الإرادة إذن هي الجوهر

life

بقلم: أيمن أبو الشعر

حفلت مؤلفات إبداعية عديدة جدا بأهم دروس الحرب العالمية الثانية وقدمت نماذج رائعة لا في التضحية والفداء وحسب بل وفي البطولة والإرادة والكبرياء، حتى غدت هذه المؤلفات المعبر الواقعي عن هؤلاء الأبطال- الحقيقيين – الذين يبرز موقفهم في ظروفه الاستثنائية تحديدا مدى شموخ إرادتهم ، والأمثلة على ذلك كثيرة منها ما يرقى إلى مصاف ملحمية مذهلة .

وأتوقف اليوم عند نموذج نوعي أبدع الكاتب في رصد جوانبه النفسية الإنسانية وأعني به بطل قصة رجل حقيقي للكاتب الروسي بوريس بوليفوي وهي قصة معروفة جدا خاصة بعد تحولها إلى فيلم سينمائي، وفحوى هذه القصة يتلخص بمدى ما تصنعه الإرادة في السيطرة على المأساة المفروضة ومعالجتها بالصمود والإرادة، وذلك من خلال قصة الطيار الكسي ميرسييف بعد سقوط طائرته، ومأثرة صموده المذهل وهو يزحف بين الثلوج والأوحال إلى أن تم انقاذه بعد أن هلكت ساقاه تماما مما دفع الأطباء إلى بترهما من عند الركبتين. ولن أدخل في تفاصيل قصة معروفة في كتاب مطبوع أو كفلم سينمائي، ولكني أتوقف قليلا عند تصوير الإرادة القوية التي تحلى بها الكسي في مواجهة هذا الواقع الأليم والتغلب عليه إلى أن تمكن بساقين اصطناعيتين من تحقيق حلمه في العودة إلى الطيران ، بل وأن يستطيع ان يرقص بساقين خشبيتين. وقصة بوليفوي مأخوذة عن واقعة حقيقية لطيار يحمل نفس الأسم تقريبا حيث بدل الكاتب حرفا واحدا من ماريسييف إلى ميرسييف.

ما أريد التركيز عليه هنا هو أن مثل هذه المآثر ليست نادرة وليست وقفا على شعب دون آخر ، ولا على بطل ذي إرادة كبرى من قومية معينة عن بطل آخر له أيضا هذه الإرادة وهو من قومية أخرى . وتحضرني في هذا السياق واقعة مقاربة جدا جرت مع طيار سوري اجترح بطولات مذهلة في ظرف مماثل لما حدث مع ميرسييف بل وربما أكثر جرأة وصلابة ، ولم تكتب عنه الروايات ولم تنتج عنه الأفلام وأقصد الطيار عدنان حاج خضر بعد أن سقطت طائرته في الجولان إبان الحرب مع العدو الإسرائيلي، وراح يزحف وهو جريح مصمما على عدم الاستسلام لا للعدو ولا للموت، وحسب بعض المعطيات فإنه عندما شعر أن ساقه المهشمة تماما باتت تعيقه أكمل قطعها بنفسه، وكنت قد تناولت هذه المأثرة الرائعة في قصيدتي الصدى عن حرب تشرين التحريرية :

كالومض وثبنا

نحن سكبنا

حب الصادق لا يحتاج إلى برهان

طوبى للزارع ساقا

قطعت في أرض الدمع

وددت لو أني ألثم جرحك ياعدنان

أليس في الأمر نموذج يحتذى أو يجب أن يحتذى، وهو ضرورة مواجهة الظروف الاستثنائية مهما كانت مؤلمة ومأساوية وعدم الاستسلام لليأس، هنا تحديدا يبرز الحل الأمثل في استنطاق الإرادة بتجليها المطلق .. هل كان للطيار الروسي ألكسي ميرسييف أو الطيار السوري العربي عدنان حاج خضر أن يعيشا ويتابعا حياتهما بمعنوية عالية لولا تلك الإرادة الرائعة .

هي إذن فلسفة الإصرار على متابعة الحياة الكريمة ، هي فلسفة المقاومة فرديا وجماعيا انحيازا لجمالية الموقف الشهم أو في إطار رفض الموت استسلاما للظرف الناشئ. مثل هذه المفارقة تبدو في اعمال إبداعية عديدة جدا . منها على سبيل المثال – ولو في ظروف مغايرة ذات طابع استثنائي وجوهر واحد- حكاية روبنسون كروزو الذي استطاعت إرادته الكبرى ان تنقذه من موت محقق في جزيرة غير مأهولة ، وهي أيضا مستقاة من قصة حقيقية لبحار واقعي هو الكسندر سيل كيرك نقلته سفينة عابرة إلى إنكلترا بداية القرن الثامن عشر بعد أن صمد وحده في مواجهة الموت والفراغ عدة سنوات في تلك الجزيرة غير المأهولة واعتمد الكاتب دانيال ديفو التوفر على وقائع هذه التجربة العجيبة من الصمود والإرادة مع تنويعات احتاج لها السياق الروائي .

وتعرض عامل روسي في أحد مناجم الفحم لانفجار تحت أرضي فقاوم وصمد في ظروف يبدو فيها الموت شبه حتمي ، لكنه تمتع بإرادة كبرى دفعته للصمود والمحاولة إلى أن استطاع الخلاص وإنقاذ عدد كبير من رفاقه ورغم أنه فقد ذراعيه تماما ، إلا أنه لم ييأس وانكب على الحياة وكتب تجربته في مواجهة الموت بقلم كان يضعه في فمه ويعضه بأسنانه ، وعندما سألوه عن سر صموده قال لقد كان معي الكسي ميرسييف، يقصد الطيار ذا الأرادة الكبرى .

استئناسا بما تقدم يمكن القول أن الإرادة بمعناها الجميل الإيجابي هي المنقذ الحقيقي في مفارقات التعامل مع الحياة وظروفها الاستثنائية الصعبة ، والتي تبدو إمكانية التغلب عليها أحيانا مستحيلة، لأنها بوتقة روحية لاجتراح المآثر على الصعيدين الفردي والجماعي خاصة إن توافرت في الإطار الجماعي ظروف موضوعية مساعدة تعمق من عنفوان وإصرار الإرادة الجماعية كما حدث في فييتنام حيث واجه شعب بسيط أعتى قوة عسكرية في العالم، وكما فعلت المقاومة اللبنانية في قهر جيش عات مدمر تخشى جهات عربية مواجهته وتعتبرها مغامرة، على أن هذه الظاهرة ليست وقفا على أناس غير عاديين وخارقين بل هم يغدون شبه أسطوريين بعد إظهار هذه الإرادة ، وهو أمر ينعكس على تجارب الشعوب عندما تتنامى مشاعر الكبرياء والعزة والكرامة لديها وهو ما يفسر هذه القناعة الراسخة لدى الشابي في قوله :

إذا الشعب يوما أراد الحياة………فلا بد أن يستجيب القدر.