وداعا أيتماتوف .. أيها المعلم الكبير

aitmatov1

بقلم: أيمن أبو الشعر

ووري الثرى أمس – السبت- جثمان جنكيز أيتماتوف قرب العاصمة القرقيزية بيشكيك في احتفال مهيب رسمي وشعبي، وانغرس بذلك وسام جليل في صدر أرضه الأم التي كتب عنها دائما في حله وترحاله محولا أساطيرها وحكاياتها وواقعها إلى معالم في سفر العطاء الإبداعي المتميز على الصعيد العالمي، ليس إنسانها وهمومه فقط بل وطبيعتها وخصوصيتها الاجتماعية، وحتى حيواناتها الأليفة والبرية.

رحل جنكيز أيتماتوف الذي يعتبر بحق واحدا من عمالقة الأدب العالمي في القرن العشرين، رحل أيتماتوف الذي كان دائما بإبداعه المتميز نصيرا للحق والقيم الإنسانية الخالدة، رحل أيتماتوف الذي كان محبا للعرب والشرق وفيا للتقاليد النبيلة ، مازجا تلك التقاليد العريقة بالتوجهات الأوربية ومعطيات الحضارة المعاصرة. كان الإنسان هو القيمة المطلقة لديه دائما بمعاناته وطموحه وحبه وانكساراته، رحل ذلك الكاتب الكبير الذي أعتز بأنني كنت لسنوات معدودة ألتقيه ولو قليلا بين حين وآخر كلما سنحت لي فرصة لذلك، ورغم أنه كان يناديني (ياصديقي الشاعر العربي) كنت أعرف تماما أنه كان أستاذا كبيرا ليس لي وحدي بل ولأجيال متعاقبة.

ولد جنكيز أيتماتوف نهاية عام 1928 في قرقيزيا البلد الصغير داخل الاتحاد السوفييتي السابق الكبير ، ولكن أدبه الخلاق سرعان ما تجاوز ليس فقط قرقيزيا بل والاتحاد السوفييتي نفسه ،وترجمت أعماله لأكثر من مائة وخمسين لغة في العالم حتى أن اليونيسكو اعتبرته الكاتب الذي يحظى بأكبر نسبة قراء في العالم في القرن العشرين ، وكانت رائعته المبكرة جميلة التي صدرت عام 1958 الجسر الأول الذي تجاوز بتألقها الحدود الجغرافية بقوة وثقة ، حيث نالت رائعته تلك التي يمكن وصفها بأنها قصيدة عشق إنسانية خالدة في القرن العشرين شهرة غير عادية حتى أن الشاعر العالمي الكبير أراغون هو الذي ترجمها بنفسه للفرنسية ، وقال لي أيتماتوف انه كان سعيدا إلى درجة لا توصف بمبادرة أراغون تلك .

كتب أيتماتوف العديد من القصص والروايات عن الإنسان الذي يناضل في ظروف حياة متنوعة العثرات والصعاب محافظا على ألقه الإنساني ، مبرزا بنفس الوقت الأبطال السلبيين الكثر في درب الحياة ومن اهم هذه الأعمال إلى جانب جميلة ، المعلم الأول ،ووداعا ياغوليساري ،والسفينة البيضاء، والنطع ، والكلب الأبلق على شاطئ البحر، وهي قصة مذهلة في رصدها لمواجهة الظروف الاستثنائية القاهرة ، وتضحية الكبار لكي يستمر الجيل الجديد وذلك من خلال ضياع الصيادين : الجد والأب والحفيد حين يغرقون في ضباب البحر ولا يرون مرشدهم ، ذاك الجبل الذي يبدو رابضا كالكلب الأبلق أيام الصحو على حوافي البحر، ورائعته ويطول يوم أكثر من قرن التي ما زج فيها بين الحياة القروية الوادعة وعوالم الفضاء الخارجي عبر توليفة ذكية لوحدة المصير الإنساني . ومن البديهي أنني لن أتناول أعمال كاتب كبير في هذه العجالة لكنني أستطيع القول أن أيتماتوف كان منغمسا حتى كل خلية في كينونته في رسم المحاور الرئيسية لجزئيات الحياة الثرة بصدق عجيب وانتقاء فذ عاكسا تجارب واقعية عاشها، او سمعها من جدته او من الموروث الشعبي، وخاصة في رصد حياة القرى والأرياف إنه يتحدث عن الحصان والجمل والرعي بتجسيد سينمائي متحرك قبل أن يتم تحويل هذه القصص إلى أفلام أو مسرحيات حتى أنه في وصفه للجمل الجامح المشاكس، أو الثعلب الجائع الباحث عن الفئران ، أو في صراع الفرس مع الذئب يستغرق صفحات لا تستطيع أن تتوقف عن متابعتها ولو لرشفة قهوة أو شاي ..!! شاعرية غير عادية في وصف مكثف لا تستطيع أن تحذف منه سطرا أو عبارة .. ولعل في ذلك أحد أسرار سطوع نجمه حتى في الغرب وهو الكاتب اليساري. كان من البديهي أن يحظى أيتماتوف بتقدير هائل سواء في الاتحاد السوفييتي أو في العالم عموما، وإلى جانب الجوائز التي حظي بها سعت الدول التي تتكلم باللغة التركية وفروعها إلى ترشيحه مؤخرا إلى جائزة نوبل للآداب لكنه غادرنا قبل أن تحظى هذه الجائزة بهذا الشرف.

