أشرعةُ الرؤيا قد نُشِرَتْ
والموجُ يلاحِقُ أحلامي …نامي …هوفي نامي …
مَنْ أنتِ وكيفَ أتيتِ إليّ …
شعرُكِ ممتدٌ من هُدُبي ولآخرِ أرضٍ مَنسيَّةْ
شفتاكِ همومٌ تحرِقُني
عيناكِ مرافي بحريَّةْ
من أنتِ لماذا تحمِلُني الرؤيا
نحوَ الأحياءِ الشعبيةْ
يا أنتِ… لو أنّي أؤمنُ أنَّ الجنَّ …
ولكنْ … ما تلكَ ملامِحُ جنيَّة…
هل أنتِ الحُبُّ تكثفَ من قهرِ الشوقِ
وعُتِّقَ حتى باتَ يُقطَّرُ قُربي حوريَّة…
أم أنتِ البسمةُ ذبَحَتها أسيافُ حروفِ الحريّة
لا أدري من أنتِ ولكنْ من أجلِكِ يجلِدُني السجّانْ
ما للتسآل يُشاغِلُني …
ضُميني فأنا بردانٌ … بردانْ…ولأجلِ عُيونِكِ أتجمَّد…
ــ محمولٌ أنتَ على صدري … فتنفَّس … ما شئتَ تمدَّد …
شُديني نحوَكِ شُديني … آلهةٌ أنتِ بِلا مَعْبَدْ …
شُديني ما أشهى خَدَري وشِفاهُكِ تقطُرُ تهليلي
كالنشوةِ طيفُكِ فامتدي عبقاً … طولي … طولي
…هويا …هوفي …هوفي …(صفير على إيقاع هوفي)
ــ محمولٌ أنتَ على صدري … فتنفَّسْ … ما شئتَ تمدَّد …
اتكئُ على النهدِ تغوصُ يداي… فالصَدْرُ غمامٌ يتبدَّدْ
أسقطُ … أتلّوى … أدرِكُ أ لّا وزنَ لجِسمي … أتنهَّدْ
…أهوي…أهوي…تتبَعُني عينانِ
وصوتٌ يترنَّحُ كالإيقاعِ القادمِ من رميِ حصاةٍ في بئرٍ منسيٍّ
يتَدَرَجُ في الشِدَّةِ حتى يصرُخُ:
ــ أنتَ الآنَ أسيرٌ يجذبُكَ الحُبُّ إلى الأعماق
…. وأنا أهذي … وطََني … حُبي … وطَني … وطَني … حُبي
… والصوتُ يعودُ عجوزاً مصلومَ الآذانْ
أبكي كرضيعٍ يبحثُ عن نهدٍ تاهَ عنِ الثغرِ وحارْ
… أينَ تغيًّبَ نهدُكِ عَنّي وطَني … حُبي …
وطَني … المهدُ … الشهدُ … النهدُ … النهد ُ سكوبُ حنانْ …
يُطلُّ عجوزُ اليأسِ … يدمدِم…
يتوالدُ من صوتي… صوتان
لا … لا … لا تبكِ النهدَ… النهدُ دُخانْ …
ــ يَتَجَمَّعُ وجهُ الكهلِ فيغدو مِحبَرَةً تتماوجُ
تنبسطُ فترتسمُ عليها شفتانِ وتنتفخانِ … كخُفي جملٍ …
ارتعدُ فتعلو ضحكاتٌ كالرعدِ …
ويبرزُ وجهُ رئيسِ التحقيقِ …
يغيبُ تعودُ الشفتانِ تدمدِمُ … تكبرُ تقتربُ …تُحاصِرُني الأوجُهُ…
تَتَفرقَعُ حولي كلماتٌ تخرجُ قسراً من فَوهةِ محبرةِ التحقيقِ المسدودةِ
تقفزُ أحرُفُها حولي …تنهشُني … تنبحُ…
أنتَ مُدانْ … أنتَ مُدانْ …
أتجمَّعُ فَزِعاً… اسحبُ كَفّي من مِعصَمِها
تنفلتُ فأقذِفُها … نحو المِحبَرَةِ وأسترُ وجهي بذراعيْ الداميةِ وأسقطُ …
تنكسرُ دواةُ رئيسِ التحقيقِ…
