……
كقمرٍ فضيٍ يقضُّ هجعةَ الليلِ، يأتي مورقاً في جعبتهِ ألف حلمٍ وحلمْ، يطرقُ مصراعَ العتمةِ ليوقظَ أفراسَ الضوءِ، يفلتها ترمحُ في وضحِ النّورِ إلى أن يستحيلَ الوعدُ تفاحةً مسروقةً منْ صدرِ شهرزادْ، يعجُّ طرادهُ في الآمادِ الغضبى، يستنهضُ الهممَ لتكملَ حثيثها في الدروبِ التواقةِ لضجيجِ الفرحِ، ذخيرتهُ طلقاتٌ شعريةٌ استلفها منْ صديقهِ اسبارتكوسْ، يصوبُها إلى صدرِ الظلامِ، فينبجسُ حليبُ السماءِ.
أيمن أبو الشعر، حسبكَ الاسمُ وكفى، لطالما حرّضتَ الحناجرَ على الصداحِ، وألهبتَ الأكفَّ بصخبِ العنفوانِ، اجتحتَ وجدانَ الكثيرينَ، فغدا اسمكَ أيقونةً لذاكرةِ تلتعجُ مواقدُها حين نسترجعُ الأيامَ الخوالي، يومَ كانتْ خيلُكَ ترقلُ في الميادينِ العسيرةِ.، تستبيحُ السكونَ فتلتئمُ الجراحُ المنذورةُ لقيامةِ مسيحٍ جديدٍ.
في قصيدتهِ (قارع الطّبل الزنجي) يبلغُ الشاعرُ ذروةَ الثورةِ، حين يحتدمُ الصراعُ الطبقي بالعرقي بالثوري بالرفضِ، تلكَ الدم دم دم التي هيّجتْ فينا عسيسَ الجمرِ الكامنِ في الذواتِ.
لطالما وقفتُ عندَ قصيدته التي أحب (عندما تكلم عيسى)
معجزاتُ الأمسِ من رؤيا الذي نحياهُ
هذا اليوم مرصوداً بِطوطمْ
عندما عيسى تكلَّمْ
اليسوعُ الطفلُ لم يفزعْ لمرأى صلبِهِ
الآتي المُحتَّمْ
هالَهُ ما قد تراءى قادماً بعد قرونْ
ما نعيشُ اليومَ في الزمنِ الحرونْ
فوقَ عنقِ العصرِ سكينٌ مُثلَّمْ
طحلبُ الأشتاتِ يحتلُّ الشواطي
وشراعَ الأغنياتْ
وقضاةٌ من حضاراتِ الأفاعي والجنونْ
أرضُهُ وهو الفلسطينيُّ أرضاً ثم صلباً
وجراحاً يُنكرونْ.
كأنها محاكاةٌ لكلِّ عصرٍ وزمان، …
هو أيمن أبو الشعرِ المسكونُ بهمِّ الناسِ والوطنْ، يعتزُّ بخيارهِ اليساري غيرَ آبهِ بلومِ القافزين إلى البحيراتِ الذهبيةِ أو فذلكةِ المتلونينَ بأطيافِ صرعاتِ الإيديولوجيات العائمةِ، صريحٌ بما يكفي لراحةِ ضميرهِ، فصيحٌ لأجلِ الكلمةِ وجلالِ الشعرِ، الحريةُ والثورةُ والعدالةٌ والخلاصُ وكلُّ معاني الأنسنةِ، مخزونٌ وجداني اكتنزهُ قبلَ أنْ يطفو اللائمون فوقَ رغوةِ الصحوةِ.
حسبهُ أنهُ لمْ يقدسْ إلهاً، ولمْ يرجمْ صنماً، يناضلُ في الحياةِ كما يقتضي شرفُ النبلِ وتسامي الخلق، الكرامةُ تاجهُ، والوطنُ عرشهُ.
أذكرُ في حيزِ المُراد، يوم تمَّ تعيين محمود درويش عضواً في المجلسِ الوطني الفلسطيني ولم يكن حاضراً، أن اعترضَ عليهِ الكثيرونَ، سيما أنه ينتمي إلى حزبِ راكاح (الشيوعي الإسرائيلي) .. قال لهم المحامي غائم عريقات (على ما أذكر) إنَّ مناسبةً واحدةً لمحمود تستطيعُ أن تجمعَ حولها مناصرةً لفلسطين ما تعجزُ عنه المنظماتُ الفلسطينية جميعُها.
