حول الأمثال الشعبية تأكل الحرة نهديها لا بنهديها

بقلم: أيمن أبو الشعر

يمكن اعتبار الأمثال – تبسيطا – إحدى مرايا الثقافة الشعبية التي تنغل عمقا في تجارب الأفراد والجماعات، وقد تتداخل إبان تكثيفها مع الحكمة الشائعة والقول المأثور رغم بعض الفوارق بينها كجسور تعبيرية عن هذه التجارب الإنسانية الثرة عبر القرون والأجيال .

ويركز المثل عموما على ظاهرة اجتماعية يعتبرها البعض نشازا، أو على العكس مقياسا لممارسات إيجابية فيستخدمون لها الكنايات والإستعارات والتشابيه حتى تبدو في قالبها الشائع كتعبير شامل واف موجزلحالة محددة ، من هنا فإن كثيرا من الأمثال لها صنوها أو مقاربها في تراث الشعوب الأخرى وخاصة ما يتعلق بالمعاني الشاملة كالبخل أو التهور أو الكرم أو الفداء .. وغيرها من هذه المعاني، وهو أمر بالغ الدلالة في أن الإنسان ككائن اجتماعي يتقارب في كثير من الأحيان في تبنيه للقيم الخالدة، ونبذه للمارسات الدنيئة، وهو بذلك إنما يكرس إنسانيته الأكثر تطورا والأكثر غيرية والأكثر حميمية، لأنه يرفض ضمنيا مضمون الأمثال التي تدعو إلى الأنانية وتفضيل الذات ومصالحها حين يكون ذلك على حساب حياة وأرواح الآخرين ومصالحهم الجوهرية ويستخدمها للإدانة والانتقاد، من ذلك بما يخدم هذا المقام المثل الشعبي الذي يقول: (ألف عين تبكي ولا عين أمي) أو (فخار يكسر بعضه)، وهو تجسيد في معظم الأحايين للأنانية والذاتية والانسلاخ عن الآخرين ،أو كتعبير عن الرضوخ والإقرار بالضعف ، والأمر هنا لا يتعلق بالبراغماتية ، إنه يتعلق بجوهر الحياة الاجتماعية المتعاضدة مما يتناقض جذريا مع المثل الأوربي الشائع في الفرسان الثلاثة لألكسندر دوما والذي يركز على الفداء الجماعي وذوبان الفرد في المجموعة التي تنتصر تحديدا نتيجة هذا الإنصهار، الأمر الذي يبدو ساطعا كذلك في الفيلم الرائع الفارس الأول حيث يتكرر نفس المثل القريب من الشعار: (الكل فداء للواحد والواحد فداء للكل)، ورغم المفارقات المذهلة التي يمر بها لانس فلوت الذي يلعب دوره الممثل الشهير (ريتشارد غير) في حبه لزوجة الملك أرتور، والذي اشتهر هذا الفيلم الرائع باسمه أحيانا، إلا أنه لا يخون العهد المذكور، وهذا الموقف تحديدا هو الذي يجعلهم ينتصرون على الطاغية، لأن هذه القيم الفادية والتوحد في المصير هو المقياس الأجمل والأنجع والأقدر.

وكما ترى الباحثة المبدعة جمانة طه في إطار أكاديمي شامل فإن الأمثال تعبر عن حكمة الشعب ، تلك الحكمة التي ترسخت كنتاج جماعي، وتلعب دور موجه ومعلم في كثير من الأحيان، ولهذا فهي تتقارب إلى حد التطابق أحيانا بين الشعوب كونها انعكاسا لتجاربهم الإنسانية، ونتيجة تلاقح الثقافات، ويذكرنا المثل الإنكليزي: بعدي لا تطلع شمس، بقول أبي فراس الحمداني إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر، وكذلك المثل الإنكليزي: كل امرئ يعيب زمانه على عثراته ، بقول الشافعي : نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا.

ومع ذلك فالأمر ليس بسيطا كما يبدو للوهلة الأولى حيث يقول قائل: إن هذه الأمثال بما في ذلك (ألف عين تبكي ولا عين أمي) هي انعكاس لواقع معاش.. هذا صحيح ولكنه واقع معاش في مفارقاته، والسؤال الذي يطرح نفسه أليس هناك مجتمعان أو عدة مجتمعات في مجتمع واحد، وإذا كنا نبرر لهؤلاء ما يمكن أن نسميه براغماتية، فلماذا يكون على الشرفاء والفرسان والأنقياء دائما دفع الضريبة حتى بالدم..؟؟ أليس في الواقع العربي انعكاس ساطع لهذه المفارقات .. بعض عليهم دائما أن يدفعوا ضريبة الدم للحفاظ على شرف الأمة، والآخرون المنسلخون عن هموم الوطن يتعللون أيضا دائما بمعطيات العصر والتغييرات التاريخية، وقد يتكئون على جراح الفادين ويستعيرون قطن جراحهم لتلميع أوسمتهم الواهمة كما يشير محمود درويش، وذلك في محاولة لجعل نتائج بطولات إولئك لصالحهم هم عند الضرورة، والكسب الإعلامي في التكتيك، أو على العكس تماما الطعن بمنطق البطولة والفداء واعتباره تهورا ووبالا وعبئا عندما تقتضي مصالحهم ذلك .

التراث الشعبي إذن بما في ذلك الأمثال ليس مجرد مرآة محايدة لما يعيشه ويعايشه هذا الشعب أو ذاك، بل هو انعكاس لهذه التناقضات التي تبدو بالغة الأهمية والتأثير في حومة الجنون السياسي لمصالح فئات محددة وفي ظروف بالغة التعقيد.

ألا يستطيع أي مواطن عادي بسيط أن يفرز ببداهة من يقف مع المثل القائل: (ألف عين تبكي ولا عين أمي) هنا وهناك، وبين: الكل لأجل الفرد والفرد لأجل الكل، أليس في التراث الشعبي الكثير الكثير من الأمثال التي تدل على الخداع وعقلية المؤامرة والنذالة والمصلحة الذاتية والخنوع والاستسلام والقبول بالواقع أيا كان: (كل عنزة معلقة من كراعيبها .. اليد التي لا تقدر عليها قبلها وادع عليها بالكسر، ليس في الإمكان أبدع مما كان.. العين لا تقاوم مخرزا ..) وهناك أيضا الكثير الكثير من الأمثال التي تعكس الفداء والشجاعة ورفض الذل والخضوع، وتسعى لتمجيد المآثر مما جرى في الشعر مجرى الأمثال القريبة من الحكمة كما يقول عمر أبو ريشه:

شرف الوثبة أن ترضى العلى………غلب الواثب أو لم يغلب

أو كما يقول عنترة :

لا تسقني ماء الحياة بذلة…………بل فاسقني بالعز كأس الحنظل

أوهذا المثل الرائع الذي يتجاوز في عمقه مسألة حصار الجوع نحو غنى الروح: (تأكل الحرة نهديها لا بنهديها).. أليس الجوهر في أن تكون الحياة جديرة بأن تعاش لا أن يكون العيش الذليل مطلبا.