بقلم: أيمن أبو الشعر
لم يكن صدفة أن تكون رسالة التعليم في المراحل الإعدادية والثانوية وخاصة في مجالات التاريخ والجغرافيا والأدب مزج فائدة تراكم المعلومات الضرورية لتشكيل أرضية معقولة من أبجدية الثقافة ، مع الجانب التربوي لتكون هذه المعطيات أساسا يرتكز إليه الطالب عندما ينطلق إلى الحياة ، ويصبح قادرا على العطاء من جهة، ومواطنا متسلحا بالتوثيقية ومعطيات التاريخ والأدب ومشاعر والانتماء من جهة ثانية، ومثل هذا التوجه موجود في جميع المناهج التعليمية في مختلف الأقطار العربية ولو بتنويع وتفاوت نسبي ، ومن هنا نرى أن الكثير من هذه المؤسسات والوزارات تحمل اسم التربية والتعليم .
ومن مارس ومن ما زال يمارس التعليم وخاصة في مجال اللغة العربية وآدابها يدرك مدى أهمية مناقشة جوهر الموضوع في دروس التعبير وتدعيمه بالشواهد المناسبة والتعمق بمضمونه لإظهار الجوانب المتفرعة عنه كأساس أولي لأرضية الثقافة بحيث يستنهض الطالب ما تعلمه وما طالعه بنفسه حول الموضوع المحدد. وأذكر أثناء ممارستي التعليم في بعض المدارس الثانوية أن موضوعا واحدا عن رفض الذل والعمل الجدي لتحقيق الهدف السامي مثلا كان يأخذ منا عدة دروس شيقة ممتعة حيث يتبارى الطلاب في إظهار قدراتهم من جهة ، وتقديسهم لهذه الفكرة التي استقرأت المواقف التاريخية والأقوال المأثورة والحكم والأمثال الشعبية وأبياتا من روائع الشعر العربي القديم والمعاصر . وكثيرا ما كنا نطرح بيت شعر أو اثنين كعنوان لموضع التعبير المطلوب. مثل هذه الأشعار ومأثور القول تدل بوضوح – خلافا لما يراه (البعض)- على أن النخوة وعزة النفس والإباء لدى الأمة العربية سواء أكانت في فترات معاناة وقهر أو في مراحل قوة وسؤدد كينونة في الروح، حتى ليكاد المرء أن يكتشفها في الحمض النووي للإنسان العربي . وما أستشهد به في هذه المقالة أكثر من مشهور وسائد ويكاد هذا الطابع يشكل القسم الأكبر من شعرنا العربي قديمه وحديثه بغض النظر عن طبيعة تجليه وصوره ، ولكن يبدو لا بد من ذلك في خضم أجواء إعلامية وتصريحات تتنامى على خجل وبدون خجل أحيانا بدا أصحابها دون ذاكرة حتى في إطار دروس التعبير أثناء مرحلة الدراسة:
إذا غامرت في شرف مروم………فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير………كطعم الموت في أمر عظيم
هذا الموقف الذي ترجمه المتنبي شعريا لا يدعو إلى تمجيد الموت كما يحلو (للبعض) حاليا تصوير فكرة استرخاص الموت في سبيل قضية عادلة أو طموح كبير وكأنه ترويج لفلسفة الموت ، أو أنها دعوة للامتناع عن التضحية باعتبار أن الموت واحد، والأمر هنا مختلف تماما وخاصة من خلال وضوح توجه البيت الأول إنها – تحديدا- دعوة لعدم تهيب الموت وجعله موتا شهما استشهاديا طالما فرض عليك، بمعنى إذا لم يكن من الموت بد فمن العجز أن تموت جبانا، وأذكر في هذا السياق نهاية قصيدة جميلة قصيرة كنت قد سمعتها من فم الشاعر الفلسطيني الكبير الراحل معين بسيسو توضح الموقف في وضعنا الراهن بجلاء يقول في ختامها :
فأنت إن نطقت مت
وأنت إن صمت مت
قلها ومت
يبدو أن الأمر يحتاج إلى دروس جديدة في التعبير (للبعض) من الكبار لا للتلاميذ بحيث يتم فهم جوهر هذه المعاني ربما يكف هذا (البعض) عن التفلسف في محاولة إيجاد اتكاءات على بعض ألفاظها خارج السياق وخارج منطق الحياة نفسها. دروس جديدة لا تعطى إلى الشعوب التي تعبر بوضوح عن فهم تاريخها وثقافتها وانتمائها وحكمة عقلائها ومفكريها بل لمن بات يشكك حتى بضرورة التحلي بالشجاعة والصمود في مواجهة القهر والعدوان ربما يتذكر ذاك (البعض) أن تحقيق الطموح لن يتأتى لمن يعلق أحلامه على شماعات الأمنيات كما يقول شوقي:
وما استعصى على قوم منال………إذا الإقدام كان لهم ركابا
وما نيل المطالب بالتمني………ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
ألم تكرر الأفراد والجماعات في مختلف المناسبات مثل هذه الأبيات على مدى الأجيال سواء في مدارسهم أو في سهراتهم أو يتغنون بها لاستنهاض روح العزم والنخوة التي لا تدخل في إطار المغامرة – كما يقال – بل تتبدى في إطار الموقف الشهم الذي على المرء أن يتخذه بغض النظر حتى عن النتيجة كما يقول عمر أبو ريشه:
شرف الوثبة أن ترضي العُلا………غلب الواثب أم لم يغلب
والأمر بالطبع ليس دعوة إلى موت مجاني او رمي النفس في التهلكة ولكن إن فرض عليك الموت فليكن موتا مشرفا:
فإما حياة تسر الصديق………وإما ممات يغيظ العدا
والملفت للنظر أن مثل هذه المشاعر النبيلة الشهمة المبنية على الكبرياء والعزة نراها عند مختلف شعوب العالم وبقوة وصمود أسطوريين احيانا بما في ذلك لدى الشعوب الأوربية والأمريكية التي قاتلت ضد النازية وهي ترى بوضوح مدى قوة الآلة العسكرية والعنجهية الهتلرية والفاشية ، وانا هنا أتحدث عن الشعوب والمواطنين البسطاء الذين لم يقل لهم أحد من قادتهم وزعمائهم ان عليهم الاستسلام لأن العدو قوي وغادر ومدمر بل كانوا يطالبونهم بمزيد من الصمود والبذل والتضحية .. والسؤال الآخر هو هل نسي بعض هذا (البعض) في أوربا أن ثقافة المقاومة آنذاك كانت لديهم أساسا وطيدا اتكأ عليه صمودهم ومقارعتهم للقوات النازية الفاشية فلماذا ينهون العرب عن مقاومة الاستعمار وقد قاوموه بأنفسهم ربما يحتاج هذا (البعض) إلى طرح بيت من الشعر كعنوان لدرس في التعبير ؟ ترى ما الذي سيكتبونه ؟:
لا تنه عن شيء وتاتي مثله………عار عليك إذا فعلت عظيم.