بقلم: أيمن أبو الشعر
لم يكن فواز الساجر مجرد مخرج مسرحي مبدع ، كان – ولا أبالغ إن قلت – حالة جمالية متميزة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، لأنه كان بوتقة عوالم كاملة بحيثياتها الصغرى والكبرى ، كان بكل بساطة وطنا ثرا من القيم الجميلة تكثف في إنسان ، وطنا عاصمته قلبه الكبير المحب بلا حدود لكل ما هو رائع ونبيل، حيث سوريا قدس الأقداس لديه ، وجغرافيته تمتد عبر الجهات الأربع من عشق اسطوري للفن، وتماه حتى التقمص المطلق للجمال، و كان يقول إن لم يستطع المبدع أن يتميز فليصمت .
كنا نلتقي كل مساء جمعة – تقريبا – في غرفتي المتواضعة في مبنى الدراسات العليا في العاصمة الروسية ،ويشاركنا اللقاء أحيانا شبان مثقفون ويمتد الحديث من علاقات الحب في بلاد الغربة إلى رغيف خبز المواطن الفقير، إلى دور الفن والمسرح خصوصا . ما يعلق في الذاكرة بشكل يصعب نسيانه هو أن فواز الساجر كان قريبا حتى من غيفارا حين يتطرق الحوار إلى قضايا النضال المباشر ، ولكنه يتحول إلى أكاديمي هادئ وموضوعي جدا حين يتطرق الحديث إلى دور الأدب والفن وخاصة المسرح ، ويركز بشكل كبير جدا على مسألة الحرفية والتقنيات وحدود التجريب الذي لا يجوز حسب قناعاته أن يتحول إلى غاية بحد ذاته .
ما يهمني هنا هو فواز الساجر الإنسان،وفي جوانب صغيرة إذ من غير الإنصاف أن نتناول فواز المبدع أو حتى الإنسان في هذه العجالة ،- ومن المريح أن الكاتب والمخرج المسرحي الكبير فرحان بلبل تناول فواز المبدع من جوانب متنوعة بدراسة شمولية وفق وجهة نظره العملية – .في تلك المرحلة تحول فواز الساجر إلى صديق حبيب وقريب جدا من قلبي ، فهناك قواسم فلسفية وجمالية عديدة مشتركة بيننا ،وهناك مفارقات كان يتميز بها عن جميع أقرانه تقريبا..!! على سبيل المثال لا الحصر قال له كما أذكر أحد المشاركين في سهرة ثقافية في غرفتي الصغيرة تلك: كل منا جاء مع صديقته فلماذا أنت وحدك؟؟ هل هي رواسب مانسميه بالتخلف الشرقي .. تبسم فواز وصمت برهة ثم قال بما معناه : أعذرني ياصديقي فأنا كما أعتقد أكثر تجاوزا منك لتلك الرواسب بمفهومي ورؤيتي، ولكننا نطمح لتحقيق الحالة الجمالية الرائعة في العلاقات الوجدانية العاطفية ، وكل واحد يقيم علاقة مع صديقته كما يشاءآن ،وأنا لست ضد هذه العلاقة ولست واعظا ، ولكني حققت معادلة الحب والوفاء مع زوجتي وأسرتي ، وهذا مطمح كبير في عصر كهذا ، ثم أحرج المتحدث المعاتب في إطار شفيف مهذب قائلا بما معناه : المهم ياصديقي أن يكون الإنسان متجانسا مع ذاته لا أن يغرق في رواسب المجتمع الشرقي الذكوري فيبرر لنفسه ما يرفضه حتى النخاع الشوكي للطرف الآخر .. وأردف وهو ينظر مباشرة إلى عيني المخاطب :فهمتني جيدا أم أوضح ؟
الأمر ليس عابرا أبدا في بلد مثل موسكو وشخصية جذابة جدا كفواز الساجر والحادثة رغم أنها عابرة عادية تدل على أن فواز الساجر كان متجانسا مع قناعاته ومتمثلا لها بإخلاص. ذات يوم زارني فواز كعادته مساء الجمعة وكان عندي لفيف صغير من الأدباء والشعراء والمثقفين الروس والعرب.. وخلال ساعة ونيف تحول الحوار إلى مشاحنة ساخنة حول التقنيات الإبداعية، ودور الأدب والفن في التحريض الجماهري وبناء المستقبل، وكان فواز طيلة ذاك الوقت صامتا يتأمل، وفجأة نهض – عندما وصل النقاش إلى ما يشبه حوار الطرشان – ومد ذراعيه بحركة مسرحية متحدية وقال بما معناه: من الذي يريد أن يتحدى .. صمت الجميع .. وسرعان ما أضاف بابتسامة ذات مغزى: ولكن ليقل لي من يريد أن يتحدى .. على ماذا يريد أن يتحدى وحول ما ذا؟ وأردف : (جنازة حافلة..).. خلال بضع ثوان فقط ادرك الجميع أن ارتفاع حدة التوتر كان عبثيا بالفعل، وأن القواسم المشتركة كانت أكبر بكثير من نقاط الخلاف،..مدخل من هذا النوع كان مسرحيا في معالجته ، ولقطة متميزة حياتيا في تناوله، وجسرا جميلا للخلاص من دوامة الحوار غير المجدي. كل ذلك دون ان يزعج أو يستنفر أحدا ، بتهذيبه المشهود .
خلال تلك المرحلة أدركت أن فواز الساجر حالة جمالية قائمة بذاتها، حالة من التواضع المذهل، والكبر الروحي مما عمق لدي قناعة راسخة في أن المبدع الكبير هو المبدع المتواضع، والمقياس الحقيقي هو أن يدرك الآخرون مدى روعة هذا الإنسان الذي يبدو بسيطا بينهم بتواضعه، وهو أكبر منهم جميعا بقدر ما يتواضع دون تكلف أو افتعال ، والحقيقة أن فواز كان مرجعا واسع الطيف في شؤون الثقافة وخاصة في المجال المسرحي ،وكان يشاركنا بعض هذه السهرات صديق سوري اسمه آحو يوسف – آمل أنني سأتمكن من الكتابة عنه في مقالة قادمة- فقد كان من القلائل الذين ترتاح لحواره ولو اختلفت معه لأنه كان أنموذجا نوعيا للمثقف الواعي وللأخصائي المتميز جدا في مجال العلوم.
عندما افتقدت فواز الساجر رثيته بتكريس برنامج كامل من برامجي الثقافية الأسبوعية آنذاك في إذاعة موسكو، وكأنني كنت أرثي نفسي بفراق أسطورة رائعة اسمها فواز الساجر، ذاك الإنسان الذي تقمص وطنا جماليا. وعندما التقينا انا وآحو يوسف بعد رحيل فواز أطرقنا مليا ونظرنا إلى الكرسي حيث كان يجلس وقال لي آحو يوسف: الآن ندرك ما معنى الفجيعة، وأضاف يبدو لي أن الموت ذكي جدا ، أو فلنقل ماكر جدا لأنه يأخذ لنفسه مثل هذه الأوسمة .