يسيلُ الحبرُ ويحترقُ… يصعِّد ُأبخرةً ودخانا ً مجنوناً
يمتدُّ يُغطّي الأفقَ فيظهَرُ من خَلَلِ السُحُبِ المكتظةِ شيطانٌ
ينهدُّ عليَّ فأعدو كالأرنبِ بينَ الأشواكِ تُلاحِقُني أفعى …
اندسُّ بوكرٍ طينيٍّ أعدو في الظلمةِ تسبِقُني… أنفاسي…
ألتفتُ…فأهوي في بئرٍ رطبٍ… أتقلَّبُ وأنا أهوي … أهوي …
تبرزُ من جدرانِ البئرِ عيونٌ جارِحَةٌ تشمَتُ …
وأنا أهوي … أهوي … ألمَحُ ذيلَ الثعبانِ يُلاحِقني …
كذراعٍ تمتدّ ُ إليَّ بحجةِ إنقاذي
يصرُخُ رأس الأفعى … من أعلى:
امسِكْ بالذيلِ تعلَّقْ…طوطَق…طوطَق…2
امسِكْ بالذيلِ فلنْ يحميكَ سوى الثعبانْ …
أرفعُ كفّي … يصفَعُني صوتٌ من قاعِ البئرِ: … جبانٌ … أنتَ جبان …
اسحبُ كَفّي … أهوي … هوفي …طوطق… طوطق…
امسِكْ بالذيلِ فتنجو… أنتَ الآنَ
غبي ٌ يجذبك الحب ُ إلى الأعماق…
ما نفعُ الحُبِّ بلا عُشاقْ…
يعلو صوتٌ من أعماقي … لا … لا…
لن أمسِكَ بالذيلِ ولن تمتدَّ يدايْ
ــ …أنتَ مُدانْ…أنتَ تجاوزتَ الأوطانْ…
تقريرُ الأمن يفيدُ بأنَّكَ ضدَّ عروبةِ هذي الأرضِ
وتعملُ من أجلِ الإنسانِ
بأيِّ مكان ٍ أيا ًكانْ… ما قولُكَ في هذي التُهمة؟
– قولي أنَّ الدمعَ هو الدمعُ بكلِّ مآقي المسحوقينْ،
واللقمةُ وحدةُ حُلمِ المحرومينْ،
لو أنَّ العالمَ ولِدَ حضاريّاً في البَدءِ
لمَا كانت في الأرضِ سوى لغةٍ واحدةٍ عِشقيّةْ
أتـُميّزُ بسمةَ كرديٍّ أو عرَبيٍّ فوقَ المبسَمْ؟
قدَرُ الشفتينِ بأنْ تتسعَ … لتتبسَّم
وصراخُ الإنسانِ سيبقى ذاتَ الصوتِ بأيِّ مكانٍ فيهِ حناجرُ تتألمْ
لن يُقنِعَني أحدٌ إني أتَخلّى عن أصليْ العربيْ
إنْ لمْ يلتحفِ الرأسُ بكوفيَّهْ
إنّي أعتزُّ بأنّي عربيٌّ
لكنّي سأقاتلُ قحطانَ الإقطاعيَّ بغيرِ جدالٍ
وبغيرِ هدوءٍ أو رحمةْ
إنّي أشعرُ أنَّ عروقَ يَديْ
ترتاحُ لكفِّ الفيتناميِّ المعروقةِ لا لخواتمِ أمراءِ التخمةْ
ــ يعودُ الصوتُ يدمدِمُ:
أنتَ غبيٌّ من يسمعُ صوتَكَ في هذا البئرِ سوايْ
امسِكْ بالذيلِ أعيدُكَ للضوءِ مثالا…
… لا … لا…
- تتكاثرُ حولي أحرف – لا –
فأصيرُ سجيناً في قفصٍ يرفعُهُ حرفانْ
وعلى مقربةٍ من قَفَصي قِدرٌ ضخمٌ يهدُرُ
فيهِ الماءُ من الغليانْ
أُرمى في القِدر الحاقدِ بينَ عويلٍ وصُراخٍ مجنونٍ
وتدورُ عفاريتٌ حولي بفؤوسٍ تلمعُ تتراقصُ ألسنةُ النيرانْ…
يقترب الساحرُ مني … وجْهُ رئيسِ التحقيقِ … فأهتف:
ما أسهلَ أن تدهنَ وجهَكَ بالأصباغِ ولكنَّكَ لن تخدعَني …