من بين ما رواه أيتماتوف لي منوها بلطف عدم ضرورة نشره في حواري معه ، أنه عانى طفولة قاسية ليس بالمعنى المادي وحسب بل وحتى الإنساني الاجتماعي ، حيث أعدم أبوه وهو ما يزال طفلا ، وكان عليه إثبات ذاته في الحياة رغم هذه – الوصمة – ، كان عليه انتزاع الاعتراف به بجهوده الصادقة وحدها إلى أن غدا مسؤولا كبيرا وعضوا في السوفيت الأعلى، بل وغدا مستشارا لغورباتشوف أوائل أيام البريسترويكا – رغم قناعتي بأنه كان أرحب مدى وأعمق فلسفة بكثير من أطروحات تلك المرحلة – ففي روايته ويطول يوم أكثر من قرن مثلا ينطلق لا من تسليم مقادير الأمور للطرف الخصم إقرارا بعملاقيته كما فعل غورباتشوف – بغض النظر عن نواياه – بل من خلال التركيز على ضرورة تكريس الانفراج الدولي لصالح البشرية والسلم العالمي عبر الخيال العلمي الذي يعتمده في التواصل مع الفضاء الخارجي المخترع في تلك الرواية.

ولا بد من التنويه هنا بأن أيتماتوف انخرط – كما أكد لي غير مرة مبتهجا بتلك التجارب – في مراحل شبابه المبكر في مجال تربية الماشية وعمل مشرفا بيطريا وتابع أجواء القرى والأرياف بشكل مباشر الأمر الذي انعكس بصفاء ودراية في العديد من أعماله ، ناهيك عن معايشته المباشرة – طفلا – لمرحلة التحولات النوعية في بناء المزارع التعاونية وحيثياتها الإنسانية الدقيقة مما جعله يرصد إشكالاتها بدقة وذكاء مركزا على مدى صعوبة إجراء تغييرات جذرية سريعة في طبيعة ونفسية الإنسان بعيدا عن الشعارات والقولبة العقائدية رغم وقوفه مع هذا الجديد في جوهره عموما.

منذ أسابيع قليلة نشرت مقالة في تشرين عن أيتماتوف وحواري المطول معه والذي نشرته تشرين حينها قبل حوالي ربع قرن من الزمن بتاريخ 3- 10- 1985 ، وكنت قد سلمته نسخة من الصحيفة آنذاك حيث كنت أعيش في موسكو حينها.. وأذكر في إحدى إجاباته عن أسئلتي أنه ركز على أن البطل الإيجابي ليس قالبا جامدا يحمل صفات ا؟لإيجابية دفعة واحدة ، بل إنه إنسان طبيعي تماما وله مثالبه العادية ، ولكنه يظهر بجلاء كنقيض للواقع السلبي الذي يتم إبرازه ، ونضال هذا البطل لإصلاح المجتمع حتى وإن كان في مرحلة اشتراكية التوجه هو الجوهر. ولعل من أهم ما قاله لي هو أن المجتمع يمكن أن يكون مهزوما في ظروف تاريخية محددة، وبهذا يظهر البطل الإيجابي أكثر تمايزا منوها بأن (جميلة) ظهرت بعنفوان الحب والتحدي والتفاعل مع الظروف الجديدة ، بل وفي مواجهة المجتمع المتخلف الذي يحاصرها، خاصة أن المبدعين – كما يرى أيتماتوف- لا يخترعون الأبطال الإيجابيين بل يكتشفونهم في رحم الحياة نفسها.

رحل أيتماتوف الكبير تاركا إرثا لا يمكن أن يرحل وربما يندر- في أي بلد على وجه الكرة الأرضية – أن تلتقي بمثقف لا يعرف أيتماتوف أو لم يقرأ

له شيئا . ولم يكن بوتن مبالغا حين عبر عن هذه الظاهرة بقوله عن رحيل أيتماتوف: إنها خسارة كبيرة لنا جميعا ولكن أيتماتوف سيبقى خالدا إلى الأبد في ذاكرتنا ككاتب عظيم ومفكر ومثقف أنساني التوجه.