بيت الأشرفية وفرقة سبارتاكوس

بقلم: أيمن أبو الشعر

قيض لي أواسط السبعينات أن أخوض تجربة جميلة متواضعة ولكنها نوعية ، تجربة ربما يكمن معظم أجواء جمالها في عفويتها وبساطتها وصدق التعامل مع مجساتها وخصوصيتها ..

تحلق حولي شباب بانتماءات عشقية للوطن، يحملون هاجس الثقافة والفن والغيرية، وكنت يومئذ مدرسا للغة العربية وآدابها في إحدى ثانويات حلب إثر تخرجي من الجامعة ، وجمهور حلب جمهور ذواق عاشق للتألق .. كنت أقطن في بيت متواضع شعبي، ولكنه كبير واسع الغرف يقع آخر حي الأشرفية حيث تبدأ بعده مباشرة البرية والصخور، وتكثر في تلك المنطقة حكايا الجن والعفاريت شعبيا..آنذاك ..وكنت قد بدأت قبل سنوات – من سكني في بيت الأشرفية- بتأسيس فرقة فنية في دمشق وإبان سكني في مدينة حمص أسميناها (اسبارتاكوس) تيمنا بثورة العبيد التاريخية المعروفة ..وبما أن معظم عناصر هذه الفرقة كانوا من الطلاب الجامعيين وحتى ممن كانو في الباكالوريا فقد كانت بحق فرقة تتمثل فيها معظم المناطق السورية ويجمعها حب كبير للفن والثقافة والإيمان ببناء غد أفضل.

وكنت أجوب أحيانا وحدي بصحبة العود وأحيانا مع بعض الشبان على بعض القرى والأرياف ومن ثم في الأحياء الشعبية لتقديم العروض المنوعة . وفي حلب كانت التجربة أجمل حيث يتمتع البيت الشعبي الحلبي بمزايا تساعد على استخدام ليوانه كمنصة مسرح وغرفتيه الجانبيتين يمين ويسار الليوان ككواليس ، وكنا نقدم بعض الأغاني والأناشيد الوطنية الثورية ، وحتى بعض العروض المسرحية ، وانتقل العمل في بيت الأشرفية إلى مستوى جديد لا يبتعد كثيرا عن البساطة والعفوية وحتى المباشرية والمحاولات التجريبية في معظم الأحيان حيث كانت إمكاناتنا المادية أكثر من ضعيفة ، وكان يأسرنا دون أن ندري جمال التجربة على بساطتها وذاك الإيمان العجيب الذي كان يراودنا – ربما طوباويا حينها – بأننا نحن الشباب الثوريين سنبني الغد الأفضل ، وليس بعيدا .. بل غدا أو بعد غد ..كانت رياح الواقع السياسي المتغير في منطقتنا والعالم أقوى من أشرعة أحلامنا حتى أننا اليوم نتمنى أن يتمسك الناس والأنظمة بالموقف الوطني لا أكثر حتى الآن على أقل تقدير إلى أن بدأت المقاومة الباسلة بتغيير جوهر المعادلة ..!! ولكني أستطيع القول أن جميع الشباب الذين ساهموا في نشاطات بيت الأشرفية كانوا رائعين جدا كل بطريقته الخاصة، كنا بالفعل في بعض المراحل أشبه ما نكون بخلية نحل شهدها ذاك الإيمان المتألق بانتصار إنساني شامل على الكوكب الأرضي وأن للثقافة والفن دورا هائلا على هذه الطريق..