في أيِّ مكانٍ لا يقفُ النسرُ بأعلى القمةِ أو ترتعُ فيهِ الغربانْ
سيظلُّ الذئبُ عدوَ الحمَلِ ويبقى السجّانُ هو السجانْ
ــ يكفي … يكفي أنتَ مُدانٌ بالردَّةْ
كل إشاعاتِ الناسِ تؤكدُ أنَّكَ ضدُّ الوحدة
ــ خطأٌ …خطأٌ يا أحبابي
حينَ يُقالُ بأنَّ الوردَ الأمميَّ سيخنقُ أزهارَ الوحدةْ
كيفَ يُصدَّقُ أنَّ الساقي لحديقةِ عشقٍ
يرضى أنْ تَتقَطَّعَ أيةُ وردةْ
خطأٌ يا أحبابي حينَ نعدُّ العدَّةْ
أن نتصورَ أن جميعَ نباتِ الحقلِ
وكلَّ طيورِ الأفقِ ستنفخُ في الصورِ بيومِ الشدَّةْ
ولأنّي أعشقُ كلَّ ورودِ الأرضِ
أُحذِرُكمْ مِن دودِ الألقابْ
فاقتلعوا أشجارَ اللبلابِ وأشواكَ الردةْ
إنّي أدعوكمْ لحديقةِ نورٍ يستنشقُ فيها العاشقُ جهدهْ
لا تبنوا فوقَ الأملاحِ الدارَ ستنهارْ
إن كنتمْ فعلا ً عشّاقَ الوحدة، فابنوها بزنودِ العمالْ
كي تبقى الوحدة…
ــ يضحَكُ وجهُ الساحرِ مِنّي: (أنتَ مُدانْ
الحُبُّ يشدُّكَ للأعماقْ… ما نفعُ الحُبِّ بِلا عُشاق )…
ويدسُّ إلي َّ بنصلٍ مسمومٍ يزعقُ اطعنْ … هيا اطعنْ …
ترتفِعُ ذراعي … يصرخُ … أكثر …
هوفي … هويا … في صدرِكَ اطعنْ
ما نفعُ الحُبِّ بلا عشاق … هيا وقِّعْ عقدَ طَلاق …
ـ تتراءى لي أخيلةُ وجوهِ الأهلِ
وأطيافُ رفاقِ الدربِ وجثثُ الشهداءِ
وتهتفُ أمي مِن بين الحشدِ: حبيبي
عُدْ لي جثماناً أرفعُ رأسي وأقَبِّلُ نعشَكَ
لا ترجعْ لي منسحباً وجبانْ
فأسارعُ بالنصلِ الخانعِ أبترُ كلَّ أصابعِ كفي َّ
لكيلا تمسكَ قلماً يرضى توقيعَ الذلِّ وأهتفُ:
إنّي أزدادُ إباءً وشموخاً إذ يزدادُ طعانُ الأوغادْ
فجنونُ السوطِ على الجسدِ الصامدِ تعبيرٌ عن خوفِ الجلادْ
علَّمني بوحُ جدارِ السجنِ بأنَّ إرادةَ رجلٍ حُرٍّ
أقوى من قفلِ السجّانْ
علَّمني قبرُ فدائيٍّ أنَّ ركوعَ شهيدٍ فوقَ التربةِ
أسمى آياتِ الإيمانْ
علَّمني لونُ الجرحِ النازفِ
أنَّ الأحمرَ أشرفُ مِن كلِّ الألوانْ
ــ يسحبُني الساحرُ مَن شعري …
يسحلُني بينَ ممراتِ الرعبِ ويتركُني
قربَ العرشِ فألمحُ من تحتِ الكرسيِّ خيوطاً تنشدُّ
فيرفّعُ أصبعَهُ السلطان
ـ يتراكضُ خُدّامُ القصرِ بأطباقٍ ذهبيةْ
تمتدُّ المائدةُ الكُبرى، يدعوني كي اجلسَ، يهمسُ:
أنتَ الضيفُ القادمُ مندوبُ الأحياءِ الشعبيّة؟
يصطفُّ الحرسُ حوالي َّ
وأحسُّ الجوعَ يشدُّ خطايّ:
يا مولاي… ما جئتُ لكي آكلَ لكنّي
ــ هيا … هيا … سنحلُّ الأمرَ ولن تصعُبَ في هذي المائدةِ قضيَّةْ.
