الحصان

-1-

ودَّعْتُ خِـلاني وقلتُ أموتُ

لي من حِصانِ الوعْـدِ أغنـيةٌ تَـشظّى للرحيلِ صهيلُها

فوقَ المدى وَتـَدَفـَّـقَ الياقوتُ

مُهـرٌ مِنَ الأحلامِ كَـحَّـلَ مُقلتي

خُصَلا بِـغُرتـِهِ تحاكي النارَ إذ يرتادُها الملكوتُ

أسطورةٌ رَسـَمَتْ سنابِـكَهُ حدودُ شرارِها

وهجَ البُراقِ على الصخورِ يُراقِصُ العنقاءَ…

يا مُهري الجميلَ قَـتَلْـتنيْ

يا برقُ كيفَ تموتُ

إنّي جُموحُكَ قد تَـقَمَّصني جُنونُكَ

مُذْ تَـقَصَّفَ بي صَوابيْ

مِنْ كُلِ صَـوبٍ عاجَلَـْتكَ نِـبالهُمْ

نهمَ الجرادِ وناهَشَتْـكَ رِماحُهم

حتى كأنَّ الكونَ شِدقٌ مِنْ حِرابِ

جَسَديْ بِـطينِ الأرضِ مَعجوناً

يُراوِدهُ القنوطُ

لكنني كالمستَحيلِ أراكَ تَـقْـفِزُ مِنْ إِهابي

شبحاً من الفوسفورِ تَـصْعُدُ هائِماً نحوَ الروابيْ

حتى لأدرك أنني -لا أنتَ- مَقهوراً كَبوتُ

لا شيءَ غَير البردِ بَعدَكَ مَوعِدٌ رَهْـنَ المصابِ

فالحـُـلْمُ آخرُ ما يموتُ

 

-2-

ودَّعْتُ خِلاني وَقُـلتُ أموتُ

فَجُموعُ مَنْ رسَموا الحِصانَ بزيفهم إيقاعَ

نَـبْضِ قُلوبِـهم

أخفوا الدروعَ أوان طرَّزتِ الزنابيرُ الوجيعةُ

بالأزيزِ ضلوعَهُ

والكاهناتُ تدافعتْ بحنوطِها في الليلِ

ترجو مأتماً وَتَنوحُ

وأنا أرى خَللَ الدموعِ تموجاً يُوحيْ بِـمَقْدمِهِ

أوانَ يَروحُ

من أوْجُهٍ تُخفيْ المسَرَّةَ والأنينُ مَقيتُ

وأصيخُ بالقلبِ الحزينِ لأجْتَليْ حُزنَ القلوب

فإذا الصراخُ سُكوتُ

الـمُتعَبونَ وَوَحْدُهُمْ عُشّاقُـهُ

خَرّوا يَـعَضونَ الحَصى لِوداعِـهِ

حين انتَشى المأجورُ والطاغوتُ

في كل خطب إذ يبيت الموت مبتسما

كوني غَدوتُ بآخرِ الرمقِ

وسطَ الحرائقِ إذ تشفّى الجَّمر مِن عُنقي

ينشد ملتصقاً به كشراهةِ العلَقِ

أو خِلتَني وسطَ السلاسلِ شدّني غَرَقي

كانَ الحصانُ يجيء منبثقاً يُلفِعُهُ

مِن وَهدَةٍ في الأفقِ شالٌ مِن لظى الشفَقِ

يرمي عِناناً لي ضَفائِرَهُ

كَجَديلَةِ العبَقِ

حتى أعودَ مُرَفرِفاً ما فوقَ صَهوَتِهِ

تُشفى الحروقُ بِبَلسَمٍ سِحراً

هَلْ مِن رَذاذِ القَطْرِ أمْ عَرَقي

كانَ الحِصانُ يَقودُني أبداً

رَهْواً إلى صبحٍ مِنَ الألقِ

حينَ النياشيُنُ استراحتْ في مخابِئِها

مِن صَحْوَةٍ في الأفْقِ أو مَعْزوفَةِ الأرقِ

حُلْـم النُسورِ يَرودُ ساطِعَةً

وَالْـحُلْمُ لِلخَفّاشِ في كهفٍ مِنَ الدَبقِ

مَن كانَ مِن نَسلِ الشُموسِ نَشيدُه حِمَمٌ

يَزهو بأن تيهي بِنارِ القلبِ واحتَرقي

 

