الشعراء اكتشفوا دواء البدانة قبل الأطباء

jinyoung_shin1

بقلم: أيمن أبو الشعر

الحب والشعر توأمان غريبا الأطوار في تلاوينهما وتجلياتهما وكنوز عطاءاتهما المسورة باللاحدود ، ويمكن القول ان كل عاشق أنى كان مستوى ثقافته إما حاول كتابة الشعر، أو تألق في تذوقه حسب درجة استيعابه بوجع جميل سواء عبر شعر نزار قباني أو أراغون أو قيس بن الملوح، أو الميجانا أو لقطات الشعر الشعبي، وكل شاعر لا بد أن يكون قد كتب عن الحب صادقا في احتراقه بلهيبه القدسي الذي إن لم يخفق جناحاه معا كما لدى بدوي الجبل هوى ولم تغن عن يسراه يمناه، أو مقاربا تلك التجارب المحرقية، أوتلك اللقطات الغزلية الدافئة ، أو متقمصا تجربة حب عارم حتى وإن لم يعشها بكل جوارحه .

من هنا فإن الكتابة عن الحب والشعر أفق متوالد لمقالات عديدة سأتناول بعض مجساتها كلما سنحت لي الفرصة محاولا مقاربة تألقها، وكلما شدني هاجس من تلك الهواجس، ولكني اليوم أتوقف عند أمر لفتت نظري إليه إمرأة مسنة من أقاربي تتمتع بحكمة شعبية بسيطة كما عهدناها .

كان الباعث عابرا وعاديا تماما ، فقد كانت تتابع التلفاز وهو أنيسها الوحيد في هذا العمر بعد وفاة زوجها، وكانت شاشة التلفاز تقدم بين حين وآخر دعايات عن أدوية وعلاجات للبدانة ، وعقارات تؤكد شركاتها ضمان النتائج خلال أسابيع معدودة لتخفيف الوزن ،والوصول حتى النحالة الرشيقة. امتعضت الخالة المسنة (أم سعيد) محتفظة مع ذلك بطابع الظرافة المشهودة لها والنكتة الحاضرة وقالت: أدوية وعقاقير وبرامج تغذية، كله كلام فارغ، الحل المؤكد والطريقة الأنجع لمن يريد أن ينقص وزنه حقا ويغدو نحيلا هو أن يعشق، وأضافت على الفور ان يعشق بصدق وأن يتمرمر ..!! قلت لها وماذا ألا يعشق البدناء ؟ فاجأها سؤالي وهي الخالة ذات البديهة الحاضرة وقالت: ياابني الروح هي التي تعشق ، وأحيانا تخفي ذلك العشق عن اللحم والشحم والبدن، ولهذا معظم هؤلاء يصابون بنخر العظام بعد حين ، وضحكت محاولة إغلاق الحوار .

عدت بذاكرتي إلى قراءات متنوعة قديمة حول هذه الفكرة بالذات وتبدى لي أن الشعراء بالفعل تناولوا هذا الأمر بتفصيل عجيب حتى أنهم اعتبروا العشق ملازم للنحول والرهافة منذ المنخل اليشكري الذي يقول :

ما شف جسمي غير حبك………فاهدأي عني وسيري

بل ويصل إلى أن يرى كل شيء محبا وعاشقا فيما يلازمه ويلازمها بما في ذلك حتى توابعهما:

وأحبها وتحبني………ويحب ناقتها بعيري

ويصل الأمر بالمتنبي أن يجسد صورة جمالية قريبة من السوريالية في رصد تأثير المحب على الحبيب ودفعه إلى نقصان الوزن عبر الحب لا العقاقير إلى درجة استغرابه من عدم ظهور هذه الرشاقة الطاغية في جسد الليل الذي يحيط به لأن رؤية العاشق للمعشوق لها سجاياها التي تذيب كل الشحوم والبدانة :

ألم ير هذا الليل عينيك رؤيتي………فتظهر فيه رقة ونحول

والغريب هنا، بل والمثير هو أن ما قالته الخالة (أم سعيد) حول أن الروح هي التي تعشق ، – ولهذا يبدو بعض العاشقين بصحة وافرة لأن الروح تخفي عنهم هذه اللواعج- له مصداقية حقيقية أيضا في نتاج الشعراء الذين يدارون امر بدانتهم ويخترعون لها الأعذار للتأكيد على أنهم عاشقون رغم بدانتهم اتكاء على أن الروح هي التي تعشق لا الجسد وأن البدانة تظهر لأن الروح يخفي عن الجسد هذا العشق يقول المسلم بن الوليد:

وقائل لست بالمحب ولو………كنت محبا هزلت من زمن

فقلت روحي مكاتم جسدي………حبي والحب فيه مختزن

والحب يفعل فعله في العاشق حتى يكاد يجعله خيالا من فرط نحوله حتى أن هذه الصور تكاد لا تخلو من شعر شاعر عاشق أو يكتب عن العشق لدرجة أن الغرابة كل الغرابة تظهر حين يبدو العاشق صحيح الجسم معافى كما يقول أبو نواس ويغنيه وديع الصافي في توليفة رائعة مشتركة للرحابنة :

تضحكين لاهية………والمحب ينتحب

تعجبين من سقمي………صحتي هي العجب

إنه إذن الوصفة القديمة الدائمة الخالدة الحب لا الدواء والكيمياء، ولا البرامج الغذائية المتنوعة تقنينا ، ولا الرياضة المرهقة ، الحب لا غيره هو الذي يجعل الجسد أهيف رشيقا نحيلا ، وكانت الخالة (أم سعيد) على حق حين ضحكت من تلك الدعايات المتكررة على شاشات التلفاز ، قالت عباراتها ببساطة وتأن : كله كلام فارغ إن أردت أن تغدو نحيلا عليك أن تعشق ، ولم تنس أن تؤكد مصداقية ما تقوله بحيث ينسحب على أمور أخرى عديدة في حياتنا الاجتماعية عشقا حيث أضافت : ثم إن هذا ليس كل شيء، صدقني ياابني عندما يعشق الإنسان ويكون صادقا – كانت دائما تضيف هذه العبارة – فإنه سيغدو لطيفا حتى إن كان غليظا، ويتعامل مع الناس برقة حتى لو كان فظا، فهل هناك أدوية أيضا للطف والظرافة والرقة سوى الحب، وختمت حديثها بقولها: (أهل زمان ما خلوا شيء ما قالوه، إي والله معهم حق لما بيقولوا الحب بيحيي الموتى) والخالة أم سعيد التي تكثر عادة من الاتكاء على الأمثال لم تسمع على الأرجح ما قاله الكثير من الشعراء كابن زيدون :

قوم إذا هجروا من بعد ما وصلوا………ماتوا فإن عاد من يهوونه بعثوا

ولم تسمع حتما بقول توبة بن الحمير:

ولو أن ليلى الأخيلية سلمت………علي ودوني جندل وصفائح

لسلمت تسليم البشاشة أو زقا………إليها صدى من جانب القلب صائح

أو بقول عنترة :

مهفهفة والسحر في لحظاتها………إذا كلمت ميتا يقوم من اللحد

ولكنها – حتى وإن لم تسمع بهم جميعا – كانت بسجيتها على حق .. الحب الصادق هو الذي يجعل الجسد رهيفا ناهيك عن انه يجعل النفس طيبة والمعاملة لطيفة رحم الله الخالة أم سعيد وأمثالها ممن يتمتعون بذكاء فطري ونكهة الثقافة الشعبية البسيطة التي لا تخلو من حكمة عميقة.