يتجمَّعُ في البهوِ حواةٌ وسلاطينْ… ونجومٌ تلمعُ ونياشينْ…
أختبئُ وراءَ عمودٍ ضخمٍ كـُتبَ عليهِ
الجلسةُ مغلقةٌ سريّة،
أتبَيَّنُ من بين المدعوينَ غلاما ً قزما ً فيه ملامحُ غربيـّةْ
ويجيدُ اللغةَ العربيّةْ
وعلى الرأسِ عقالٌ ينسابُ وكوفيّةْ
أرتابُ الأمرَ أنادي ذاكرةَ الشهداءِ الصرعى
فيضجُّ لساني ويُعريهِ ينادي:
رأسُ الأفعى … رأسُ الأفعى.
يرميني الحرسُ على وجهي في الشارعِ والناسُ تماثيلٌ خزفيَّةْ
تتصايحُ تحيا الثوريَّةْ، وتصفِّقُ حينَ تصيرُ الجـُمَلُ حماسيّةْ
أشتمهم من غيظي … أركضُ بينَ جماهيرِ الشعبِ
أهز ُّ الأكتافَ أنادي إنْ أُنسيتُم…
فالإسفلتُ بكل شوارعِ أرضِ الطغيانِ يُذكِّركُمْ
فخذوهُ إلى المُتحفِ خلّوا كلَّ الناسِ تُصدِّقُ
أنَّ القزمَ سيعملُ من أجلِ الأرضِ
وأنَّ المعروضَ مُجرَّدُ إسفلتٍ
ليسَ بقايا لحميّةْ
إنّي أقسِمُ إن فتَّشتُمْ بينَ جنازيرِ الدباباتِ الهمجيّةْ
فستلقونَ وحتى هذي الساعةِ بعضَ هياكلَ عظميّةْ
وجماجمَ سُحِقَتْ بشريّةْ
إنّي أطلبُ من أعقلِ رجلٍ فيكمْ
أن يَفحَصَ أسنانَ مساطيلِ الصحراءْ
سيلقى أنسجةً من لحم فلسطينيٍّ أو نثراتٍ من أثداءِ فدائيّة ْ
هاكم آثارُ البصماتْ…
أشعارُ القهرِ خريفيّةْ
تلكَ سجلاتُ الخاطبِ ودّاً فوقَ البلطاتْ
فلماذا لا تُقرأُ في الجَلساتْ
إنّي لا أفهمُ كيف يحلُّ الحبلُّ الشانقُ مشكلةَ المشنوقْ
وكيف يصيرُ الخائنُ في لمحةِ عينٍ قديساً كالطفلِ الموثوقْ
صدِّقني يا دربَ العودةِ أنَّ القصةَ واحدةٌ
… إظلامٌ … وشروقْ
والكفُّ البضَّةُ لن تُجدي
فالمِدفعُ دوما ًفي الكفِّ المعروقْ
لن يُبنى جسرُ العودةْ
حتى يتحركَ زحفُ الشعبِ المسحوقْ
وسيأتي يومٌ تصبِحُ فيه الشمسُ كطيرِ الرخِّ
تُغادرُ قُبَّتَها الزرقاءَ وتكفرُ بالأحياءْ
تحتضـنُ الأضرحةَ الحمراءَ تُغني للشهداءْ
فتُفقِّسُ كلُّ قبورِ الماتوا
في دربِ العشقِ طيوراً جارحةً كالرعبِ وتزعقُ
في ساحاتِ المُدنِ الكُبرى
قُلتمْ موتوا من أجلِ الأرضِ سنثأرُ…مُتنا …
ماتَ الثأرُ …فأنتمْ… أزلامٌ … أقزامٌ … تجارٌ … أصداءْ
تتحولُ أكفانُ الموتى يافطةً كُتب بحبرِ القهرِ عليها
جاءَ الدورُ عليكمْ يا أحياءْ
