الغجر قصيدة وطن اسمه الحرية

بقلم: أيمن أبو الشعر

من المشاريع التي أجهضت رغما عني لعوامل موضوعية مشروع إصدار مؤلف عن الشعر السوفييتي في ثلاثة مجلدات قسمتها بحيث يكون المجلد الأول عن الشعر الروسي ومدارسه وتيارته وأهم أعلامه، والثاني والثالث يعتمد توزيعا جغرافيا ثقافيا متقارب المشارب يشمل الدول الأخرى. وقد صدر المجلد الأول منه عن الشعر الروسي السوفييتي وعملت بضعة سنوات في إعداد وترجمة شعراء المجلد الثاني والثالث حسب ما أتيح لي لكن انهيار الاتحاد السوفييتي لم يفقد العمل صيغته الموضوعية وحسب بل ذهبت أدراج الرياح الاتفاقات التي أجريتها مع اتحادات الكتاب في تلك البلدان التي تحولت إلى دول مستقلة ولم يعد يرضيها في حومة تنامي المشاعر الاستقلالية أن يكون ما يكتب عنها في إطار مجموعة من الشعوب رغم أن التقسيم كان موضوعيا إلى حد كبير ..

والحقيقة أن هذه الرحلات العملية وهذه اللقاءات أغنتني أكثر بكثير مما يمكن أن أقدمه من خلال الترجمات والدراسات ذاك أن جانبا مما عشته آنذاك كان بعيدا عن الدراسات والترجمة والإعداد، ويدخل في حومة قصيدة الحياة والتألق الذي قد يصل أحيانا حدود اللامعقول إشراقا وتوقدا وفي كل بلد كانت هناك حكاية أتوقف اليوم عند تهويمة الغجر.

كنت منحازا روحيا إلى الأجواء الشاعرية لحياة الغجر باعتبارها قصيدة الانعتاق المطلق الذي يعز على الفهم أحيانا، وكل ما في مخيلتي عن الغجر في بلادنا مزيج من حياة البدو – وهذا تصور غير دقيق – وأغنية فيروز نحنا الغجر ننصب خيمنا بين الشجر… وبضعة أفلام سينمائية أبدع مخرجوها في تصوير هذه الحياة القصيدة من مثل اللوتارو، والقافلة تصعد إلى السماء والتي تصور جوانب محددة من هذه الحياة التي تعبق فيها الموسيقى ويستمر فيها الرقص حتى ثمالة الروح إلى جانب سرقة الخيول… حدث ذات يوم أن عزف هؤلاء على أوتار روحي حين دعاني رئيس اتحاد الكتاب في ملدوفيا الشاعر الجميل بوتسو – الذي نشرت تشرين بعضا من قصائده التي ترجمتها آنذاك – إلى رحلة نحو قبيلة غجرية .

قال لي: ينزلون غير بعيد وأنا أذهب إليهم في المكان الذي يختارونه موطنا مؤقتا كل بضعة أشهر أو سنوات.. أعد بوتسو كل شيء وانطلقنا نحوهم عند المساء ووصلنا بعد حولي ساعتين. مخيم يشبه إلى حد كبير ما رصدته كاميرات السينما: عربات وخيول وخيام ونار متقدة هنا وهناك بعض يعزف على الكمان وآخرون على الأوكورديون مع إيقاع آلات خشبية ومزامير صغيرة بألحان تفطر القلب .

قلت لبوتسو هؤلاء يقاربون المائة معظمهم من الأطفال والفتيات وقليل من الشبان والكهول كيف يعيشون كيف يأكلون؟ ما هي مهنتهم؟ أجابني الشاعر بوتسو: كل ذلك يمكن اختصاره بكلمة واحدة: الحرية، اليوم هم شعب ينقرض نتيجة الحدود والجمارك وجوازات السفر وهؤلاء وطنهم ليس جغرافيا بل الحرية .. إنهم كالأسماك أو الطيور لا يؤمنون بالمياه الإقليمية ولا الأجواء الوطنية .

