بقلم: أيمن أبو الشعر
تتداخل الأزمنة والأمكنة وحتى الحواس والأبعاد التي تؤطرنا في طقس الرحيل المطلق، تتعالى بجبروتها على الإدراك، ويقف الإنسان عاجزا منذ أن كان بدائيا وحتى عصر النيترون عن التعامل مع هذه الحالة المرفوضة مشاعريا ،والمفروضة بيولوجيا على كل كائن حي.. ولا نحس بمدى هول وجلال الرحيل إلا حين نواجهه واقعا ، فالراحل أيا كان يترك لنا هذه التجربة المريرة التي تسمو على الأسئلة، لكنه يدخلنا في حومتها لمواجهة هول الفقد حين يكون الراحل كبيرا برمزه وما يمثله، كبيرا بعطاءاته ونوعيته، كبيرا بتفرده وشيوعه كهواء نتنفسه، وموسيقى تنساب في أوردتنا ومعان تنغل في أعصابنا ورؤى تستشرف مستقبلنا مستنهضة واقعنا كما كان محمود درويش حالة تستعصي على التكرار.
في مقالة لي قبل حين في تشرين عبرت عن أسى لا يفسر لرثاء الراحلين الجميليين حين كتبت عن محمود جبر، وسبق ذلك كتابات عن راحلين جميلين كثر بمن فيهم فواز الساجر، وجنكيز أيتماتوف ورسول حمزاتوف وغيرهم ممن جمعتني بهم صداقات جميلة وتساءلت هل قدر لي أن تكون جل كتاباتي في زاويتي الأسبوعية في تشرين حول وداع هؤلاء الرائعين أم هو العمر؟؟ يبدو أن الأمر كذلك إنه زمن الرحيل إذن بكل هوله وجلاله والتسليم بقدره.
محمود درويش النجم الأكبر في عالمنا الشعري كان بسيط القلب رائع التفاعل ، له مزاجيته الخاصة التي تحمل مصداقية كبرى في كينونة العطاء والتفرد، ولم يكن نرجسيا كما رآه البعض بقدر ما كانت حياته ونتاجاته تفتح له هذه الجسور فيتجاوزها بكبرياء الإنسان المبدع الكبير .
محمود درويش كان إشكاليا في علاقة المبدع مع نتاجه فهو يدرك أن له مهمة كبرى في التفاعل الجماهيري ، وهو كفنان رائع يدرك أيضا مدى رهافة التعامل مع العبارة والصورة والصياغة والتكثيف من هنا حاول أن يكون بآن واحد لسان البسيط الشعبي كما في سجل أنا عربي ، ولسان ورؤى المثقف المسور باللاحدود كما في كثير من القصائد ذات التوالد التصويري التخييلي .. ولم يبرح عرش عشقه لقضيته لا في هذا ولا في ذاك . وكان من البديهي أن تنشأ حوله إشكالات واسعة الطيف بما في ذلك مع رفاق دربه الشعري والنضالي وخاصة إبان تغيير مواقعه لا مواقفه وأسجل هنا للشاعر سميح القاسم بعد خلافات عابرة حول هذه المعضلة بعد رحيل محمود درويش عن الوطن أنه قال لي حين التقينا في موسكو : محمود أخي وحبيبي ورفيقي ولا يمكن أن نختصره في رحيله طالما استمر في عطاءاته النضالية وما كان كان وله ظروفه !!.
أول لقاء لي مع محمود درويش كان حين زارني في منزلي إثر تعرضي لإعتداء ماكر قبيل إحدى أمسياتي الشعرية وكان أول من زارني من الأدباء العرب بصحبة شاب مثقف آنذاك هو زهير التيناوي .. جلسنا معا لساعة من الزمن ولن أنسى ما قاله لي حينها: علي أن لا أخفف عنك بل أن أهنئك .. هذا قدر قاس جميل ..وفي هذه التعابير الكثير مما يسجل لمحمود درويش في تفاعله النضالي أكثر مما هو تعاطف معي .
ذات يوم جاءني محمود درويش إلى سهرة في منزلي والتي ضمت عددا من الأصدقاء الأدباء والمثقفين ، وأذكر كما لو كان هذا اللقاء أمس أو أمس الأول أن بعض الأصدقاء حاولوا بصدق إحراج محمود انطلاقا من أنه بدأ يتعامل مع النقاد لإرضائهم لا مع الجماهير ليعبر عنهم ، لكن محمود لم يتخل عن كبريائه الجميل وبنفس الوقت لم يستفزهم كما استفزوه انطلاقا من حبهم له بل أوضح موقفه ببساطة : أنا أفهمكم جيدا ولكني أعتقد أن عليّ أن أكون للجميع، للبسطاء والمثقفين على حد سواء ..
كان محمود درويش بالفعل نموذجا رائعا للمبدع الذي يقدم نتاجه للبسطاء والمثقفين على حد سواء.. وإشكالية التعبير الشعري ما زالت تحت إشارة استفهام حل معظم ترهاتها بخصوصيته الفنية الراقية، وفن السهل الممتنع بآن معا. فهو في سجل أنا عربي قبل أكثر من ثلاثين عاما يتواصل مع حاصر حصارك ومع أيها المارون بين الكلمات العابرة، وهو في مديح الظل العالي يتواصل مع الرمادي ولايبتعد عن هذا ولا يجافي ذاك، وربما لهذا غدا محمود شاعر أمة، شاعر قضية دون أن تطغى مغامرة الإبداع النوعي على عطاءات الإبداع الشعبي.
التقينا في موسكو عدة مرات التقينا كصديقين فعرفت محمود درويش الإنسان بضحكاته الطفولية، وطرائفه الذكية ولقطاته المثيرة، وذات يوم دعانا صديق مشترك في موسكو هو السفير الفلسطيني آنذاك رامي الشاعر إلى سهرة في إحدى مطاعم موسكو.. تلفت محمود يمنة ويسرة وكانت الأجواء جميلة وادعة آسرة وسرعان ما قال أنا الآن أشرب موسيقا وأتعشى جمالا كدت أن أقول له لكن شعوبنا..!! إلا أنه لم يترك لي حتى هذه البرهة حيث أردف على الفور هذا ما أتمناه لشعبي أن يكون لهم أن يتعشوا جمالا وأن يشربوا موسيقا وأن ينجبوا ما شاؤا من الأطفال المقاومين الجميلين المتفائلين.
خلف جدار الزمان والمكان يسمع رجع صهيل يعاتب مدن النحاس وممالك النعاس .. ووقع سنابك تحاكي نبضات قلب هذا الشاعر الكبير التي توقفت عن الخفقان جسدا لكنها تعاود نسج إيقاعها من خلال أشعار تحيي قائلها على شفاه عاشقيه .. الرثاء اليوم يركع لتقديم التعازي في رحيل هذا الشاعر الكبير الذي سيبقى بيننا عطاءا كعزف أوتار يحتلنا فنعايشه دون أن نجسه أو نراه مما يذكرني برثائي للصديق الكبير الراحل مهدي الجواهري:
لا لن نراك عزاؤنا أنا نهيم………ولا نرى ما تعزف الأوتارُ
بدأ التراب نشيده متهلللا………حتى انحنت لمقامك الأحجارُ
أدركت مذ وارووك كنز محبة………كيف الحياةُ من المماةِ تغارُ