محمود جبر نجم لامع حتى في الظل

images_news4_m07_d28_12-3

بقلم: أيمن أبو الشعر

كم قد توسَطـَنا بحراً نساحِلـُه………فكيف غادرَ هذا البحرُ شطآنا

وكم يغيب جليسٌ قرب ناظرنا………وكم نحاورُ من قد غابَ جثمانا

ما أمكرَ الموت ذوّاقا يشاغِلـُنا………وليسَ يـقـطفُ إلا طيّـبـا حـانـا

يا إلهي .! هل قدر علي أن أكتب معظم مقالاتي عن الراحلين الرائعين أم هو العمرُ ..!! . اخترت هذه الأبيات من قصيدة سبق أن نشرتها في تشرين في رثاء أديب غير معلن ، وهو الصديق الراحل محمود صابوني سميّ الفنان الكبير محمود جبر لاعتقادي بأنها تقارب إلى حد كبير الإحساس بهذا الفقد خاصة أن الرثاء يحاول إبراز النوع الذي يلتقي فيه الراحلون الجميلون ، والفنان الكبير محمود جبر هو من تلك النماذج القليلة التي لا ينقطع حضورها بحيث يستمر جليسا رائعا تحاوره كحالة جمالية ، فيتجلى لك بعذوبته ورهافته، وتسمعه حقا وتكاد تشد على يديه حتى تغيب عن ناظريك وجوه عادية هي قربك ويتماهى هو بكينونته المبدعة أمامك وهو غائب عنك جثمانا وحسب.

ظهر محمود جبر كالسنونو مع الإطلالات الخجولة لربيع المسرح السوري الطموح ومع بداية البث التلفزيوني، وكان بديهيا أن يشق طريقه بأناة وصبر ومثابرة ليخدش قشرة الرواسب الاجتماعية حتى في تقبل الشعب للفن المسرحي الأمر الذي ساهم فيه لفيف متميز من أقرانه الفنانيين المعدودين على الأصابع في تلك الفترة .

اعتمد محمود جبر على المسرح بالدرجة الرئيسية، وهو أمر بالغ الحساسية في امتحانات الفنان وجها لوجه مع الجمهور، فالكاميرا هنا هي أعين الناس ولا مجال لإعادة هذا المشهد أو ذاك ، والمونتاج فوق خشبة المسرح هو فطنة الفنان وقدرته على معالجة الهفوات سواء أكانت زلة لسان أو شططا في غير موقعه للخروج من الورطات الفنية .. بفنية، وأدق وصف لمحمود جبر على المسرح – كما أعتقد – أنه كان رشيق التجاوب مع اللحظة الراهنة ، ألمعيا تتحدث عيناه إن صمت دون مبالغة في (الميميكا)، ويستكمل بجموده للحظات أحيانا مسار الحركة المسرحية المناسبة في التعبير عن الدهشة ، أو توطئة للقطة قادمة، وبهذا المعنى كان محمود جبر حِرَفيا بالفطرة يعزف على أوتار المخبوء الاجتماعي ويكشف جوانب غافية او منوّمة ، مستنهضا الضحك والحبور من براثن الواقع الجهم محليا وعربيا ودوليا ، وهو أصعب فن في تاريخ المسرح منذ يوروبيديس وأسيخيلوس، ولهذا قلت إن محمود جبر رحل جثمانا وبقي فنانا حيا يجالسنا دائما بل يتوسطنا بحرا ونحن نساحله.

أليس مؤشرا له دلالته أن يظهر هذا الفنان القدير ساطعا وسرعان ما يغدو معظم أفراد أسرته من ألمع الفنانين المشهود لهم بالتميز الإبداعي بمن فيهم ابنتاه ليلى ومرح ، – ألا يعني ذلك أن الفن لديه كان رسالة وهدفا وتقمصا استغراقيا – ، ألم يكن ناجي جبر استمرارا رائعا لنهج شقيقه الأكبر محمود في البداية ، وسرعان ما غدا فنانا له بصماته وشخصيته المحببة التي تتكئ النجومية بعظمتها على عطائه وحميميته وفرادته دون أن يتكئ عليها .