وبنفس المجالِ أقولُ: إن حفلات ومناسبات أيمن أبو الشعر استطاعتْ أن تلملمَ الشتاتَ اليساري وتجمعَ ما عجزتْ عنه جميع المنظماتِ اليسارية في سوريةْ.
يومَ كان الإعلامُ خجولاً، انتشرتْ أشرطةُ التسجيلِ لحفلاتهِ كأنها مناشيرٌ سريةٌ، يسهرُ الشبابُ الحالمون بالأملِ على إيقاعاتِ القصائدِ الحبلى بالوعدِ، سيما تلك المغناةِ على عودهِ الأثير.
عرفتهُ منذُ أربعينَ عاماً في المركز الثقافي السوفيتي، يومها ألقى عدةَ قصائد، أهمها (الصّدى، غازانِ كهربةٌ فماء، ومن الثلاثيات) وكانَ قد سبقَها إلى مكتبتي (طلقاتٌ شعريةٌ، وحلمٌ في الزنزانة، انتحار الدلافين… وغيرها)
توطدت الصحبة بعد أن جمعنا الفيس بوك، فكانَ الجميلُ كما يحتاجُ الجمالُ، عرفتُ فيهِ التواضعَ والأدبَ والترفعَ عن الصغائرِ، ثم التقينا، وكمْ سرني هذا الهدوء في الحضور، وتكررَ اللقاءُ، ومازلتُ أبحثُ في منجمهِ عن اللقى الفريدةِ.
حصادهُ أكثرَ من ثلاثينَ مؤلفاٌ في الشعرِ والمسرحِ والقصةِ والترجمة والدراسةِ، فضلاً عن السيرةِ الإبداعيةِ العابقةِ في الصحافةِ والتلفزيونِ، وريشةِ عودهِ الرشيقةِ الدافئةِ بعذبِ اللحنِ وثراء الكلمةِ.
مايزالُ وهّاجَ الحضورِ، وطلي الصوتِ بالإلقاءِ المميزِ، أمسياتهُ مناسكُ حجيج إلى فضاء عابقٍ بالتخييل فوقَ سروج الريحِ، نسترجعُ معها أحلامنا المسروقةَ من مكائدِ القدرِ، ونعللُ النفسَ بآمالٍ عذابٍ نستلفها من حداءِ رغبته وسناءِ رؤياه.
بقلمهِ النبيل أكثر من عشرِ إهداءاتِ منْ قطافِ حبرهِ، أعتزُ بها تزينُ مكتبتي.
ولعلَ الأجملَ من أيمنِ الشاعرِ، أيمنَ الإنسانِ، الشفيفُ اللطيفُ، النديمُ الجميلُ، الهادئ الدمثُ، الحضاري الموقفِ والمسارِ، يهتمُ بالجميع ولا يبخسُ أحدٌ حقهُ، الكلمةُ الدافئةُ جوازُ سفرهِ إلى كلِّ القلوبِ. يحمل لقب الدكتور (برفسور) لكنه لم يستعرض به يوما، فجميع دواوينه خالية من هذا اللقب، كذلك صفحته على الفيس بوك، فاسمه يحمل كبرى الألقاب، ولا يحتاج للقب يحمل اسمه.
في معرفتي بهِ كان المبادر للقاء، والكاسر لجليدِ الترسّم، يشجع الإبداع، ويشد على الأيادي الرانية إلى فضاء الجمال.
أكثر ما لفتني بهِ ترفعهُ عن المساسِ بأسماءِ خصومه، وتجاوزه للمواقفِ بكبرياء.
في أمسيته الأخيرة غصّتْ قاعةُ المركز الثقافي بأبي رمانة بالحضور، والبعض حضر واقفاً، إنه إرثهُ الغني بالعطاءِ، إنهُ النضحُ من بئرٍ اشتهرَ بزلالِ كوثرهِ.
وفي زيارته الأخيرة للوطن رافقتهُ مع ثلة من الأصحابِ بزيارتينِ إلى صديقينِ بدعوتينِ منهما، كان الوحيد بيننا الذي حملَ لكلِ منهما هدية.
لأبي خالد الشاعر والإنسان فيض التحايا، لكَ الحشايا وما وشّت مطارفها، ودمتَ صديقاً نبيلاً كسبتهُ في زمنِ الخساراتِ.
……
يا صوتَ الشاعرِ، يا ذاكرةَ المغْنى
يا هدهدةَ الشّعر ِحينَ يهزُّ صواري المبنْى
يا ترياقَ الوجدِ ومسكرةَ العشاقِ
يا حلماً يكتبُ أسفارَ الوطنِ
يا دفئاً يجتاحُ خدورَ الحبِّ
فيضطرمُ المعْنى.