دعوة جديدة لقراءة الخيام

86978_omar_khayyam_small

بقلم: أيمن أبو الشعر

لا نجافي الصواب إن قلنا أن رباعيات عمر الخيام هي من روائع الشعر الذي تجاوز المحلية بقوة ،واقتحم أسوار العالمية بجدارة محتلا مساحة كبرى في الزمان والمكان، حيث ظل ألق هذه الرباعيات مهيمنا في مختلف أنحاء العالم قرابة ألف عام، وقد ترجم هذا العمل النوعي المتميز كما هو معروف إلى عدد كبير جدا من اللغات ، وحظيت الرباعيات باحتفاء كبير في الشرق والغرب على حد سواء. ورغم تفاوت التقييم نسبيا حول هذه التحفة الشعرية إلا أن هذه التقييمات تتباين متأرجحة في قيمة هذا العمل بين الموهبة الفذة والنبوغ والعبقرية.

والمتلقي باختلاف مستوياته ينظر إلى هذه الرباعيات كجزء من التراث الإبداعي الإنساني ، ويتعامل معها في معظم الأحايين عبر ذائقة فنية ككل متكامل بغض النظر عن تباين المواقف تجاه بعض أطروحاتها التي يرى فيها البعض جرأة مفرطة، ويرى آخرون أنها تحمل ظلالا صوفية يكني فيها الخيام عن إيمان متوار خفي في إطار تعبيره الفلسفي في لبوس شعري عن رؤيته وتعامله مع هذا الوجود . وبغض النظر عن هذه التفسيرات والتبريرات المتفاوتة يمكن القول أن الخيام كان من جهة متجانسا مع نفسه وأطروحاته حتى التي يستنفر فيها الأجواء السائدة بما فيها الدينية، ومن جهة ثانية كان يعكس في الواقع أجواء موجودة مغايرة خجولة تعتمد احترام العقل والتفكير المنطقي مع جنوح واضح نحو الفلسفة الأبيقورية بمعطيات تستحق التأمل، ذاك أن الرباعيات جاءت في صياغة سلسة من نوع السهل الممتنع، وبتناول ينزع إلى المحاكمات العقلية والمقارنات الموضوعية مما يدفع إلى نوع من التعاطف مع هذه الأطروحات مهما جافت القناعات السائدة لدى الأغلبية ، ولم يكن صدفة والحال كذلك أن كثيرا من الناس في كل مكان وزمان باتوا يستشهدون بمقاطع من هذه الرباعيات في شؤون حياتهم اليومية والفكرية والجمالية باعتبارها حكما وأقوالا مأثورة بغض النظر عن قناعاتهم الدينية . زد على ذلك كله أن ظلال هذه الأطروحات لها جذورها في نتاجات شعرية سابقة ، ولها أيضا امتداد لاحق في نتاجات كبار المبدعين مما يؤكد أن الأفكار والمناهج المنطقية والتأملات الوجدانية ليست حكرا على شاعر أو شعب بل إنها تغتني بالتواصل المستمر بين الحضارات والثقافات .

فهناك من يؤكد أن الشاعر الإنكليزي الكبير شكسبير تأثر برباعيات الخيام تأثرا واضحا وخاصة في هاملت، حتى أن تيوفيل غوتيه أحد الأدباء الفرنسيين في القرن التاسع عشر اعتبر أن العديد العديد من المقاطع في هملت تعود في جذورها تحديدا إلى الرباعيات وفق ماجاء في مقدمة السيد أديب التقي لطبعة متميزة للرباعيات بعدة لغات معا .

ونتوقف بشكل خاص عند المعطيات التي تفصح عن ذاتها بقوة في نتاج الفيلسوف العربي إبي العلاء المعري، والتي نراها بوضوح ساطع كأفكار مصورة شعريا في الرباعيات مع التنويه بأن أبا العلاء المعري -الذي توفي قبل الخيام بزهاء سبعين عاما- ظل في الجوهر حكيما واعظا حتى في تأمله الفلسفي الأقرب إلى الرواقيين، بينما كان الخيام لا أباليا موغلا في استيعاب الوجود بتقبله الفردي والشامل والمحكوم عليه بالفناء، ويرى أن اللذة هي المواجهة عبر اللذة هي الطريق الوحيدة التي يمكن أن يلتجئ إليها الإنسان أمام عبثية هذا الوجود . ولا أقدم مفاجأة إن قلت أن من يتابع قصيدة المعري غير مجد في ملتي واعتقادي نوح باك ولا ترنم شادي سيجد العديد من الصور والأفكار ذاتها لدى الخيام .

وإذا توقفنا عند تركيز المعري على التعاقب والفناء في إطار جمالي خفر وشفيف لوجدنا نفس الأفكار والصور تقريبا ولكن بثقة أكبر بمنطق العبثية لا الوعظ والاتعاظ ، فالمعري يقول:

سر إن استطعت في الهواء رويدا لااختيالا على رفات العباد

وما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد

الأمر الذي نراه في غير موضع في الرباعيات من ذلك قوله:

لا تطا ويحكَ النباتَ احتقاراً فهو نامٍ مِن مُزهرِ الخدِّ نَضِرْ

وقوله:

كلُّ هذه الأرضِ كانت أوجهاً كالشموسِ ذاتِ بهاءِ

اجلُ عن وجهِكَ الغبارَ برفقٍ فهو خدٌّ لكاعبٍ حسناءِ

وقوله في رباعية أخرى:

هذي الرياضُ اليومَ منتزهٌ لنا فـَلِمن رياضٌ رفاتِنا هيَ في غدِ

او كما جاء في ترجمة أحمد رامي للرباعيات

فامشِ الهيونا إنَّ هذا الثرى من أعينٍ ساحرةِ الإحورارْ

أما عن الخمريات المبثوثة في القسم الأكبر من رباعياته فمن الواضح انها لم تكن مجرد دعوة للشراب بقدر ما كانت جسرا للتعبير عن فلسفته في تقبل الوجود والتعامل معه عبر البعد الجمالي للذة ، وهو في ذلك غير بعيد – تصويريا – عن أبي نواس في مزج اللذات الحسية حيث الشراب والجنس متوازيان، وحيث يصل أبو نواس احيانا إلى التمازج مع الخمرة باعتبارها روحا والدن جسد:

مازلتُ أستلُ روحَ الدنِّ في لطفٍ واستقي دمَهُ في جوفِ مجروحِ

حتى انتشيتُ ولي روحانِ في جسدٍ والدنُّ منطرحٌ جسماً بلا روحِ

لكن الخيام يوغل أكثر في البعد الفلسفي الوجودي، وخاصة من خلال إصراره على مصداقية الإنغماس في لذات الحياة لا مجونا بعد إصرار وتصميم كأبي نواس (ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ولا تسقني سرا إن أمكن الجهر) بل انطلاقا من منطق وواقع فنائها المستمر بقدر استمرار تجددها حيث العدم هو المسيطر المطلق، وكنه الحياة كما يراه لا يعدو عن تلاحق وجيز مهما بدا مديدا، وبالتالي فالشراب ليس حلا لدى الخيام بل مجرد جسر ووسيلة لهرب يختاره طالما أن الموت في انتظاره منذ أن ولد:

أرى كلَّ خلانِ الوفاءِ تفرقوا فبينَ صريعٍ للردى وقتيلِ

شربْنا شراباً واحداً غيرَ أنهم بهِ ثمِلوا مِن قبلِنا بقليلِ

وقوله:

اشربْ فكمْ ستنامُ في قعرِ الثرى ياصاح دونَ خليلةٍ وخليلِ

أخيرا لا بد من القول أن الخيام لم يطرح نفسه مصلحا ولا مفكرا يهدف إلى التغيير ولا يتنطح لتقديمِ بديلٍ مجد بقدر ما هو – رغم قسوة التعبير- نذير شؤم بأسلوب جمالي من نوع خاص، إنه متشائم مطلق يحاول تجيمل حقيقة الفناء بفسحة العمر ليس إلا، وهو شكاك في مغزى الوجود رغم دعوته للانغماس في اللذة واغتنام فرص هذه الفسحة من العمر، ورغم إشكالية الخيام في مسألة النكران والإيمان لكنه دون أدنى شك استفاد من المنطق وحتى من منهج علم الكلام ولو بشكل معاكس استنفر المتشددين المتدينين ضده، ويميل البعض للاعتقاد بأنه في مناقشاته المنطقية ولو الشكلية في الرباعيات كان في قرارة نفسه مؤمنا بالقدرة الكلية وإلا لم يكن ليناقش بعض مضامين جوهرها وصولا إلى رفض كل التأملات والمعطيات الغيبية ونقيضها وتنويعاتها وهو قبل قرون يتمثل اللامجدي لكامو مع مفارقة نوعية وهي أنه سيزيف المدرك لعبثية رفع الصخرة فاسند ظهره إليها ودعا إلى الشراب في السفح تاركا للآخرين حمل هذه الصخرة عبر هواجس الشك والغيب واليقين:

فكـّرَتْ في الدينِ أقوامٌ كما حارَ بينَ الشكِّ والقطعِ فريقُ

فإذا الهاتفُ يدعوهم أيا بُلُه لا هذا ولا ذاكَ الطريقُ

من هنا فإن الخيام عبر برباعياته عن هاجس محوري وهو مواجهة حقيقة الموت المحتم، هذا الكابوس الرهيب حولته عبقرية الخيام إلى رؤى جمالية شعرية في إطار فلسفة اللذة، والإشكالية الصعبة في هذه المعادلة تتلخص في أن المؤمنين الذين يتجاوزون الشك مرتاحون روحيا من خلال قناعتهم بوجود عالم آخر سيؤمن لهم سعادة أبدية ، في حين أن مأساة الخيام أنه لم يعان حتى الشك الذي يحمل نقيضه في ذاته، بل كان متيقنا من عبثية الحياة قبل أن يظهر سارتر وكامو، بل عموما قبل أن تظهر المدرسة الوجودية بشقيها المادي والغيبي بمئات السنين، ولهذا تبدو الحسرة حتى في استخدام العقل تجاه اللامعقولية دائما كنتاج وعي في غير أوانه، وبلا جدوى:

إن الأُولى أضحوا أسارى عقلِهم ذهبوا بحسرةِ فاقدٍ متندمِ

إشربْ وعُدْ كالأغبياءِ فإنهم صاروا زبيباً في أوانِ الحصرمِ

وأيا كان الأمر فنحن لا نحاول محاكمة عبقري كالخيام بقدر ما نحاول أن نقارب فهم تجربة كبرى في إشكالية فهم الوجود والتعبير عنه، ولعل من أبرز مؤشرات هذه التجربة أنها سعت إلى تحويل مأساة فهم وتقبل إشكالية الفناء بصورة جمالية أوحت بعكس جوهر هذه المأساة، وربما هنا بالذات يكمن جزء من هذه العبقرية بغض النظر عن تقييمها متباين المشارب والمنطلقات.