الشاعر السوري أيمن أبو الشعر لـ«البيان»: سنقيم ما أفرزته هذه المرحلة بعد عقود

الشاعر السوري أيمن أبو الشعر لـ«البيان»: سنقيم ما أفرزته هذه المرحلة بعد عقود

 

أيمن أبو الشعر، شاعر سوري، ولد في دمشق عام 1946، نال الدكتوراه في الآداب من معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية العليا، عمل في مجال الترجمة الأدبية في موسكو لصالح دار «التقدم» ودار «رادوغا»، وفي الصحافة المطبوعة والمرئية والمسموعة قرابة أربعة عقود. للشاعر أكثر من 20 مؤلفاً في مجالات الشعر والمسرح والدراسات والترجمة، ترجمت مختارات من أشعاره إلى عدد من اللغات الحية، انتشرت قصائده بشكل خاص عبر أشرطة التسجيل لأمسياته الجماهيرية المتميزة.
«البيان» حاورت الشاعر السوري المقيم حالياً في موسكو، خلال زيارته الأخيرة لدمشق بمناسبة صدور ديوانه الجديد «سلاماً – مَواعيدَ قلبي – دمشق».
عبثية الحياة
– يقال إن «الفن هو التفكير بالصور» ويقول تولستوي: الفن ليس متعة، هو وسيلة بين الأشخاص، لمشاركة نفس المشاعر.. ما هي رؤية أيمن أبو الشعر للفن وأخص هنا الشعر بطبيعة الحال؟

* أميل منذ حين إلى التأمل في كنه الوجود والحياة، وبت مقتنعاً بأن الحياة عموماً حالة عبثية بطبيعتها البيولوجية لا معنى لها، كما هو الحال بالنسبة للكائنات الحية الأخرى، وهي رتيبة لا روح فيها، وعلى الإنسان أن يمنحها معناها وروحها، وهذا ممكن فقط عن طريق الحب والفن والجمال.
ومن هنا فإن الفن أحد ثلاثة عناصر محورية تجعل للحياة وشؤونها وعيشها معنى ويبث فيها الروح عبر الجمال والحب. والفن هو إلى حد كبير التفكير عن طريق الصور، وهذا القول كما أذكر هو للناقد السوفييتي لوناتشارسكي..
والشعر هو ذروة التكوين اللغوي، لأن مهمته نقل المستمع أو القارئ إلى عوالم مشاعرية تخيلية يتألق موضوعها بصياغتها المميزة وتكثيفها وإيقاعاتها سواء الكلاسيكية أو الحديثة. الفن مصطلح جسور مذهل في تأثيره.. نعم، مجتمعاتنا عموماً لا تحظى للأسف بثقافة عالية يمكن أن تشذب وتنمي ذائقتها الجمالية. والفن يساعدنا في مواجهة قدرنا المحتوم المنعكس في الإحساس الجمعي الغافي في أعماقنا بالزوال والموت، ما يجعلنا أقرب إلى الحزن «سيد المشاعر»، حتى ليبدو الفرح مجرد فسحة أو جسر بين حزنين:
حاولي أن تقرأيني بالرؤى لا بالشفاهْ
وتهَجَي في عيوني بعضَ أسرارِ الإلهْ
فلغاتُ الأرضِ جمعاً أُنطِقتْ في الحزنِ آهْ
تجربة نوعية
– مرَّت تجربتك الشعرية بمراحل عدة بدءاً من السياسي، والإنساني وصولاً إلى الصوفية بجانبها الشعري طبعاً.. كيف تصف هذه التجربة باختصار؟

* نعم هذه المراحل ابتدأت بالسياسي ضمن ظروف نضالية، ما وسع من دور الشعر المباشر التحريضي، وإن كنت لا أعتد بتلك النتاجات المبكرة فنياً، إلا أنها كانت تجربة محرقية نوعية ليس عندي وحدي بل لدى معظم الشعراء من أبناء جيلي، كان على الكثيرين منا نتيجة الضعف الثقافي لدى الجمهور أن نهبط إليه لتحريضه على النضال في سبيل غد أفضل.
وقد أسست آنذاك فرقة «سبارتاكوس»، وكنت أطوف على القرى والبلدات لأنشد الأشعار الأغاني والأناشيد على آلة العود، ترافق ذلك بالطبع مع بدايات النتاجات النوعية الأخرى المتطورة فنياً،.
والتي بت أركز عليها أكثر، وراحت تتسع إبان نضج التجربة وخاصة ذات الطابع الإنساني العام كما في «قارع الطبل الزنجي» و«انتحار الدلفين» و«الحزن الألق» وغيرها، وكان بديهياً كما يبدو أن يتجلى التأمل الصوفي بمعناه الفني لا المشيخي طبعاً في مجموعة الثلاثيات التي تتحدث عن الكون والجمال والحب وشؤون الحياة برؤية فلسفية.
في غضون ذلك بت أجنح في بعض القصائد إلى الاستخدام الأسطوري والرؤى الشمولية الصعبة نسبياً على المتلقي الذي لا يملك ثقافة عالية كما في «عشتار» وتجليات الواقع والمطلق في المجموعة الأخيرة:
إن خسرت الفجر في هذا الرهان
فأريجُ الأقحوانْ
سوفَ يحكي للزمانْ
كم ضئيلاً ناحلاً كانَ الشراعْ
صادقَ الألوانِ مِن نزفي ووِديْ
كم عتياً كان إعصارُ الصراعْ
غادراً والكونُ ضديْ
قد كفى مجداً بأنْ كان التَحدّيْ
بيننا نداً لندِّ
حجة الحداثة
– قلت في مقابلة سابقة «أخشى على الشعر».. كيف ترى واقع الشعر في سوريا والوطن العربي اليوم، في عصر وسائل الاتصال التي سرقت الناس من الكتاب، ونحن أصلاً أمة لا تقرأ؟
* لنبتدئ من أمر بالغ الأهمية بالنسبة لي على الأقل.. المبدع عموماً، والشاعر خصوصاً، لا يمكن إلا أن يكون معارضاً، لأنه بطبيعته يسعى دائماً للتغيير، ولكنه يجب أن يكون معارضاً حضارياً لا مخرباً..
مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي غدت أهم وسيلة إعلامية بات لكل نتاج جمهوره.. طبعاً لكل تجربة إبداعية الحق في التعبير عن نفسها.. ولكن شريطة أن تمتلك أبجدية الفن والحد الأدنى على الأقل من الشاعرية، أما عن واقع الشعر في سوريا، فقد غرقت مرحلة الستينات والسبعينات باتجاهين رئيسين الإبهام والغموض بحجة الحداثة، والمباشرة بحجة رفض مبدأ الفن للفن، وقد تراجع هذان التياران في الآونة الأخيرة.
وهناك أسماء كبيرة جديرة بالاهتمام من أمثال وليد مشوح وفايز خضور ونزيه أبوعفش وغيرهم من أبناء جيلي، ثم ظهرت أسماء عدة جديرة أيضاً بالاهتمام ابتعدت إلى حد كبير عن موجة الضياع، وكذلك عن المباشرة من أمثال عبد القادر الحصني وراتب سكر وثائر زين الدين وسعد الدين كليب ونزار بريك هنيدي وغيرهم.

