باغانيني وجوهر المعادلة

c1b4e8d7f8

بقلم: أيمن أبو الشعر

يذكر الطلبة أو الذين كانوا يأتون إلى روسيا زمن الاتحاد السوفييتي لإنجاز دورات تخصصية أو الزائرون العابرون أن عالم الطفولة في ذاك البلد كان متميزا بسطوع مذهل، بدءا من الأسعار الرمزية جدا لجميع السلع الخاصة بالأطفال من لباس وأغذية وألعاب ودمى أو شؤن مدرسية ورياض وحضانة الطفولة بالدرجة الأولى – وانتهاء بذاك الاهتمام الهائل بالثقافة وبتنمية مواهب ومدارك الأطفال ،وكثيرا ما كنت تشاهد في الشارع أما أو أبا يقود طفله الصغير بيد والالة الموسيقية بيد أخرى لأنها قد تكون ثقيلة على الطفل، ناهيك عن التوجهات التربوية التثقيفية الواسعة التي تبتدئ منذ الطفولة المبكرة في بلد كان بحق بلد القارئين الأول في العالم كله .

في ساحة المبنى الذي يشبه الدائرة في منطقة (يوغا زابدنايا) حيث كنت أسكن، كنت أصحو أحيانا في الصباحات الباكرة صيفا على ضجيج وصخب محبب يكاد يشبه كورال إنشادي للعصافير والطبيعة والحياة الجميلة بآن معا، ولكني نتيجة تعودي العمل في الليل كنت أصحو منزعجا متثاقلا حيث لا يفيدك فنجان القهوة العربية التي كنت أحرص على اصطحابها معي كلما سنحت لي فرصة لزيارة الوطن.

ذات صباح دلفت إلى ساحة المبنى وأنا أنوي تأنيب أهالي هؤلاء الأطفال الصغار. كانت الساحة تعج بباقات ورود من مختلف الأعمار على الأراجيح وفي مربعات الرمل وفي القلابات والأبنية الخشبية التي تجسد الأقاصيص والحكايا الشعبية والأسطورية يقومون بأنفسهم بتقمص تلك الشخصيات في مشاهد مسرحية طفولية عفوية.اقتربت بخطا سريعة غاضبة سرعان ما تباطأت عندما شاهدت ثلة كانت الأكثرصخبا..!!طفل يحمل الكمان وأخر يحمل الأوكورديون وطفلة صغيرة جدا تعزف على الكلارينيت، وبضعة أطفال بمثابة الجوقة .. ينشدون بلثغة أثيرة رائعة..توقفوا ينظرون إلى هذا العم الفضولي وسارعت أمهات هؤلاء الأطفال نحوي : – هل من ضير أيها الجار ؟

قلت على الفور: لا لكني سمعت لحنا على الكمان لم يكتمل!.

أجابت المرأة إنه فاديم ولدي..

حياني فاديم بانحناءة لطيفة وقال بنشوة: أنا من كنت أعزف، وعبر عن استعداده لإعادة العزف المنفرد.عندها قلت له: هل كنت تعزف (لباغانيني) بودابست في الليل، إنه لحن يأسرني .. فابتسم الطفل بحياء وأجاب: لا ياعم هذا صعب جدا علي الآن، ولكني أعدك أنني سأفعل ذلك قريبا.

شعرت أمه بافتخار وقالت: إنه في الثانية عشرة من عمره فقط وتقول باغانيني ..!!

ومع ذلك سحب فاديم منديلا مزركشا من جيبه ومسح بها عرقه عند الرقبة وقال استمع إذن إنهم (يقصد أهله) ما زالوا يعتبرونني صغيرا .

في سنوات البريسترويكا تغيرت الظروف الحياتية والتوجهات الاقتصادية بشكل سريع وعشوائي وتراجعت قدرات الناس والدولة، آنذاك فقد الأطفال بسرعة كبيرة جميع امتيازاتهم تقريبا، بل وتحول قسم كبير منهم نحو العمل وتقديم الخدمات العشوائية في المدينة لمساعدة الأهل أو إعالة النفس، وبت تشاهد في الشوارع الكثير من الأطفال والمراهقين المتسكعين، أو الذين يهرعون لتقديم الخدمات أيا كانت لقاء مكافأة مالية ..أو لمسح زجاج سيارتك طمعا بنذر يسير، بل وتحول قسم منهم حتى إلى عالم الإجرام ..

اقترب من سيارتي عند شارة المرور- وأنا على عجل من أمري لحضور مؤتمر صحفي – طفل صغير ظننته للوهلة الأولى فاديم (ذاك) ثم صرفت النظرعن هذا التصور فقد مرت سنوات على الجوقة الصباحية.وبحركة سريعة أخرج من جيبه خرقة قماش – ذكرتني بنفس الحركة التي قام بها الطفل فاديم حين أخرج منديله قبل سنوات ليمسح عرقه ويعزف – لكن هذا الطفل لم يمد منديله إلى رقبته بل مدها إلى زجاج السيارة الأمامي وقال على عجل: سيدي (لم يقل ياعم) وأضاف: شارة المرور هنا مديدة، ونوافذك ملطخة بالوحل إنني أستطيع بسرعة أن أمسح كل ذلك.. لقاء أي شيء ..أي شيء !!

قلت له هل أنت فاديم ؟

أجاب وكيف عرفت إسمي (ربما كان ذاك الجواب إحدى الشطارات التي تعودها الأطفال في الشوارع)

وسألته على الفور هل تعزف على الكمان؟

أجاب بعد تردد:لا

قلت: هل تعرف باغانيني؟

قال: لا ..!

قلت: ألم تسمع بودابست في الليل؟

أجاب وهو يبتسم نصف ساخر: أنا أعرف موسكو في الليل ..ثم ضحك وهو يتابع بمهارة مسح زجاج السيارة

قبل حين زارني صديق مهموم القلب وحدثني عن حفيدته التي باتت تكلفه أكثر من راتبه لتأمين غذائها الطفولي الخاص والأدوية اللازمة لأنها تعاني من بعض الوعكات الصحية المتكررة ..

قلت له : ألا تزوركم طبيبة الأطفال وتقدم ما يلزم من نصائح وأدوية بل وتؤنبكم على تقصيركم، ثم ألا يعزف حفيدك (فاديم) بودابست في الليل لباغانيني؟؟ فضحك بحرقة وقال: هل تسخر مني ..وتابع : إن حياتنا اليوم نفسها تعزف بو غاني ني ..– و(غاني) بالروسية تعني إلحق، أو سابق ، وني تعني لا ؟ أما (بو) فهي الوسيلة .

كان ذلك قبل حوالي عشرين عاما أيام التحولات الكبرى ومن غير الإنصاف بالطبع أن نترك اللوحة بهذه المعطيات فروسيا الجديدة تحاول اليوم بصدق أن تتبوأ مكانتها اللائقة حيث احتلت مؤخرا حسب تقديرات بعض مراكز الأبحاث الأمريكية المركز الأول في مستوى تعليم الأطفال– طبعا ليس كل الأطفال -، وللموضوعية لا بد من تقييم ما كان وما هو كائن والأهم ما سيكون .. هذه الثلاثية هي جوهر المعادلة .