فرقة اسبارتكوس تلك سجلت بضعة أشرطة كاسيت لمقاطع من الأمسيات الشعرية وللأغاني والأناشيد بآلة تسجيل أكثر من بسيطة سواء في دمشق أو حمص ومن ثم في حلب، وكنا أثناء التسجيل نحيط أنفسنا بأغطية صوفية نربطها بالحبال لمنع الصدى إذ لم يكن لدينا استوديو مهما كان بسيطا لامتصاص تردد الصوت ،وكانت هذه الفرقة تتألف من عدد من الصبابا والشباب الذين كانوا لا يتوانون عن ترك محاضراتهم الجامعية، أو الإعداد لدروسهم وامتحاناتهم الثانوية إن كان هناك نشاط فني إبداعي في سبيل ما كنا نسميه المستقبل الأفضل.. لن أذكر الأسماء – التي تألق معظمها إبداعيا موسيقيا وأصواتا ومحاولات كتابية تنم عن مواهب جديرة بالاحترام عبر تلك العفوية – حتى لا أغفل أحدا ولو عن غير قصد من هذه الوجوه الجميلة الصادقة ، وإن كنت في طوافي مع آلة العود أقدم الأناشيد والقصائد البسيطة الملحنة بنفسي منذ سنوات سابقة في تجربة متواضعة (تقترب من التروبادورية) إلا أنني كنت في نشاطات بيت الأشرفية أعتمد اعتمادا كبيرا على المبدعين والمبدعات الرائعين والرائعات في فرقة اسبارتاكوس المتجددة تلك، وكان نجاح هذه النشاطات الثقافية الفنية مرهونا تحديدا بالجهود الجماعية .

وأذكر جيدا أننا ذات يوم قررنا أن نقيم حفلا فنيا ثقافيا في بيت الأشرفية نفسه مع عرض مسرحي كتبت نصه آنذاك لهذا الغرض فكيف تم تنفيذ ذلك ..؟ شيء قد لا يصدق ..! حالة حميمية رائعة ونوعية تماما على الأقل بالنسبة لتجربة كهذه متواضعة الإمكانيات .. حفرنا في البلاط بضعة سانتيمترات ثبتنا فيها العوارض الخشبية (بيتي كان في الطابق الأخير، الثالث من بناء قديم) وبنينا مسرحا أغلقنا جوانبه بأغطية النوم، وأعارنا أحد البنائين دفوفا خشبية وضعناها فوق طوب البناء كانت بمثابة مقاعد للجلوس في الغرفة الكبيرة كصالة للعرض. واستكمالا لإنجاح ذاك النشاط الثقافي الفني الشعبي وفي إطار الحاجة أم الاختراع كنت أستخدم علب السمن الفارغة التي تربط بلوالب الخيطان (الكراكر) من الخارج، وتوضع داخل علب السمن الفارغة لمبات موجهة لتحريكها بحبال رفيعة لتوزيع الإضاءة . وكان بعض الزملاء يساعدونني في الوقت المحدد وإشارة متفق عليها للتنفيذ الحركة المعنية بشد هذا لحبل أو ذاك أو ضغط المجس المحدد لتشغيل آلة التسجيل لاستخدام الموسيقى أو المؤثرات الموسيقية التي كنا نقوم بأنفسنا بتسجيلها وابتكار الأصوات المناسبة للمشاهد والفقرات حسب تصورنا آنذاك باستخدام كل ما يقع تحت أيدينا بما في ذلك وضع المايكرفون البدائي داخل الطناجر لمقاربة الصدى ،وصوت تدفق الماء من الصنبور وابتكار الأصوات والمؤثرات.

اليوم أستطيع أن أقول – وهذا بديهي- : أننا لم نكن نقدم نتاجات إبداعية رائعة فنيا، كنا نقدم محاولات صادقة، ولكن من الإنصاف أيضا أن تقيم تلك التجربة من خلال مرحلتها لا من خلال معطيات الزمن الحالي،.. ومن البديهي أن تحمل تلك الظروف والمرحلة مع نزق الشباب وأجوائهم النفسية بعض الأخطاء التي ربما لم أكن بريئا من بعضها فقد كنت في مقتبل العمر أيضا.. كم أشتاق إلى بيت الأشرفية فهو جزء من تاريخ تجربة جميلة فنيا وثقافيا ووجدانيا وعاطفيا في حياتي، كم أشتاق إلى أولئك – الشباب – الذين ما زالوا بصمات في الروح كحالة جمالية فالأخطاء العابرة تمحى وتنسى ويبقى ما هو جميل ورائع في ألقه، وبصمات الروح لا يمكن أن تنسى أو تمحى .. كما لن يمحى من الذاكرة بيت الأشرفية.