-3-

ودّعْتُ خِلانْي وَقُلْتُ أموتُ

في الساحِ أشلاءٌ يَضيـقُ الكونُ عَنْ أحْلامِها

لكنها افترشت أرائكها فسيحا وسطَ خُرْمٍ [1]

للشهادةِ مُذ نَضا أصحابُها أكفانَهم

وتمدَّدوا نوراً طهوراً كي يَبيتوا

أنا ما بَكيْتُ لأنَّ حُزناً هاجَني

لكِنني أهديتُ كُلَّ الفَرْحِ أحبابي وما أبْـقَيْتُ

للقلبِ حتى بَسْمَةً لِضَمادِ نَبـضٍ نازفٍ ومَضَيْتُ

عَبْرَ الـمَشاهِدِ والمرايا في بَريقِ عُيونِـهِ:

خَلْقٌ مَضى…

أحلاهُ مَنْ قَد غَيـَّب التابوتُ

رمحٌ هُنا في الخاصِرَةْ

سَهْمٌ كأفعى في انْـتِفاخِ الـحُنجُرَةْ

سيفٌ بِـزِنْدٍ في الثرى مَقْطوعَةٌ

قَبْلَ اكتِمالِ الخاطِرةْ

في الأفقِ عاصِفَةٌ يُشَكِلُ غيمَها

كالرعبِ تمساحٌ وحوتُ

أينَ الحِصانُ جُموحُ أحلامي بِـهِ

إنْ ماتَ ضاعَتْ كُلُّ راياتِ الرؤى

فالْحُلْمُ آخرُ ما يَموتُ

 

-4-

أمضي وأبحثُ عَنْ بريقٍ عَنْ شَـهيقٍ ُثمَّ أدرِكُ أنني

خَطوي بِخَطوِيَ قَدْ مَحَوتُ

لا ضوءَ إلا ما تُـتَرجِمُهُ العُيونُ الشاخِصاتُ إلى النُجومِ

شالُ الدُخانِ تَـعَـثُراً يَمْضي إلى تَـلِّ الوجومِ

والنارُ تَسْتَجْدي جَثاميناً تَـفَحَّمَ هامُها عِندَ التخومِ

كانَ اللظى عَبداً لها والآنَ سَيِدُها الـُخفوتُ

لا شيءَ غيُر الموتِ يَرنو والمآتُم أنَّـةٌ

ماعَتْ بِلَوحَتِها الزُيوتُ

 

-5-

ودَّعتُ خِلاني وقُلتُ أموتُ

الآنَ سوفَ يَحُدُني بَـْردٌ شروقاً والغُبارُ مِنْ الغُروبِ

الآنَ سَوفَ يَسوطُني رَعدٌ شمالا ً والثُلوجٌ مِن الجَنوبِ

ها كُلُّ شيءٍ ماتَ يا ربي ولا أحياءَ في هذي الدروبِ

دعْ لي إذن أنْ ألثُمَ الْمُهرَ

المُجَنْدَلَ ثُمَّ أخلُدَ لِلردى

مَنْ بَيْـنَنا في الطيِن مِثلَ قَصيدَةِ الأصداءِ

يَشْخُصُ في المدى

أبَّـنْـتُهُ ثُمَّ انحنيْتُ

نَحْو الكُنوزِ النَبضِ في صدرِ الحِصانْ

مُسْتَسْلِماً كالطيفِ أمْلَسْ

وخيالُ وَجْهي قَدْ تراءى فَوقَ حَدبَةِ عَيْنِهِ

وسْطَ السوادِ ولا يَراني

أوبارُهُ بيَن الأصابِعِ ترتمي حُلما تكلَّسْ

كالطِفلِ أشْهَقُ والهوى في الحُضنِ ميتُ

لكنَّ رأسي لَهْفَةً قَدْ هَزَّهُ في العُمْقِ صَوتُ

فَطَفِقْتُ كالمجنونِ مُهري

أَتَحَسَسْ

يا أيُها العشاقُ في السردابِ رتلا

هاكَ في القنديلِ زَيْتُ

ها إنَّـهُ رُغمَ الجِراحْ

ما زالَ حيّاً يَتَنَفّسْ

فالحُلمُ ظِلُّ الِله حَيٌ لا يَموتُ.