– تعيش خارج البلاد منذ عقود.. ما الأثر الذي تركه الاغتراب في تجربتك الشعرية؟

* يبدو لي أن انغماسي في التجربة الشعرية في وقت مبكر لعب دوراً كبيراً في مسار تجربتي، فقد استفدت كثيراً من تفاوت الأساليب بين كبار الشعراء ومشاهيرهم ممن نشأت صلات أو حتى صداقات معهم كنزار قباني ومحمود درويش ومحمد الفيتوري، كان ذلك بداية تأثري ورغبتي في أن أكون مختلفاً. من جهة ثانية كان للإحساس بالاغتراب وأنا داخل الوطن من خلال المفارقات الطبقية والاجتماعية تأثير انفعالي صاخب ومعارض ولكن بالمعنى الحضاري.
وأثرت فيَّ كذلك تجربتي في الاتحاد السوفييتي، حيث الغربة المكانية المباشرة التي أرهصت لتعرفي على عالم جديد وعلى العديد من الكتاب والشعراء الكبار كأيتماتوف وحمزاتوف، خصوصاً أنني شاركت في العديد من الندوات والمهرجانات الشعرية الضخمة إلى حد أذهلني..
لقد اغتنت تجربتي كثيراً من خلال اللقاءات والحوارات مع الأدباء الروس والسوفييت في حينها، وخصوصاً تعايش المذاهب والمدارس الأدبية، ثم من خلال ترجمتي لعشرات الشعراء والقصاصين والروائيين الروس. المفارقة الحميمة في حمى الوطن، أنك تعيش في أحضانه إلى أن ترحل فتحمله في أحضانك أنى مضيت.

تغريبة سورية
– تقول: «الوطن مفهوم معقد جداً»، وهو ليس مُجرّدَ تاريخ، أو جغرافيا، إنما علاقات إنسانية متشابكة. في ظل الواقع الذي يواجهه السوريون منذ عام 2011، وهجرة الكثيرين، كيف تنظر إلى هذا المفهوم اليوم؟
* الوطن «كمفهوم» معقد بالفعل، لأن المفهوم بطبيعته كاصطلاح يحاول اختصار جميع مدلولات الوطن وتجلياته في عنوان مكثف، خصوصاً أننا في عصر تجاوز إلى حد كبير بعض ما كان سائداً كتعريفات لحالة الانتماء للوطن. أنا أركز هنا على المحرق المشاعري الذي يولد خفقة في القلب اسمها الوطن.
ويتأتى ذلك نتيجة علاقات إنسانية متشابكة توَلِّد ذكريات ومشاعر ورؤى وأحداثاً وانطباعات تعمق جميعها هذا الانتماء.. الواقع الآن قاس ومرير والجراح تحتاج إلى قطن بحجم غيوم السماء لتضميدها، وربما سنتمكن بعد عشرات السنين من تقييم هذه المرحلة وما أفرزته وستفرزه، إنها التغريبة السورية الكبرى، ولكنها قد تسهم في توطيد علاقات إنسانية شاملة ونوعية جديدة خلال بضعة عقود. الوطن كما نريد أن نراه هو مبرر حياتي ونضالي من أجل غد أفضل، وأعتقد أنني بهذا المعنى أتقمص القسم الأكبر من الشعب السوري:
أنا الياسمينُ الحواري
وجوريُّ خدِّ النهارِ
شميمُ الندى في ترابِكْ
وتهويمةُ العشبِ بعدَ المَطَرْ
ونارنجُ دارِكْ
إذا ما تَمرَّى بضوءِ القَمرْ
قناديلُ كبّادِكِ الحلوِ عندَ السَحرْ
مواعيدُ خصبيِكِ في النبضِ برقُ
لفجرٍ جديدٍ وشعبٍ سعيدْ
بزندٍ بلا مطرقاتٍ
يَدُقُّ الحديدَ الرؤى إذ يَدُقُّ
سلاماً – مواعيدَ قلبي- دمشقُ