فليبكِ المجرمُ زمَنَهْ
وسيبدأُ ثأرُ الشهداءْ
بالخِلّانِ الأعداءْ وبالأحبابِ الخونةْ
ــ يَنتَفِضُ الجلادُ ويزعقُ:
وقحٌ أنتَ ونعرفُ أنَّكَ تُتقِنُ أسلوبَ التبريرِ وفلسفةَ الآهْ
…لكنَّكَ لن تُقنِعَ هذا الشعبَ المؤمنَ أنَّكَ لستَ عدوَ اللهْ
ـ تحترقُ الألوانُ بأحداقي
فتصيرُ عيوني عدساتٍ ترتَجُّ مُحدَّبَةً
تتلاشى أبعادُ الأشياءِ فيرتسِمُ جميعُ السجانينَ دراويشَ تُغني
تتسطحُ أوجهُهُم، ينضَغِطُ الأنفُ كأنفِ الخنزيرِ
وتنهد ُّ ذقونٌ تمتدُّ وتحتدُّ … فتنشد ُّ …
تؤولُ حبالاً … أميالاً تلتفُّ تُقيِدُني
والأجسادُ تميلُ بقرعِ الدفِّ
وطرقِ الكفِّ على الكفِّ
يدورُ الجلادُ بِمِبخَرةٍ تملأُ أرضَ الزارِ دخاناً مجنونا
يدفعُها نحوي غليوناً…أفيوناً
تمطرُ سُحُبُ الدخّانِ تواشيحَ دعاءٍ
تتكسَّرُ تصغُرُ، تكبُرُ، أدفعُها، ترتدُّ إليّ
… هويا… هوفي…هوفي… هويا …حيّْ…حيْ…
يرتدُّ ضبابُ الزارِ يعودُ السجّانُ إلى دعواه:
لن تُقنِعَ هذا الشعبَ المؤمنَ أنَّكَ لستَ عدوَ الله
- من يومِ خُلِقتُ فقيراً
والرجلُ الفيلُ على جَسَدي
وعلى كتفيهِ تقوَّسَ كرشٌ دبيٌّ
فوقَ الدبِّ تمدَّدَ تمساحٌ
فوقَ التمساحِ تَقافزَ قردٌ يحمِلُ ديكاً
وأنا من وطئِ الجبلِ الجاثمِ فوقي أصرخُ …إنّي أنسحِقُ
يُسارِعُ قردُ المَكْرِ لإطعامِ الديكِ بوجبةِ قاتْ… فيصيحُ الديكُ
يُقيمُ الفيلُ بما يحمِلُهُ عليَّ صلاةْ
يركعُ فوقي، يسجدُ، يهمسُ بعد البسملةِ المشفوعةِ بضع عظاتْ
“وخلقناكم فوقَ بعضِكمْ درجات”…
أصرخُ … خطأٌ … هذا خطأٌ … جلَّ اللهُ عن السرِقاتْ
من أعطاكُم حقَّ التفسيرِ وتزييفِ الآياتْ
إنّي أتضوَّرُ جوعاً أنتمْ سَرَقـَةْ
أوَهذا المُمتَدُّ من الشريانِ المقهورِ
لحلقِ التُخْمَةِ قانونٌ …أم هذا علَقَة…
يدبك ُ فيلُ النَهمِ عليَّ يُدمدِمُ وَيْحَكَ أوَلَمْ تؤمن؟
… هاتوا ـ الفَلَقَة ْ
– إنّي أتضورُ جوعا ًانتم سَرَقـَة
أهتفُ وأنا أحتضرُ وأذوي
إنّي أكثرُ إيماناً منكم يا أهلَ الصَدَقَةْ
إنّي أؤمِنُ أنَّ الدينَ لباري الدينِ
وفوقَ الأرضِ صراعُ الطَبَقَةْ
ينهالُ الفيلُ عليَّ بخرطومٍ بتروليِّ اللونْ
يبارِكُهُ الدبُّ، وتصطَكُّ الأسنانُ بشدقِ التمساحِ
