الصورة الشعرية

بقلم: أيمن أبو الشعر

لم يكن صدفة أن يضع الشاعر الكبير نزار قباني لإحدى مجموعاته الشعرية عنوان الرسم بالكلمات وهي المهمة الرئيسية للصوغ الشعري الذي يوغل في الإبداع كلما عبر عن مكنونه المشاعري بالصور تحديدا حيث الفن أساسا هو التفكير بصور كما يقول بيلينسكي .

والملفت للنظر في الشعر وشعرنا العربي خصوصا انه إذ يسعى لرصد الحالات المشاعرية يبدو متألقا لا من خلال مدى صدق أو روعة المعطى الوجداني بل تحديدا في الكيفية التي تمت فيها هذه الصياغة الشعرية ومدى إثارتها لللذائقة الجمالية لا للمشاعر التي يمكن وصفها أحيانا نثرا أو بمبالغات كلامية عادية يستخدمها حتى العامة وبهذا المعنى يكف صدق التجربة عن أن يكون مقياسا حيث تتقدم الموهبة ، ففي حالة رصد لعلاقة حب يهمنا ما ينقل إلينا بما يعكس تجربة الشاعر وليس العكس . هذا ناهيك عن الصور الشعرية التي لا تتحدث عن علاقة حب أو تفجر مشاعري وجداني الأمر الذي يظهر بكثرة في شعر الوصف حتى تكاد ترى أمامك لوحة زيتية تضج بالحيوية وكأن الشاعر فنان تشكيلي او أن فنانا تشكيليا قد كتب هذه الأبيات أو تلك. من ذلك ما تغنيه السيدة فيروز في قصيدة سمراء ولا تستطيع إلا ان ترى اللوحة وأنت تسمع الكلمات وهي تصف الراعي :.. كوفية بيضاء تسرح في المرابع كالشراع .. لايمكن أن لا تثيرك هذه الصورة البسيطة بصياغتها والمعبرة عن رؤية جمالية عميقة لهذا المشهد الكوفية البيضاء التي تداعب النسمات أطرافها تبدو عن بعد وكانها وسط الفسيح من الخضرة شراعا والحركية هنا ليس هامة في مشهد يتم رصده عن بعد كلوحة زيتية لا كشريط متحرك وروعته تأتي من تثبته في ذاكرتك كلوحة فنية.. والأمر يختلف تماما لا بمقياسه الجمالي بل التشكيلي حين تكون الاستعارة مجردة لا يمكن تجسيدها عيانيا بل يتم استيعابها جماليا كما في القصيدة ذاتها : سمراء ياأنشودة الغابات ياحلم المراعي .. فما من أحد يستطيع رسم انشودة الغابات أوحلم المراعي بالألوان والخطوط.. وشعرنا العربي حديثه وقديمه مليء بهذه اللقطات التي يتحد فيها خيال الشاعر مع ريشة الفنان وخاصة في رصد مشاهد الطبيعة كوصف الهلال الذي مرت فوقه غمامة صغيرة :

أنظر إليه كزورق من فضة………قد أثقلته حمولة من عنبر

وقد يثيرك فرادة التكوين التشكيلي الذي يرسم بالكلمات لمخيلتك حتى باستخدام عناصر موجودة جميعها في الطبيعة بحيث تبدو اللوحة مركبة وكأنها لوحتان متمازجتان يتهيب أكبر الفنانيين التشكيليين على رسمها بعد ان جسدتها كلمات الشاعر كما في وصف المعري لإحدى الليالي الحالكة :

ليلتي هذه عروس من الزنج………عليها قلائد من جمان

ورغم أن معظم من تناول هذه القصيدة ركز على أن المعري أبدع في رسم صورة خوفه في هذه اليلة الظلماء بهذا الوصف فإنني أميل إلى الاعتقاد أن المعري أبدع بشكل رائع في عقد التشابه الفريد بين هذه الليلة المظلمة المليئة بالنجوم والزنجية بقلائدها الفضية ولم يفلح في رصد الخوف لأن المشبه به لا يتثير الخوف عروس الزنج بقلائدها والمشبه هو الذي يثير الخوف الذي كان يمكن ألا يظهر لولا البيت التالي الذي يقول فيه :

هرب النوم عن فؤادي فيها………هرب الأمن من فؤاد الجبان

أو كقول بدر شاكر السياب في وصف عيني حبيبته :

عيناك غابتا نخيل ساحة السحر

أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر

لكن مثل هذه الصور الجميلة التي تتجسد كلوحة فنية رائعة مرسومة بالكلمات ومتخيلة بألوانها سرعان ما تدب فيها الحركة أحيانا محولة اللوحة إلى شريط سينمائي كما في قصيدة السياب نفسها حين تتراقص الأضواء في عينيها كتراقص انعكاس ضوء القمر على سطح الماء حين يهزها المجداف وهنا ساعة السحر ..

اللقطات الحركية المجسدة سينمائيا كانت مبثوثة في شعرنا العربي قبل ظهور السينما بمئات السنين سواء بإضفاء الحركة على الجامد سواء أكان مشهدا طبيعيا أو لوحة كما في وصف البحتري لإيوان كسرى بتحريك المرسوم وضخ الحياة فيه كما يحدث كثيرا في استخدام التقنيات السينمائية حين يكون الكادر جامدا ثم يتحرك أو بمعنى تجسيد مساحة من الزمان والمكان وإعادة بثها في مخيلة المتلقي : أتوك يجرون الحديد كأنهم سروا بجياد مالهن قوائم

ولا يتوقف الأمر عند الصورة الحركية ذات الظلال السينمائية التي يمكن تجسيد عناصرها للعين كونها من موجودات الطبيعة بل يتعداها إلى ما لا يمكن أن تجسده السينما حتى بتقناتها المذهلة حين يتم مزج هذه الحركية بالمجرد فالمخرج مع الإمكانات السينمائية المتطورة يستطيع تقديم مشاهد بالغة الخطورة يتعرض لها قائد عسكري ومدى شجاعته في اقتحام هذه المخاطر لكن هذه المبالغة تبقى نسبية لديه فيما تبدو بلا حدود في وصف المتنبي في القصيدة ذاتها لسيف الدولة :

وقفت وما في الموت شك لواقف………كأنك في جفن الردى وهو نائم

يبدو أن الأمر في نهاية المطاف يتعلق بهذا التكوين الاستعاري الذي يصعب تحديد مداه حتى بما كتب أو نطق عندما تكون بعض عناصره ذات طبيعة معنوية تترك للمتلقي أو تجبره عمليا على ان ينسج صورتها وفق شخصيته والتراكم الثقافي لديه وذائقته الجمالية ، ومن هنا يتفاوت إلى حد كبير تقييم مدى روعة أو عادية هذه اللقطة أو تلك سواء أكانت تندرج في مجال ما أسميناه افتراضا التعبير الشعري التشكيلي أو السينمائي لكن الصوغ الشعري يتخطاهما حين يدخل في المجال التخييلي المطلق .