الناي

النايُ يا صَحبي
هلْ تسمعونَ الناي..؟
لأكادُ ألمحُ صوتَه أفعى
وجرحاً من خطيّةْ
يا حاملاً أرواحَ موتانا
عظاتٍ في هديّة
تأتي إلينا مِن بَعيد
من حشرجاتِ الرعبِ في التاريخِ
من رؤيا غدٍ تنسابُ من عصرِ الرشيد
من كُوَّةِ الأجداثِ من ثغرٍ تجمَّدَ فاغراً
ثغرِ الشهيد
النايُ في كلِّ اتجاه
قد طاشَ سهمُ الموتِ وحشُ الرعبِ تاه
يأتي كألفِ صبيةٍ شوهاءَ مزَّقَ وجهَها
الطاعونُ والليلُ المقيت
يخرجنَ من فَوْهاتِ بركانِ الدماء
يَسِرنَ غيلاناً بأحداقٍ مرايا
فوقَ أشباحِ الضحايا
أو على انقاضِ بيتْ
يزعَقْنَ حولَ قبورِ موتاهنَّ .. ينبشنَ الضريح
الأفقُ نزفٌ والسما ثلجٌ وريح
وعلى سواعِدِهنَّ وشمُ الجوعِ مقروحُ العذاب
ملأَ الضبابَ المقبرة
فكأنما هذي القبور
أسنانُ تنينٍ .. وصوتُ النايِ يسري
مثلَ أفعى النارِ تسعى
من أتونِ الحُنجُرَة
لا ضوءَ غيرُ مشاعلٍ خرساءَ في أيدي النساءْ
والبومُ والغربانُ أجنحةُ المَساءْ
والنايُ في الريحِ الغضوبةِ كالعواءْ
النايُ يا صحبي جِباهْ
ديستْ بأمرٍ من إله
النايُ رؤيا
الناي آهْ
********
هل تسمعونَ النايْ
وحدي بهذا العالمِ المأفونِ تجلِدُني خُطاهْ
ويقضُّني الصوتُ الحزين
يأتي إلينا حامِلاً في عُنقِهِ المكلومِ آلامَ السنين
وترفُّ أجنحةُ الصدى
النايُ في كلِّ اتجاه
كالأفعوانِ على المَدى
قد جفَّ شريانُ النَدَمْ
وتدافعَتْ أشباحُ خَفرَعَ في مَمراتِ الهَرَمْ
وتقوَّسَ الصاري عجوزاً ناءَ عن حَملِ العلَمْ
الموجُ فوقَ الشطِّ في النزْعِ الأخيرْ
والرملُ مرتجِفَ المفاصلِ يرتدي ثوبَ الثلوجْ
ودبيبُ نملِ الموتِ يوغِلُ في المُروجْ
العالمُ السفليُّ يحتضنُ الجبالَ كأنَّها
تبغي انعِتاقاً للفضاءْ
والنايُ يعزِفُ نافِخاً قُرَبَ المُحالْ
في قصبةٍ جوفاءَ في عنقِ الرجالْ
ثُقِبَتْ من الرئِةِ الذبيحةِ لا هواءَ ولا دِماءْ
والنايُ يَعزِفُ مثلّ سكينٍ تحزُّ على الوريدْ
آهٍ ولا ندري هُنا
ما لا نريدُ وما نُريدْ
ويطلُّ عيدْ
ويموتُ عِيدْ
ويمرُّ صوتُ النايِ نصحو
ثم نَغفو مِن جديدْ
***
يا راحلاً نحوَ الخُلودْ
ذِكراكَ نهرُ النيلِ والخبزُ الحلالْ
وعلى وجوهِ الكادحينَ على الزنود
لولا المحالْ
لهتفتُ في وجهِ الطغاةِ غداً يعودْ
إني أرى الدنيا وقد عادتْ سديمْ
الشمسُ جرحٌ لا تشعُّ سوى الدِماءْ
حمراءُ والفجرُ اليتيمْ
طحنتْهُ أنيابُ الجحيمْ
مرحى إذنْ
طوبى لسكانِ النعيمْ
الميتونَ قُبيلَ فجرِ الموتِ أصحابِ النذورْ
الميتونَ بلا قبورْ
مدّوا أكفاً للسما
حتى استحالَتْ أجنِحَةْ
قُطِعتْ وطارتْ نحوَ تِلكَ الأضرِحَةْ
والنايُ قد ملَّ الصراخَ بلا سَميعْ
هل تشفعُ الأيامُ لليومِ الوجيعْ
أين الشفيعْ ؟؟!!
يا نايُ يكفي ليسَ من شئٍ يؤولُ إلى الفناءْ
فالأرضُ تمتصُّ الدِماءْ
لتحيلَها يوماً عطاءْ
فعلى شواطي النيلِ طَميٌ فيهِ آثارُ النزيفْ
زرعوا عليه القمحَ كي يمحو خطاهُ على الرصيفْ
لكنما العمالُ في وقتِ الغذاءِ على الحصيرْ
وجدوا دماءً بينَ طيّاتِ الرغيفْ
وتلاقتِ الأبصارُ عزماً فاستعدوا للمسيرْ
********