يسارِعُ قردُ المكرِ بوجبةِ قاتٍ يبلعُها الديكُ يصيحُ، يصيحُ (3)
فتنزلق سراعا ً من خرطومِ الفيلِ سلاطينٌ متبرجةٌ
وخليفةُ مرحوم مفرومٍ والسيدةُ الكُبرى، فيصفِقُ كِسرى:
نحنُ حماةُ العدلِ تكلَّمْ
- يا أصحابَ الألقابِ الكُبرى
سحقَتْني أقدامُ الفيلِ ابتلَعتني أشداقُ الدبِّ
وطحنَتني أسنانُ التمساحِ
وما زالَ القردُ يقايضُ صوتي
بالقاتِ وبالأفيونِ لكي يبري منقارَ الديكِ صِياحْ
حينَ أنادي المسحوقَ ليومِ كِفاحْ
يعلو صوتُ الديكِ يشوِّهُ صوتي تذروهُ رياحْ
حينَ البردُ يُداهِمنا
يُقنِعنا القردُ بأنَّ اللهَ يعاقِبنا
ويصيحُ الديكُ رجاءً ودعاءَ استسماحْ
حين أجوعُ، صياح}…حين أنزُّ… صياحْ
حين أموتُ، صياحْ…حسناً ها إنّي أحتضِرُ
ولكنّي لا أملكُ ثمناً للقبرِ فهل مِن أحدٍ يتبرَّعُ كي يدفُنَني
فيصيحُ الديكُ: صلاةُ الصبحِ اقتربتْ حيَّ على الفلاحْ،
حيَّ على الفَلاحْ
ـ يتفجَّرُ غضبُ السجّانِ، يحاولُ إغلاقَ فَمي
لكنَّ الصوتَ المتمدِّدَ يعبُرُ جدرانَ السجنِ يحاصِرُهُ السلطانُ
بسورِ شعاراتِ النصرِ ومسرحةِ عُبورٍ وجسورٍ تنتفخُ كمنطادٍ
يتحوَّلُ صوتي إزميلاً يثقُبُ بالونَ الجَعجَعَةِ
ويهدرُ في الأفقِ نداءْ
يا سخطَ الفقراءِ متى تُدركُ أنَّ علينا
أن نغدو شهداءَ ولكنْ ليسَ ضحايا
أن تـُقـتَـلَ أو تُسـجَنَ كلُّ عذارانا لا أنْ يحدوها الغزوُ سبايا
استغفرُ خطأً بـُدِّلَ باسمِ النصرِ خَطايا
خَضْبُ الشهداءِ تحوَّلَ مسحوقاً تتبرَّج فيهِ الغانيةُ بكلِّ بيانْ
ونياشينُ النصرِ تدلَّت من أذنيها أقراطْ
يا مجداً تُوِّجَ بالإسقاطْ
هل مِنكُمْ مَن لم يُدركْ حتى الآنَ مفارقةَ الأضدادْ
وبين الدربِ لأرضِ العودةِ والدربِ لأرضِ الميعادْ
علَّمني غدْرُ الساسةِ كيفَ تصيرُ قضيةُ شعبٍ حِبراً
بقرارٍ جمهوريٍّ تـُلغى، وعبورُ الفرحَةِ ً يطغى
والرايةُ منديلَ حِدادْ
علَّمني عـُهرُ الساسَةِ كيف يصيرُ الوطنُ وسادةَ مَبغى
وتُسمى الزانيةُ جِهادْ
علَّمني كافورُ الإخشيديُّ الفارقَ بينَ القائدِ… والقوَّادْ
يا جيلاً ينتظرُ الميلادْ
هل يبقى حُلُمي في الأصفادْ
كونوا مطراً يُغرِقُ أرضَ القهرْ
أو كونوا شفقاً للفجرْ
