شارع المبدعين في موسكو

شارع المبدعين في موسكو

Arbat

بقلم: أيمن أبو الشعر

هل يستطيع سوق حي الصالحية أو سوق الحميدية تقبل ظاهرة المبدعين الجوالين كما هو الحال في شارع أرباط في موسكو. أم قد يبدو وجودهم ظاهرة شاذة وقد يتعرضون للمضايقة إن لم نقل للأذى؟؟ أشير الى هذه المفارقة وأنا لا أدري تماماً حقيقة الجواب رغم أن ظاهرة كهذه تبقى مثيرة ومفيدة حتى لمثل هذه الأسواق حيث لاسيارات ولا شاحنات والناس كثر جيئة وذهاباً وهو ما يتناسب مع حالة كهذه.

يعتبر شارع أرباط في موسكو بحق من أغنى مكامن الذاكرة بالنسبة للروس عموماً والموكسوفيين خصوصاً في مختلف المجالات الانساينة الإبداعية منها على وجه الخصوص. من هنا يتخذ جسراً لكثير من العطاءات والمقالات والأفلام وحتى القصص والروايات كرواية ريباكوف أولاد أرباط. هذا الحي لا يحتفظ وحسب بذاكرة المنعطفات التاريخية الكبرى في حياة المدينة بل كان ومازال معبراً حياً على إحياء تراث ومعطيات هذه الذاكرة كأنها شريط متصل بين الحاضر والماضي من خلال سعي المبدعين أنفسهم لتجسيد تلك التقاليد الجميلة.

تجولت لساعات في حي أرباط قبل أيام بعد انقطاع مديد نسبياً عن موسكو التي عدت إليها مؤخراً محاولاً استنطاق تلك الذكريات العذبة حيث كنت أجوب هذا الحي بين حين وآخر مع لفيف من الأصدقاء وخاصة بعض الشعراء والفنانين والكتاب.

يصافحك أرباط بروحه وأجوائه المتميزة مجرد ولوجك في رواقه متنوع الألوان والأصوات وكأنه يقول لك هنا تستطيع أن تعايش كل ماتوده حسب اهتماماتك فحتى ا لسائح العادي ستلفت نظره على جانبي هذا الشارع ووسط بعض انعطافاته النماذج المعمارية الأنيقة الفخمة ولوحات عديدة في مداخلها كتب عليها اسم أحد المشاهير أو نقشت صورة لوجهه مع بعض المعطيات التاريخية عنه وعن المرحلة التي عاش فيها هذا المبنى من أمثال الكسندر بوشكين وليف تولوستوي وفيودور دوستويفسكي ومكسيم غوركي وسيرغي يسينين وكثير غيرهم حيث احتضن هذا الشارع ولادة المدارس والتيارات الأدبية والفنية المختلفة وحتى صراعاتها وكذلك الكثير من النبلاء والسياسين والوجوه الاجتماعية الفاعلة في زمانها والتي لم تمح من الذاكرة رغم تعاقب أنظمة سياسية متباينة ومتناحرة.

ورغم أن أجواء المعاصرة باتت تهيمن على بعض واجهاته السفلى وانتشار الباعة لكل شيء تقريباً وخاصة مايهم السائحين إلا أن المسؤولين حافظوا على مدى أجيال عديدة على ملامحه الأصلية وتلك الروح العريقة تاركة بحبوحة واضحة لحرية التعبير حتى في إطار مباشر بين المبدع والمتلقي. ففي هذا الشارع يتصرف الناس بشكل عفوي بسيط وخاصة المبدعين حيث تجد بعض الفنانين التشكيليين يعرضون لوحاتهم معتبرين الشارع أهم معرض حي وبعضهم يعرض عليك رسم صورة لك في إطار جاد أو كاريكاتيري وبعد بضع خطوات قد تجد بعض الموسيقيين يعزفون وينشدون وأمامهم قبعة أو منديل لكي يتبرع لهم من يعجبه ما سمع، أو شابة أو شاباً يعزف على القيثارة ويغن بل وربما تجد شاعراً وقف على حافة حجرية مرتفعة قليلاً وهو ينشد شعره للناس مما يذكر في ظلال متقاربة في بعض جوانبه بسوق عكاظ العربي القديم..!

لا بد من الإشارة هنا الى أن الملامح الأولى لنشوء هذا الحي تعود الى القرنين الرابع عشر والخامس عشر كمركز تجاري وحرفي ثم سرعان ما تطور وشيئاً فشيئاً تحول لسكن كبار التجار والنبلاء والانتليجينسيا، وقد تلقى هذا الحي كونه آنذاك عند مشارف موسكو القديمة الطعنات الأولى في صموده أمام غزوات الطامعين بما في ذلك نابليون وأمنت الرشاشات من أحد أبنيته العالية غطاء آمناً لزحف الثوار البلشفيين على قصر الكرملين ،من هنا فإن عراقة أرباط لها مصداقية فنية واجتماعية ووطنية، ولهذا يعتبره الموسكوفيون مفخرة وينصحون السياح بالتوجه إليه كما ننصح نحن السياح للتوجه الى الأحياء الأثرية القديمة.

بقي أن أشير الى أن الكثير من التقديرات تشير الى أن تسمية هذا الحي تعود في جذورها القديمة الى اللغة العربية ويرى البعض أنها نشأت من كلمة الرباط بعد حذف اللام الشمسية التي لا تلفظ ومنشأ ذلك أن المكان في القديم كانت تربط على جنباته خيول التجار والوافدين للتبضع والزيارة.. ويقال أيضاً إن الأصل على الارجح يعود الى فترة موغلة أكثر في القيم ومشتق من عربات حيث كانت العربات تحديداً الوسيلة الأشهر والأسهل وربما جاءت التسمية حتى من زمان العلاقات الغابرة مع طريق الحرير القديم وانتقلت عبر المتعاملين معه الى موسكو مع البضائع بتواصل إرسالها أو استقبالها .

وأياً كان منشأ التسمية فإن شارع أرباط يستدعي التأمل في إحياء المشاهير وتخليد ذكراهم كونهم ساهموا بغض النظر عن تقييم هذا أو ذاك بتكوين اللوحة الفسيفسائية للعطاء المبدع، وأن نستنهض ذكراهم من الأزمان السابقة بموضوعية وحب واحترام. ولعل الزمن الحاضر يفتح ولو على حياء في البداية ـ بابا للإبداع المتواصل مع الناس مباشرة في هذا الشارع العربي أو ذاك فيجذب من يتذوق هذا اللحن والأداء لا ما يفرض عليه في ميكرو أو تكسي ومن يرتاح لهذه اللوحة أو القصيدة أو تلك لدقائق مستمتعاً بألوان اللوحة أو ايقاعات وصور القصيدة..

ويمضي من لا يرتاح لهذا ولا لذاك في طريقه دون ضرر أو ضرار.