الريحاني مناضلا – قلبي في لبنان وروحي في البلاد العربية

الريحاني مناضلا – قلبي في لبنان وروحي في البلاد العربية

aminarihani

بقلم: أيمن أبو الشعر

تبدو الأعمال الإبداعية المتميزة لهذا الكاتب أو الشاعر أو ذاك في بعض الأحيان كصفة مشبهة تطبع في الذائقة الشعبية كنهها، وتختصر بشكل عفوي الجوانب الأخرى التي لا تقل ألقا وحضورا لدى المبدع نفسه، مما يحتاج أحيانا إلى إلقاء الضوء على تلك الجوانب الفاعلة في نتاج وتاريخ الأديب المعني .

من ذلك الأديب والمفكر اللبناني أمين الريحاني الذي احتل مساحة هامة في سفر الشعر والنثر باللغتين العربية والإنكليزية ، حتى يمكن القول انه كان رائد قصيدة النثر قبل اتساع مداها في الشعر العربي بأكثر من خمسين عاما ، وغدا علما لا يمكن لدارس أن يتجاهل عطاءاته المميزة مستمرة الألق منذ نهاية القرن التاسع عشر .

وسيخطر ببال الباحث في أدب وعطاءات الريحاني الكثير الكثير من المؤلفات والكتابات التي تزيد عن ثلاثين مؤلفا، ولا يبتعد معظمها عن جوهر الكتابات الاجتماعية والوطنية والقومية مع ظلال تأملات ذات نكهة إشراقية وانطباعات تاريخية ومكانية وتوثيقية .

لكن (الصفة المشبهة) لأمين الريحاني إلى جانب كل ذلك هي أنه كان داعية بالغ الحماس للوحدة العربية ، ومنافحا عن طموحاتها بألق كبير خاصة إذا ما أخذنا ظروف ومعطيات المرحلة التي عاشها، من هنا فإن بصمات الريحاني محفورة بعمق في مسار النهضة العربية . ويلفت النظر ان المستشرق السوفييتي الكبير كراتشكوفسكي كان يتحدث عن ذكرياته مع الريحاني باعتباره كابتا عربيا سوريا لبنانيا حيث كانت سوريا آنذاك تضم لبنان وفلسطين والأردن كوحدة جغرافية ديموغرافية وسياسية . وفي مقالة له كتبها في سان بطرس بورغ يقول كراتشكوفسكي : (في صباح جميل من أيام سورية الباكر كنت جالسا في مكتب صغير لصديقي جورج عطية سنة 1910 محرر جريدة المراقب البيروتية ..). ويبين كراتشكوفسكي حبه لهدوء سوق مارجرجس – في إطار حديثه عن الربيع السوري إذ لا فارق آنذاك بين دمشق وبيروت انتماء- ، ويوضح أنه بعد ذلك اللقاء مع الريحاني توجه هو إلى روسيا في حين توجه أمين الريحاني إلى طبرية حيث المياه المعدنية للاستشفاء من مرض عصبي .. ويتوقف كراتشوفسكي عند موقف هذا الكاتب الشجاع من التعصب الديني والطائفي مركزا على أن مبدأ الريحاني كان يعتمد على شحذ الهمم للعمل على إصلاح الزعماء والعامة على حد سواء نابذا كل أشكال التعصب التي يعتبرها مرضا لا بد من استئصاله .

والأمر لا يتعلق فقط بهذا الحماس للعروبة بل في أن الريحاني كان صاحب مشروع إصلاحي يشدد على ضرورة نبذ التشرذمات السياسية والطائفية بقوة وإيمان كبيرين لتحقيق التحرر. يقول عنه فؤاد الشايب :(وقد غرس لبنان أشواكا قاتلة في جنب الإمبراطورية العثمانية فكان الريحاني أحدَّها نصلا .. وغرس لبنان ثقافته في حومة النضال القومي وكان الريحاني أينع غرساته ، وإذا بالمسيحي الماروني من قرية لبنانية صغيرة صاحب الهوى العربي والهوية الأمريكية يقرع أبواب القضية العربية في معاقلها النائية ويهز أصحابها في أبراجهم العالية)

كان تجسيد هذا الجانب هاجسا رئيسيا لدى الريحاني بحس مسؤول واع، كونه يدرك أن تعايش جميع مكونات المجتمع معا بتنوع المشارب والطوائف هو أكبر وأجمل وأسمى من أن تفرق الشعب مظاهر التشنج الطائفي والإنغلاق السياسي، طامحا نحو هدف رائع في عيش مشترك متفاعل يحول دون تدخل الأجنبي مكتشفا بذلك سرا هائلا للكينونة المصيرية عبر التآلف : (اعلموا أن لا خلاص للأقليات من ربقة الأجانب أو على أقل تقدير من التدخل الأجنبي إلا باتحادهم مع العرب بل بامتزاجهم بالأكثريات عقليا وروحيا)

هذا الطابع المسؤول كان يدفعه إلى استنهاض الروح المتمردة الواعية غير آبه بالانتقادات التي تكاثرت آنذاك حوله رافضا البكائيات والاستكانة مركزا على روح المواجهة حتى وإن أدى ذلك إلى ردود فعل مناهضة لأطروحاته ومحاولة النيل من قيمته الإبداعية بل وحتى محاولة التشكيك بمقاصده واعتباره عميلا ..!! يقول : (رضيت أن أكون من الطبقة الأولى في الوطنية ولو جعلني ذلك في الطبقة الوسطى من الشعراء) مؤكدا أن آلهة الشعر لا تعلم اليأس وأن ربة النبوغ لا تعرف القنوط.

الريحاني إذن كان خطيبا ثوريا في ظلال تلك المرحلة رغم الطابع الرومانسي المثالي الذي كان رائدا في عصره ، وكان يرفض أن تنساح أوابد أمته في السخافات العابرة ويحرص على استنهاضها كي تتفهم وترفض جميع أشكال العبودية الساطعة الواضحة أو المتوارية والمموهة حتى أن رئيف خوري يركز على هذا الجانب منوها بأن خطبة الريحاني (بين عهدين) عام 1933 في بيروت كانت الدافع الأول لحقد المفوض السامي الفرنسي الكونت دي مرتيل عليه والمطية التي اتكأ عليها لنفيه خارج البلاد، ومما جاء في هذه الخطبة رصدا لمعاناة العبودية: (من عبودية خلقية روحية إلى عبودية اقتصادية مادية ، من عبودية تحسن السكوت إلى عبودية لا تحسن غير الكلام .. من عبودية تصلي وتشكو لله أمرها إلى عبودية تتفلسف وتكذب على نفسها وعلى الله .. من عبودية بريئة متواضعة إلى عبودية بذيئة مكابرة)

ويرى البعض أن الكاتب الروسي الكبير تولستوي أولع بأمين الريحاني خاصة أن كلاهما كان مثاليا في التعامل مع الحرية والحب والرؤى الكونية سعيا لتحقيق الوحدة الإنسانية. وفي الختام الموجز نورد ما قاله الريحاني عن نفسه: (إنني لبناني المولد عربي اللسان والقومية وقد يكون في عروقي دم فينيقي أو كنعاني أو آرامي أو كلداني فإذا كان قلبي في لبنان فروحي في البلاد العربية)