تحلق القوم حولنا وأزادو في لهيب النار وبدا أنهم يعرفون بوتسو جيدا وأقاموا بما أحضره وليمة الشواء ودارت كؤوس الفودكا وانطلق المنشدون والراقصون والراقصات والعازفون نحو مجهول مطلق جميل أعمق مما يتحمله قلب تعود على المطارات، وعيون ألفت الشوارع والبيوت .. رقصت (داريا) حتى باتت إيقاعات قدميها تتمازج مع التراب الذي يرتفع حينا ويتهادى حينا آخر. فجأة قدم لي كهل وسيم غليونا بعد أن عب منه بسرعة جعله متقدا -ما يذكرك بقبائل الهنود الحمر- شكرته وسألته على الفور محاولا أن أتأكد من فهمي لما قاله لي بوتسو: يبدو لي انكم تشعرون بالضيق من اقتحام الحضارة فلا أوطان لكم مع ترسيم الحدود ..!! تنبه بوتسو وعرفني على الفور بزعيم القبيلة هامسا إنه أميّ تقريبا لكنه حكيم بالفطرة .. تابع الزعيم بابتسامة شاردة: نعم هذا مرهق ولكن أوطاننا تعيش في داخلنا ولن يستطيع أي ترسيم للحدود أن يدخل لوحات مقاييسه إلى قلوبنا ولن يسفلت أحد أرواحنا .. وطننا هو أن نعيش تقاليدنا وأن نستطيع أن نكون أوفياء للحرية والجمال. قلت في نفسي هذا كلام عام ورمزي رغم شاعريته .. نظرت إليه نظرة متسائلة فقال على الفور، أنت من أين، قلت له: إنني من سوريا – لم يعن له ذلك شيئا وتخيل أنني أقول له أنني سرياني – وأردف: أنت الآن إذن بعيد عن وطنك .. قلت له نعم أنا بعيد عن وطني فقال أما انا فأحمل وطني في قلبي حيثما سارت بنا الخيل وأقدامنا .. الوطن ليس مجرد جبال وأودية إنه الحب لهذه الجبال والأودية والسهوب والأفق .. فقلت له: أعذرني ولكنني لا أوافقك فالوطن هو جغرافيا أيضا ، فلفت رأسه نحوي بسرعة وقال: لم تفهمني أيها الضيف أنت تقول أنك بعيد عن وطنك ، ونحن نقول أننا لا نستطيع العيش بعيدا عن الوطن أينما كنا لأن الوطن هو الحرية نحن نعيش الطبيعة ولا نعيش فيها .. شعر بوتسو بأن الحديث أصبح حادا فحاول تلطيف أجوائه بتفسيرات وتصورات مخففة لكن الكهل تابع بنوع من الود: هل أقول لك شيئا؟ لماذا لا تقوم وترقص مع داريا إنها ابنتي نحن فقراء قل لها أنك غني جدا وأنك ستسكنها أجمل القصور.. إن مضت معك فأنا مخطئ وروحنا مخطئة ..ولكنها لن تفعل ذلك. وكرر بحسم الوطن هو الحرية.ذكرني ذلك بقصيدة ميسون البحدلية زوجة معاوية في حنينها لمضاربها في نجد وهي تسكن أروع قصور الغوطة:

لبيت تخفق الأرواح فيه…………أحب إلي من قصر منيف

وتذكرت ذاك النبيل الذي كاد أن يجن وهو يبذل لمعبودته الغجرية كل شيء – في فيلم القبيلة تصعد إلى السماء- لكي تتزوجه لكنها رفضت لأنها كانت تعيش قصيدة المطلق. كان صوت الكمان يزيد من الجراح الجميلة وكأنه يعزف على أوتار قلبك، وكانت النار تئن حينا ويتطاير شررها مزغردا حينا آخر، وقد كحل النعاس العيون التي كانت مصرة على حضور ولادة الفجر ونشيد الطيور المرافق.. الغجر إذن حالة جمالية خارج الزمان والمكان لأنهم يعيشون دائما زمنهم هم، ويملأون أحداقهم بسكب جمال الأمكنة، ويمضون بها حاضنين طي أعماقهم وطنا اسمه الحرية.