مقتطفات من مداخلة الأديب الموسيقي الفنان ياسر المالح

مقتطفات من مداخلة مكثفة للأديب الموسيقي الفنان ياسر المالح قدم خلالها الشاعر أيمن أبو الشعر في إحدى أمسياته – نقلا عن شريط فيديو-

أهلا بكم في بيت الشعر ، ومائدة هذا المساء شهية الكلمات ملونة الحروف تصدح بالموسيقا ، وصاحب المائدة كما أعرفه مضياف كريم، تعود بسط الكف حتى لو أنه تناهى لقبض لم تطعه أنامله.. وكرمه من ذات نفسه أصل لكرمه من ذات يده ، وإذا كان للناس آباء وللقيم آباء وكان لفنون القول آباء فإن صاحبنا صاحب البيت هو أبو الشِعر واسمه من باب التفاؤل أيمن …

ليس شئ أصعب على مقدم مبدع من تقديمه بكلمات تفيه حقه في وقت محدود، ولا أظنني وأنا أقدم أيمن أبو الشعر في هذه الأمسية بين يدي بحث أكاديمي، ولا أحسب أنني سأمطر الشاعر مديحا كما كان الشعراء يفعلون مع الخلفاء ،فأنا لست باحثا هنا ولا أرجو عطية ، كل ما في الأمر أنني أحب أن أقدمه من جانب واحد من جوانب إبداعه الشعري، ولعله الجانب الذي يفيض على الجوانب الأخرى فيكسبها ألقا وجمالا ، هذا الجانب هو موسيقاه الشعرية بأبعادها ودلالالتها العميقة وتنوعها تنوع ألوان الأزهار .

الموسيقا كما أرى لغة تسمع فترسم صورا ونغمات ملونة وإيقاعات أشكال ، واللوحة الفنية كما الطبيعة إذ تراها بحسك هي موسيقا مرئية، فيها النغمة والإيقاع تجسدها الألوان والخطوط . فالموسيقا المسموعة واللوحة المرئية تتحدثان لغة واحدة رائحة بينهما وغادية ،مرة تسمع ومرة تسمع وترى، من هنا كان شعر أيمن أبو الشعر موسيقا تولد صورا وصورا تولد موسيقا ، وإذا كانت الصورة الشعرية وليدة الألفاظ المركبة ذات الدلالات ، فهي عند أيمن وليدة الألفاظ المركبة وموسيقا الألفاظ في آن معا:

في خدرك أنضح موسيقا

ولهاثي لإيقاع في الآه

أركعني العشق وطهرني

أوصلني رعشة قديس

لحدود الله …

عيدا أعراسا وطقوسا

للجنة أشباه أشباه

وابداع النغم مسألة معقدة سأحاول تبسيطها ، في الكائن الحي كما يقول العلم جينات أومورثات تنتقل بصفاتها من الأجداد إلى الآباء إلى الأبناء إلى الحفداء ، من هذه الجينات ماله صلة بالإبداع يصل إلى ندرة من الورثة ولا يصل إلى الأكثرية ، ومكان الإبداع الدماغ ولا سيما الجانب الأيمن … الذي يختزن كل ما يرد إليه من الحواس … وحين يثار هذا المكان بمؤثر يفيض من المخزون قدرا بطريقة مركبة جديدة تتصل بذات المبدع ، هذه هي المسألة بأبسط عبارة .

وأيمن أبو الشعر لديه ميراث الإبداع من أجداده هو الجينة النادرة ، وذاكرته منجم اختزن الكثير من الأحجار الكريمة أعني جماليات اللغة والأدب والفن، وهو بعد موسيقي عازف يعرف سبيل النغمة إلى الروح ويدرك سر كهربية الاتصال بين المبدع وجمهوره، وهو ينشد الشعر ويغنيه بأداء ينبع من العمق صفوا …

نسمعه مقتبسا:

في الأخضر الورقي

يختزل المكان

في الأحمر الأفقي

يعتزل الزمان

القرش والدلفين يأتلفان

فبأي آلاء ربكما تكذبان

وما يزيد من الموسيقا عند أيمن أبو الشعر (أبو- على الحكاية ) صوفيته في بعض شعره ، والصوفي كما نعلم يمتزج بالموسيقا ويتوحد وربما في بعض المذاهب يرقص ويدور ، والصوفية عند شاعرنا تأمل مكثف نسيجه موسيقا اتصال ، والصوفية أصلا موسيقا مقتبسة من موسيقا الكون .

وثلاثيات أيمن أبو الشعر صوفية كلها تقع في مائة واثنين وتسعين بيتا فهي على هذا أربع وستون ثلاثية إيقاعها فاعلات وتركيبها مجزوء الرمل ، هذا النفس الطويل ذو الإيقاع المنتظم كنبضات القلب ، والقوافي الملونة بالمد والحركة والسكون والموسيقا الداخلية لتآلف أصوات الحروف في الكلمات كل ذلك أشبه بالسمفونية الصوفية ذات الحركات ، ويبدو أن الشاعر في المجال الصوفي يؤمن بالطاقة الكبرى والطاقة الصغرى والكهارب المكونة للمخلوقات جميعا:

مر نيترون شهابا … في فضاءات كموني

كاشفا بالعقل سرا … لم تسجله عيوني

أن أقصى سرعة في … الكون مقياس السكون

ولأيمن أبو الشعر صوت جميل وأداء رائع ونفس عميق يطربه من رئتين واسعتين لينشد قصيدة واحدة طويلة في زفير واحد، كما تكون سحبة الليالي والموال لدى مطرب متمكن ، وهو في أدائه يمر على العلامات الموسيقية الشعرية جميعها صاعدا هابطا بادئا قافلا بخبرة حرفية عالية ، وهو بعد خبير أنغام ومقامات فتارة هو حزين يرجع مقام الصبا بانكسار حذف ومد، وتارة هو فرح يقفز على مقام العجم المطلق ويخترع لأحاسيسه ما يلائم من وزن راقص، والموسيقا في أبياته المقيدة أو تفعيلاته المتحررة كموسيقا الكلاسيك وموسيقا البوب يترنم بها الشيوخ والصبايا والشبان جميعهم يقول في الأبيات المقيدة:

غنِّ يا موال غنِّ … رجع فرح وجع حزن

يبحث العشاق شجوا … فيك عن لون التمني

وأنا في الآه أذوي … باحثا في الحزن عني

وفي التفعيلات المتحررة يقول:

تعيدني عيونك الجميلة

لحارة الصبا

لنكهة الليمون والحبا

لقلبي الصغير إذ حبا

إليك كالنسيم في خميلة

معابثا شريطة الجديلة

وبعد .. فإن تقديم شاعر بقامة أيمن أبو الشعر لا ينبغي أن يتجاوز حده، وتقديمي أشبه ما يكون بعمل مخرج تلفزيوني يركز الإضاءة على الضيف، ويعلق المايكرفون في عروته وينادي كل شئ جاهز ابدأ : أيها السيدات والسادة مع الشاعر الدكتور أيمن أبو الشعر أمسيتنا هذه .