المبدعون يتلاسنون حتى في عالم الأموات

odysseusvsscylla_1024

بقلم: أيمن أبو الشعر

سعي المبدعين لتقديم ما هو أجمل وأفضل من نتاجات مبدعين آخرين – حسب تصورهم – مشروع وقديم في جميع المراحل التاريخية وفي آداب مختلف الشعوب، وأذهب إلى القول بأن أفضل وأنبل هذه المقاصد هو سعي المبدع لتقديم نتاج جديد أفضل من نتاجات سابقة بما في ذلك نتاجاته هو نفسه. وقد يتحول هذا الهاجس أحيانا إلى مشاحنات ومساجلات، والانتقال من تقديم الأفضل إلى تسفيه نتاج الطرف الآخر بل وحتى إلى الهجاء كما هو الحال مثلا بين جرير والفرزدق، الأمر الذي تراجع نسبيا في حياتنا الأدبية المعاصرة تاركا للنقد المحترف الدور الأكبر في عملية التقييم التي لا تخلو أحيانا من مبضع دون جراح.

أقول نسبيا لأن هذه الظاهرة ما زالت لها سجالاتها وخاصة في أحاديث بعض المبدعين عن زملائهم بحيث يتم أحيانا إلغاء تجارب الآخرين تعسفا وبشكل شمولي، وكأن (المهاجِم) يشحذ جميع أسلحته الثقافية واللاثقافية قاصدا السحق، وخاصة عندما تختلف المشارب والأساليب، بمعنى آخر بدل أن يقول أنا مبدع رائع يقول فلان غير موهوب وهو فاشل، وبدل أن يقول لدي عمل جديد جميل ، ومن ثم يثبت ذلك بتقديم هذا العمل يشن حملة شعواء على مبدع آخر، ويقول إن أسلوب فلان تافه وسخيف وهكذا ..وقد سمعت غير مرة ألفاظا وعبارات (تقييمية) شتائمية بحق بعض المبدعين ونتاجاتهم، عبارات ذكرتني بعبارات وألفاظ مقاربة في مسرحية الضفادع لأريستوفانيس ، وحين عدت إلى هذه المسرحية مجددا وجدت أن بعض العبارات متطابقة تماما مع مفارقة أن أريستوفانيس كتب ذلك على لسان يوريبيديس وأسخولوس (أو أسخيلوس) منذ حوالي خمسة وعشرين قرنا .

في مسرحية الضفادع هذه حوار مثير يأخذ حيزا كبيرا ومحوريا في تصاعد الحدث المسرحي حيث يعرض – كما هو معروف – تنافسا متخيلا بين الشاعرين اليونانيين الكبيرين يوريبيديس وأسخولوس وهما يتباريان أمام ديونيسيوس الذي يأخذ دور الحكم في مشهد جميل ومعبر جدا فكل شاعر يقدم بعضا من أشعاره ومقاطع من مسرحياته، وتبدأ مباشرة عملية المقارنة ومن ثم يعطى الشاعر الذي أخفق في هذه الجولة فرصة أخرى، ولا تخلو هذه المباراة أيضا من التجريح وشبه الشتائم – كتلك التي أشرت إليها في الأجواء المعاصرة- لكن الطريف هنا هو أن ديونيسيوس لا يرضى إدخالها إطلاقا في التقييم بل ينفر منها، ويضع الشاعرين أمام ميزان تقييم اللغة والصور والاستعارات وإن كان بشكل كوميدي من خلال استخدام ميزان حقيقي بكفتين، لكن هذه الكفة أو تلك ترجح بعد قراءة هذا المقطع أو ذاك، وينطلق التقييم -بعيدا عن الشتائم- مما يمكن أن يقدم فائدة للمجتمع من الجانب الذوقي أو حتى المادي حتى أن أيسخولوس حين يسفه بعض نتاجات يوريبيديس يعتمد منطقا نقديا حساسا بقوله (إن الأفكار الجبارة وأهداف البطولة يجب أن تكون لها ألفاظها الملائمة .. أو قوله: لقد ألبست ملوكك خرقا مهلهلة وأسمالا بالية لتستدر عطفنا .. وحين يحتج يوربيديس قائلا أي ضير في هذا يجيبه أيسخولوس: ما من مواطن ثري بعد ذلك سيجهز للدولة سفينة حربية)

قصدت أن الشتائم والنعوت المبتذلة تخرج دائما عن تقييم المبدعين ونتاجاتهم وتبقى في دائرة النزق حتى منذ عشرات القرون بل وتسيء إلى صاحبها، حتى أن دونيسيوس يطالب الشاعرين الكبيرين بعدم الانحدار إلى هذا المستوى ويقول: لا يليق بالشعراء أن يقرع كل منهم الآخر كفتاتين خبازتين .. إنكما تزأران كشجرة أمسكت بها النيران .

الشيء المثير في هذه المسرحية الكوميدية -القديمة جدا- أنها تبرز ثلاثة أمور هامة، الأول: أن محاكمة النتاج الإبداعي لا تتوقف بموت المبدع باعتباره نتاجا يهم الآخرين، والثاني: أن النتاج الإبداعي الرائع يبقى حيا دائما بل ويصل تثمينه حد إحياء المبدع نفسه، والثالث: أن التقييم الموضوعي يتم بعيدا عن المواقف المسبقة والعواطف الشخصية بل انطلاقا مما يقيم تحديدا. فحوادث المسرحية تجري في عالم – هاديس – عالم الأموات حيث يمضي ديونيسيوس إلى العالم السفلي لإحضار الشاعر يوربيديس كونه معجبا به، ولكنه حين يجري المباراة بينه وبين أسخيلوس يختار في النهاية الأخير ليصحبه إلى الحياة والنور، وكتعبير رمزي عن خلود العمل الإبداعي بعد موت مؤلفه تجيء عبارة اسخيلوس الذي اعتبر المباراة غير عادلة لأن شعره عاش بعده فظل هناك(في عالم الأحياء) أما شعر يوربيديس فقد مات معه ولذا يستطيع استخدامه هنا في عالم الأموات

ومن البديهي أن تقييم ديونيسيوس في الواقع هو تقييم أرستوفانيس كاتب الضفادع وهو بغض النظر عن مواقفه واحد من عمالقة المسرح اليوناني القديم إلى جانب اسخيلوس ويوربيديس وسوفوكليس وغيرهم ممن يمكن قراءتهم حتى الآن بشغف ومتعة بعيدا عن كل تلك العبارات الشتائمية القديمة جدا والمعاصرة جدا.