يتكثَّفُ هذا الجيلُ الغاضبُ مطراً…
سيلاً ينحَدِرُ السيلُ فتحبِسُهُ
بضعُ صخورٍ في الدربِ فيغدو في الساحةِ
بحراتٍ متناثرةً…متناحرةً…
كلٌّ يصرخُ نحنُ السيلُ … ولا سيلَ سوى صخبٍ وهياجْ
كلُّ بُحيراتِ الوطنِ بهذا العصرِ لها ذاتُ الأمواجْ
هل مِنكُمْ مَن يُخبِرُني عن أيِّ تجمُّعِ مطرٍ
لا يحكي باسمِ العشبِ المُتعَبِ
والزهرِ المسحوقِ وأغصانِ الشجرِ العريانْ
هل مِنكُمْ مَن يُخبِرُني عن أيِّ بُحيرَةِ تكوينٍ لا تحلُمُ أنْ تبني سدّاً
للمطرِ الهاطلِ فيها فتخلـِّقُ كهرَبَةً وتُحرِّكُ مصنعْ
صدِّقني كلُّ بحيراتِ الفكرِ بهذا الوطنِ تُروّى
تتغذى من ذاتِ المنبعْ
إن كانتْ تبغي السيلَ فلا دربَ سِوى أن تتجمَّعْ
أو تلقى الويلَ بيومِ الحرِّ وتغدو مُستنقَعْ
- أفصحْ عمّا ترمِزُ واستخدمْ لغةً شعبيةْ
- ويحي هل يُتَّهم بسيطٌ مثلي بالفوقيّةْ
حسناً… إنّي أعني أنَّ المطرَ الثائرَ يحكي باسمِ الأحرارْ
والمطرَ الجامحَ ينشُدُ للعمالِ
أمطارٌ تشدو حريّةْ
أمطارٌ تهتفُ طبقيّةْ
والمنبعُ واحدْ… ـ واخَجلي ـ
حتى عشراتُ الأسماءِ الحُسنى ظلَّتْ تعني أنَّ اللهَ هو اللهُ
بفهمِ عقولِ الغيبيَّةْ
والمنبعُ واحد…
وستبقى واحدةً في الدربِ قضيَّةْ
فلماذا يفزِعكمُ لفظُ الأسماءْ.
وتخشونَ إذا ما قيلَ شموعيَّة…ْ
قولوا ما شئْتُمْ…سمُّوها عفريتاً أزرقَ
لكن كونوا كفاً واحدةً ثوريَّةْ
هل أصحو ذاتَ صباحٍ من حُلُمي
فأعانِقُكُم، وأقبِّلُكم… أحباباً … عُشاقاً
ما أحلاكم يا أحبابي حينَ أراكم
في الساحاتِ بيومِ النصرِ كوبَرِ المُخمَلْ
ما أروعَ وطناً فيهِ زعيمٌ يخجلْ
أن يلقى في الشارعِ طفلاً مُهمَلْ
إني أحلُمُ في حُلُمي بالمستقبلْ
هل تعِدوني يا أحبابي
أن نمضي في الدربِ لكي يأتي يومٌ
نرفُضُ فيهِ جمالَ الكونِ ونهتفُ
سنناضِلُ من أجلِ الأجملْ
(1) هويا — هوفي — ألفاظ إيحائية مخترعة لتوطئه الدخول في الحلم … وتلفظ هوفي بفاء مقحمة مثل الـ v ــ الانكليزية
(2) طوطق ــ اسم صوت يوحي بالسقوط والارتطام وهو مركب إذ باللغة العربية يوجد اسم صوت ــ طق ــ للارتطام
لكني وجدت أن ــ طوطق ــ تعطي دلالة المسافة والسقوط إضافة إلى الارتطام