كان لقائي المباشر بمحمود جبر متأخرا فقد كنت خارج الوطن ردها مديدا من الزمن ، ولدى عودتي إلى دمشق لفت نظري وجود محمود جبر في الصفوف الأولى في إحدى أمسياتي الشعرية، قال لي إثر انتهاء الأمسية لقد سمعت عنك كثيرا واصطحبني صديق مشترك اسمه أبو رائد (غاسم حيدر) هو من عشاقك، اليوم تستطيع أن تعتبرني أيضا منهم.. عانقته وقلت على الفور: هذا شرف كبير لي ، فأنا من جمهورك منذ زمن بعيد، وفرحت كثيرا لقناعتي بأن الفنان خصوصا يفقد مصداقية الذائقة الجمالية إن لم يكن يعشق الشعر والرسم والموسيقى والمسرح. ولعب أبو رائد دورا هاما في تعميق هذه الصداقة الوليدة.

في سهرة استمرت ساعات طوال في مزرعتي المتواضعة وكان فيها عدد غير قليل من الأدباء والفنانين والمثقفين بمن فيهم بعض المشاهير كانت العيون تتوجه تحديدا حيث يجلس محمود جبر في انتظار أية مفاجئة، فيما كان هو يبتسم ويساهم في الحوار باقتصاد واضح .. قلت له ماذا يا أبا شادي هل هناك ما يعكر صفوك، سارع إلى القول: على العكس أنا في غاية السعادة وكم أحتاج لجلسات كهذه، ولكني أحس اليوم أن علي أن أعب وأستقرئ، وهذا جانب جوهري من حياتنا كنت غافلا عنه لعل بعض جوانبه تظهر في أعمال قادمة .. كان محمود جبر مفعما بالتشاؤل..!! وكان يسر لي أحيانا بين مرحب ومستغرب بأن الظروف الموضوعية قد اختلفت وشركات الانتاج والقنوات العديدة في السنوات الأخيرة تبحث عن نجوم براقة الآن لا عن نجوم رائدة بالأمس..!! ثم اقترح علي التعاون في انتاج تلفزيوني مشترك، وكنت قد بدأت بكتابة الهيكل الأساسي لمسلسل تلفزيوني كوميدي للأطفال والكبار على حد سواء، ولكني توقفت لظروف موضوعية.. في لقاء آخر حدثته تلبية لرغبته لساعة من الزمن عن فكرة ومسار المسلسل الذي كنت أتصور أن أصوغه في سباعية لكنه كان يعتقد أن قليلا من المعالجة والتوسع الموضوعي لهذه الفكرة تجعله ثلاثين حلقة،.. وسرعان ما أضاف يا إلهي إننا نستطيع أن نفعل ذلك حقا.. بدت على وجهي إمارات الاستفهام حول من قصد (بـ نفعل)، لكنه تابع: هذه شخصيات محفورة لنا. لم أستطع أن أحقق رغبات الصديق الجميل المبدع محمود جبر، فالأمر بحاجة إلى تمويل نعجز عنه معا، وعلى حياء طويت صفحا عن متابعة كتابة هذا المسلسل وبت أخجل – من عدم وفائي بوعودي – حين يستفسر عن العمل في اتصالات هاتفية.. لكنني كنت سعيدا جدا لأن محمود جبر كان وقد تجاوز السبعين من عمره إبان هذا الحوار ممتلئا بالحيوية (والتشاؤل) حيث قال ذات يوم: إنني لا أود ان أورطك يا صديقي، قلت: لن تورطني فأنت نجم، ابتسم قائلا: نجم في الظل..!! فأردفت نجم ساطع حتى في الظل ياصديقي محمود.