شموع أسطع من المصابيح الكهربائية

candles

بقلم: أيمن أبو الشعر

يبهج الذاكرة في المجال الثقافي رغم القتامة المقتحمة في بعض الأحيان ما تستعيده من صور مضيئة وشخصيات إبداعية كانت نبراسا في مراحل نضالية كشفت ليس فقط مدى قدسية الانتماء والدفاع عن قضايا الأمة عبر الكلمة بل وكذلك زيف بعض القوى العظمى التي تمسخ الديمقراطية إلى سعدان متى شاءت وتجعل من احترام حرية الرأي ادعاء مفضوحا ومرضا خبيثا

ويلفت نظرك في استقراء سيرة الأديب اللبناني العربي رئيف خوري نضجه المبكر وتفاعله مع قضايا أمته وطموحاتها غامسا قلمه في مكامن أوجاعها مستشرفا من خلال استنهاض تاريخها آفاقها المستقبلية عبر الكلمة الحرة الواعية ورغم معاناته من بعض المسؤولين الذين ينتمون إلى دول الحلفاء إلا أن ذلك لم يمنعه من تلمس خطر الفاشية والنازية والكتابة ضد هذه الأفة الخطيرة مما يفترض أن يحظى باحترام وتقدير من عانوا منذ البداية من هذه النزعة الجهنمية في الحرب العالمية الثانية وهم يتشدقون حتى قبل ذلك بكثير بممبادئ العدالة والديمقراطية ولكن كان رئيف خوري ككثير من الأدباء غيره عرضة لأذى هؤلاء.

ولج رئيف خوري الحياة الأدبية وعالم الكتابة وهو دون العشرين من عمره وتابع نشاطاته الإبداعية والفكرية إلى جاب مزاولة مهنة التدريس حيث عمل مدرسا في مدينة القدس قبل النكسة ولكن مواقفه الوطنية والقومية الشجاعة لفتت أنظار سلطات الانتداب البريطاني وخاصة إثر مساهمته في مؤتمر شبابي دولي في الولايات المتحدة وفضحه للمزاعم الصهيونية ومخاطرها ودفاعه عن حقوق الشعب الفلسطيني وضرورة العمل على تكريس الاستقلال عندها منعت هذه السلطات التي تمثل بلدا يدعي أنه أنموذج للديمقراطية وحرية الرأي منعت رئيف خوري من العودة إلى التدريس في القدس .

تابع رئيف خوري نشاطاته الكتابية والتدريسية في لبنان إلا أنه فصل من عمله أيضا بتوصية من المندوب السامي البريطاني (إمعانا في إبراز احترام حرية الرأي والديمقراطية عبر محاربة المبدع في عمله وكسب)

وحسب ما يذكر ميخائيل خوري في مقالة له في ذكرى رحيل كاتبنا فإن رئيف خوري أولى اهتماما كبيرا جدا بجريدة الدفاع إلا ان السلطات الفرنسية أغلقت الصحيفة وفرنسا أيضا تعتبر نفسها أحدى ركائز الديمقراطية وحرية الرأي ولم يصدر من تلك الجريدة سوى ستة أعداد فقط.

كاتب هذا ديدنه كان لا بد أن تتجلى مواقفه في نتاجه الأدبي والفكري كصاحب قضية وصاحب القضية يسعى لإيصال صوته إلى أوسع مدى من القراء والجمهور لذا كان يركز على هذا المحور حتى أنه – والشاهد أيضا من ميخائيل خوري – دافع عن هذا التوجه في مناظرة مع عميد الأدب العربي طه حسين الذي اعتبر أن على الأديب أن يكتب للخاصة في جاهر رئيف خوري بآرائه المعاكسة . وبغض النظر عن مدى دقة طرح العملاق طه حسين أو الكاتب الكبير رئيف خوري فإن الحادثة بحد ذاتها تدل بوضوح على النهج الملتزم لدى رئيف خوري وهو أمر ذو شجون وخاصة في تعريفنا للخاصة والعامة ونسبية هذه المصطلحات فقي عصر الثورة الألكترونية ناهيك عن انتشار الطباعة والصحافة واتساع أرضية المناهل الثقافية بما لا يقاس مع تلك المراحل.

ومن البديهي أيضا أن يولي كاتب كرئيف خوري كل هذا الاهتمام بقضايا أمته ومستقبلها حتى غدا هاجسا لديه سواء في قصصه أو أشعاره أو كتاباته الأخرى بما في ذلك الدراسات النقدية التي أعطى فيها للمضمون الفكري الأولوية بمعنى أن رئيف خوري كان متجانسا مع نفسه متمثلا لأفكاره التي يؤمن بها إيمانا راسخا .

الجانب الأخير الذي أتوقف عنده سراعا هو اعتزاز رئيف خوري بانتمائه العربي واستنطاق الحضارة العربية من خلال فهم عميق موضوعي للتطور التاريخي الذي يمضي صعدا بغض النظر عن عثرات هنا أو هناك مازجا حبه الكبير للبنان بانتمائه المتجذر للعروبة ناهيك عن النزعة الإنسانية الأشمل التي كانت جوهرية لديه. فقد كان رئيف خوري يعتبر الإنسان جوهرا محوريا وغاية الغايات وحتى الأنظمة والأفكار والنظريات إنما تأخذ قيمتها من الإنسان لا العكس ولذا تغدو الغاية الأسمى لديه تحقيق إنسانية الإنسان وبالدرجة الأولى الإنسان العربي . ولا أجافي الحقيقة إن قلت أن رئيف خوري وأمثاله من الأدباء والمفكرين الذين يبدون مستعدين للاحتراق في وجه الظلام كشموع أسطع نورا من كثير من المصابيح الكهربائية المتكئة لا على الديمقراطية الحقيقية بل على تيار الديمقراطية المزيفة والتبجح بحرية الرأي وهم أعداؤها.