ماياكوفسكي عاشقا

10004_bg

بقلم: أيمن أبو الشعر

تتكرس لدى الناس انطباعات غير دقيقة حول الشخصيات التي لها شهرة كبيرة في جانب محدد يطغى على نشاطاتها الأخرى حتى تبدو قريبة من الصفة المشبهة ، ويصعب على هؤلاء تخيل حالات إنسانية طبيعية جدا هي في جوهر شخصية وكينونة هذا العلم الشهير ، فللينين مثلا وهو قائد الثورة الإشتراكية حياته العاطفية وتجربته مع كروبسكايا ومع ذلك رصدت هذه العلاقة في معظم الأحيان لا من جوانبها الإنسانية الاعتيادية بل من كونه قائدا ثوريا غير وجه العالم، ولمانديلا أيضا تجربته الإنسانية العاطفية في حين يبقى لدى الناس رمزا لمكافح أمضى جل حياته في السجن، وللقادة العسكريين وللفلاسفة وخاصة المبدعين حياتهم العاطفية التي تغيب رغم غناها نتيجة طغيان السمة التي اشتهروا بها مما يشكل أحيانا مفراقة مذهلة، وكأنما حرام على القائد العسكري الفذ أو السياسي والثوري عموما حتى وإن كان شاعرا أن تكون له حياته العاطفية الخاصة.

وشاهدنا اليوم هو ماياكوفسكي الذي فاقت شهرته الآفاق كشاعر للثورة البلشفية وانتشرت قصائده التحريضية الثورية كالنار في الهشيم في المرحلة السوفييتية، إلا أن قصيدته المطولة مزمار الفقرات (التي ترجمتها كاملة في المجلد الأول من الشعر السوفييتي) ما تزال حتى اليوم الأكثر شيوعا وتداولا، وهو فيها ليس الشاعر الثوري الشهير بل عاشق من طراز عجيب يتفجر مشاعرا في رصد حبه العاثر. مر ماياكوفسكي بعدد من العلاقات العاطفية إلا أن حبه الأكبر كان مكرسا ومتوقدا أبدا لليلي بريك .. ورغم أنه اهداها العديد من قصائده إلا ان هذه القصيدة بالذات هي الأشهر والأجمل والأصدق والأكثر تعبيرا وخاصة من خلال صورها وتناقض توجهاتها عن حالته المشاعرية المتوقدة حتى الوله. في هذه القصيدة (التي من البديهي أننا لا نتناول سوى اليسير منها مما يخدم الفكرة المطروقة) يتجاوز ماياكوفسكي كل حدود ما اشتهر به كثوري ليبدو ولهانا ومعذبا يقارب حتى قيس بن الملوح – كما سنرى -. وهي من أروع القصائد الوجدانية العاطفية النوعية سواء من خلال الكشف الصريح شبه المجنون عن مكنون القلب أو من خلال بنائها التصويري الذي كان متجانسا إلى حد كبير مع هذه اللواعج التي تغدو حالات التصاعد والخفوت والصراخ والهجوم ثم الانهيار والاعتراف تعبيرا شفيفا عما عاشه في هذه التجربة المحرقية التي يرى البعض أنها كانت من بواعث انتحاره .

لقد وقع ماياكوفسكي في حب سيدة متزوجة هي ليلي بريك إلى درجة التمزق والضياع – نشير هنا إلى أن ليلي بريك هي شقيقة إلزا حبيبة الشاعر الكبير أراغون- . والملفت للنظر أن ماياكوفسكي – كما يفعل الكثير من الشعراء في حالات مشابهة – يهاجم حبيبته هذه بشكل رهيب جدا يدل في الواقع عن حب هائل بقدر حدة هذا الهجوم الذي يتلظى بنيران وجده، ولهذا يعلن أنه يعزف على مزمار عموده الفقري، فهو يعتبرها ساحرة شريرة لعينة، وهي فظة ومجرمة وجنيّة ومخادعة باعته بأثمال باريسية .!!.. بل يرى أن الله -عقابا له- خلق هذه المرأة وجعلها في طريقه ومنحها زوجا آخر (مما يذكرك بمجنون ليلى : قضاها لغيري وابتلاني بحبها ألا ليت ربي بغير ليلى ابتلانيا) .. ثم يطلب من الله أن يغير هذه العقوبة بأي نوع من التنكيل والتعذيب على أن يلغي هذا الحب من قلبه :

…علقني كمجرم جاعلا من نهر المجرة مشنقة

إفعل بي ما تشاء

إن شئت قطعني إربا .. ولكن ..

امحق هذه اللعينة التي جعلتها حبيبتي

وهذه البوئيما الوجدانية المتألقة تنتقل عبر الصور بفنية عالية وعفوية لتؤكد نقيض ما تدل عليه كلماتها وعباراتها من خلال رصد حالته وهو يلاحقها من مكان إلى آخر ومن مدينة إلى آخرى، وهي تتجلى له في كل حين حتى في أتون المعارك حيث سيكون اسمها آخر ما ينطق به ..بل إنه ينهار أحيانا في سياق هجومه وتشنيعه بها ليعترف بالنقيض من خلال صور يقذفها لا وعيه، فتبدو للوهلة الأولى نشازا في ذاك السياق الهجومي عندما يترك لقلبه أن يبوح لا لتمزقه واحتراقه :

فإن نـُصِبتُ قيصرا سآمر الناس

أن يصكوا رسم وجهك على

شمس ذهب عملتي

وهو حتى إن بات منفيا سيكرس ذكراها : سأنقش على السلاسل اسم (ليليا)

وكلما هدأت روحه قليلا بعيدا عن معاناته ولوجا بحنينه عاوده إحساسه بقسوة واقع أنها ليست له ليفجره من جديد، وعاودت صور التشنيع والهجوم حضورها لوصف حبيبته.. حتى القبلة لها قسوتها ومرارتها وبرودها :

وقدمتِ شفتيك .. كم أنت فظة بهما

لامستهما وشعرت ببرود

كما لو أنني أقبل بشفاه ميتة أحجارا باردة

ومن البديهي أن يشعر ماياكوفسكي بالانتقاص من شخصيته في هذه العلاقة، فهو الشاعر الكبير والأشهر آنذاك حتى عالميا، ومع ذلك غدت حبيبته زوجا لآخر باختيارها من هنا يحاول بين حين وأخر التعويض عن إحساسه بالهزيمة وفقدان الحبيبة معتبرا أنه هو الذي تخلى عنها، أو التعبير عن المفارقة في كونها اختارت غيره رغم عبقريته: لعلعت دماغك بخطوة العبقرية ومع ذلك لم أتمكن من انتزاعك. وحين يصل إلى نهاية ملحمته هذه لا يكون أمامه سوى توجيه الرسالة الجوهرية بعد فورة الجنون مقرا بأنها (الحميمة إلى قلبه) وكأن كل ماقاله عنها ووصفها به قد نسي فجأة:

يا سارقة قلبي ..يا معذبة روحي بالهذيان

تقبلي عربوني يا عزيزتي ..

لوني تاريخ هذا اليوم عيدا..

أبدع أيها السحر الذي يوازي الصلب

ألا تروا: بمسامير الكلمات مسمر على الأوراق أنا