الإلياذة هل تحتاج إلى ترجمة جديدة

بقلم: أيمن أبو الشعر

تعتبر الإلياذة – كما هو معروف – أحد الأوابد الإبداعية الكبرى في تاريخ الأدب العالمي عموما واليوناني خصوصا، ومن أروع ملاحم تلك المرحلة القديمة للشاعر الكبير هوميروس الذي كتب العديد من الأعمال الهامة الأخرى، هذه المؤلفات التي تؤرخ شعريا لأجواء حياة شعوب ذاك الزمن الغابر، وتداخلها المباشر في المعطيات الميثيولوجية ، حيث كانت الألهة تتدخل وتشارك في مجمل ظروف الحياة وأحداثها.

جرى تناول الألياذة بدراسات وافية عديدة جدا، وتم نقلهما إلى معظم لغات العالم بما في ذلك إلى العربية حيث تتميز ترجمة سليمان البستاني بجديتها وشروحها، والدراسة الوافية المرافقة لمعظم جوانبها رغم الطابع الكلاسيكي الصارم واعتماد اللغة الصعبة التي سيكون لنا وقفة سريعة بشأنها في متن هذه العجالة .

ويلفت النظر تأخر ترجمة هذا العمل الهام جدا إلى العربية طيلة قرون عديدة رغم الدور الكبير الذي لعبه العرب تاريخيا في الترجمة عن اليونانية، ويشير البستاني إلى القيمة الكبرى التي احتلتها الإلياذة عبر الأمصار والأزمان والاهتمام الكبير الذي أولاه المثقفون والسياسيون في أوربا لهذه الملحمة التي حملت أحيانا طابعا قدسيا حتى أن بعض الأطباء في القرون الوسطى كانوا يقرأون بعض مقاطعها على المرضى ، وكان العامة يستخدمون أبياتا منها في الرقى والتعاويذ أملا بالشفاء ، وقد بالغ بعض الأساتذة – كما يبدو – في تكريس وتكرار قراءات الإلياذة وشعر هوميروس في الجامعات وانبرى نفر لانتقاد هذه المبالغات في جامعة برلين ووصلت هذه الشكاوى إلى (ولهلم) قيصر ألمانيا الذي طالب حتى بالإكثار من تدريس الإلياذة وقال عبارته الشهيرة: (إن الأمة التي يرسخ في ذهنها صبا الأمم على ما يبسطه هوميروس لا يسارع إليها العجز والهرم)

ومع ذلك ظل هوميروس – كما يبدو – معروفا لدى النخبة العربية فقط ولم تقرأ مؤلفاته حتى القرن التاسع عشر، حتى أن سليمان البستاني يورد تقريظا لمساعيه في ترجمة هوميروس من المفكر الكبير جمال الدين الأفغاني، فيه جوهر تساؤلي عن عدم الالتفات لعمل كبير كالإلياذة وشاعر عالمي كهوميروس حيث يقول جمال الدين الأفغاني موجها كلامه إلى البستاني: (إنه ليسرنا جدا ما تفعل اليوم، ما كان على العرب أن يفعلوا قبل ألف عام ونيف. وياحبذا لو أن الأدباء الذين جمعهم المأمون بادروا بادئ ذي بدء إلى نقل الإلياذة ولو ألجأهم ذلك إلى إهمال نقل الفلسفة اليونانية برمتها).. ومن الواضح هنا أن الأفغاني لا يقصد الإقلال من قيمة نقل الفلسفة اليونانية إلى العربية ، والتي كان لها تأثير هائل على تطور الفكر العربي بقدر ما كان يقصد بهذه الصيغة الإشارة إلى مدى أهمية هذا العمل وضرورة نقله إلى العربية ، خاصة أن بعض شعر هوميروس كان معروفا لدى هؤلاء المترجمين في البلاط العباسي ، بل إن هناك إشارات توحي بأن بعض العلماء العرب كانوا يعتبرون هوميروس لدى اليونان بمثابة امرؤ القيس عند العرب، حتى أن ابن خلدون نفسه أثنى على هوميروس مما يشير إلى أنه كان مطلعا على بعض أشعاره وقيمتها على أقل تقدير. ويرجح البستاني نفسه أن يكون هذا الجفاء تجاه الإلياذة وحتى الأوديسة ديني المنشأ حيث يمثل هذا الشعر المرحلة الوثنية خير تمثيل فقد حاولت المسيحية في المراحل الأولى إغفالها أيضا انطلاقا من هذه البواعث ، وربما كان للعرب المسلمين عموما في المراحل الأولى نفس الموقف ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذه الحالة هو أن مثل هذه البواعث قد تنطبق على بعض مؤلفات الفلسفة اليونانية أيضا، كما أن بعض المعطيات تشير إلى انتشار الإلياذة وأشعار هوميروس في بلاد فارس إبان العصر العباسي ، ويثير الدهشة أكثر أن العرب لم يتحمسوا لترجمة هوميروس حتى إبان تواصلهم المباشر مع الشعوب الأوربية عن طريق الأندلس حيث أشاعوا النمط العربي في تجربة ما يسمى بشعر التروبادور .

الجانب الأخير الذي أود الإشارة إليه باختصار هو اللغة التي استخدمها البستاني في ترجمة الإلياذة، ورغم إعجابي الشديد بهذا العمل الكبير والجهد الهائل إلا أنني أعتقد أن الطابع العام السائد في مرحلة البستاني من تقديس القديم واتخاذه انموذجا جعله يستخدم لغة تقترب من امرئ القيس، وبعيدة في كثير من مفرداتها وأسلوبها عن القارئ المعاصر حتى أنها تبدو عصية إلى حد كبير على القارئ العربي، وقد تحتاج إلى ترجمة من العربية إلى العربية ،ويبدو أن البستاني نفسه كان يدرك هذه المفارقة واعتمد الكثير من المفردات العربية القديمة غير المأنوسة في محاولة لمقاربة اللغة اليونانية القديمة حتى أنه أشار في شروحه إلى أن الإلياذة ترجمت من اللغة اليونانية القديمة إلى اللغة اليونانية المعاصرة الحديثة مما يعمق من الحاجة – ربما – لترجمتها كذلك من العربية القديمة إلى العربية المعاصرة، وهذا لا يعني بالضرورة أن يتم استخدام مفردات تبدو نشازا عن أجواء ذاك العصر اليوناني القديم الذي كتبت فيه الإلياذة .. فكثير من مؤلفات سوفوكليس ويوربيديس وأريستوفانيس مثلا ظلت في ترجماتها المتداولة قريبة من أجواء مرحلتها وغير بعيدة عن تقبل القارئ العربي المعاصر .