رسالة سهيل أدريس إلى سارتر

suheledrees

بقلم : أيمن أبو الشعر

رحل الأديب الكبير سهيل إدريس تاركا إرثا ثقافيا متميزا لا يمكن أن يرحل، سواء من خلال مؤلفاته الروائية والقصصية وترجماته العديدة، أو من خلال مواقفه الوطنية المشهودة عبر الكلمة، وكذلك من خلال الدور الكبير الذي لعبته مجلة الآداب منذ أواسط القرن الفائت حيث كانت بحق منبرا ثقافيا حرا وديمقراطيا، ناهيك عن أنها فتحت المجال لتواصل المبدعين العرب على صفحاتها بمختلف مشاربهم وتوجهاتهم الإبداعية والسياسية رغم دعمه الواضح للحداثة وحفاظه على توجهات الفكر القومي وخاصة الناصري.

التقيت بالأديب الراحل مرتين أو ثلاث، ولم تكن لقاءات مديدة، لكنها كانت كافية لتطبع بعض البصمات الجميلة في الروح، فقد كان سهيل إدريس دمثا لطيفا وذكيا إلى جانب كونه مثقفا كبيرا، واستطاع بنشاطه ودرايته وسمو ذائقته الفنية نشر عدد كبير جدا من الكتب القيمة والمجموعات الشعرية عبر دارالآداب للنشر . في بداية السبعينات كنت – وخاصة كشاعر شاب في تلك المرحلة – أحرص كما معظم شعراء جيلي على النشر في مجلة سهيل إدريس الآداب كونها كانت تحظى باحترام كبير لدى المثقفين العرب، وكانت الأكثر تألقا وانتشارا، وحين التقيت به للمرة الأولى سألته عن سر حبه الساطع لسارتر ، وما الذي شده إلى الوجودية فأجاب بما معناه أن كل إنسان وخاصة المبدع يحمل في تأملاته ظلالا وجودية حتى وإن كان يتبنى فكرا مغايرا ، و أردف بما معناه: لكن حبي لسارتر ينبع من تقدير كبير لكونه مفكر حرية ومعلما يدعو للأدب الملتزم بالإنسان وقضاياه، ومع ذلك عندما شعرت أن هناك موقفا حساسا قد يتخذه ولا يتناسب مع أطروحاته، كتبت له رؤيتي المغابرة والتي تتلخص في أن يمتنع عن الذهاب إلى إسرائيل لحضور مؤتمر هناك، وهذه الرسالة موجودة كافتتاحية في الآداب، وذكر لي العدد والعام تقريبيا، وكنت أحرص على اقتناء هذه المجلة قبل سنوات من بداية نشري فيها. أسعدت كثيرا بما قرأت فأنا شخصيا كنت مولعا بسارتر وكامو .

ومضت سنوات عديدة جدا كنت فيها خارج الوطن، وبعيدا عن المجلة الحبيبة الآداب أتابع بين حين وآخر بعض أخباره وأخبارها، وعندما قرأت في تشرين عن رحيله تذكرت تلك الرسالة التي بعث بها سهيل إدريس إلى سارتر فبحثت طويلا في مكتبتي إلى أن وجدتها في الآداب العدد الخامس أيار عام 1965 .ومن الواضح أن ما أتكئ عليه في تناول هذه الرسالة هو مجرد إشارة – ولكنها هامة – من العديد العديد من الإشارات والمواقف التي تحلى بها سهيل إدريس كأديب يدرك دوره ومسؤوليته .

بدأ سهيل إدريس رسالته بتوطئة ذكية من خلال تضمينها نسخة من مجلته ، وعلى غلافها صورة لسارتر وفيها حديث عن مواقف سارتر، وخاصة رفضه تسلم جائزة نوبل للآداب ، بعنوان تحية إلى سارتر وتنويه بأنه- أي سهيل إدريس- إضافة إلى نشره العديد من المواد عن سارتر في مجلته قام بنفسه بترجمة بعض اعماله إلى العربية .

وبعد أن كرس بهذه المقدمة مصداقية الحب والاحترام اللذين يكنهما له كجسر لطرح لاحق بالغ الأهمية، انتقل ليبين ما هو اعمق في هذه العلاقة وبواعثها في الترحيب العربي بالأدب الوجودي الذي يمثله سارتر خير تمثيل: (وغني عن القول أن أصل العلاقة التي تشد القارئ العربي إلى آثاركم إنما هو احترام عميق لفكركم الحر وشخصيتكم وموقفكم من قضية العرب في الجزائر …). وينقل سهيل إدريس في رسالته هذه مقتطفا من مقالة له تحت عنوان نحن وسارتر، والتي يشبه فيها حال الشعب الفرنسي بعد نكبة الحرب بالنكبة التي عاناها العرب في فلسطين: (ولعل شيوع هذا الأدب في وطننا العربي معزو إلى أن الأجيال العربية الجديدة تجد فيه ما يشبه التعبير عما تعانيه منذ كارثة فلسطين)

بعد كل ذلك يلج سهيل إدريس في الموضوع الذي من أجله كتب هذه الرسالة: (من أجل هذا ياسيدي العزيز، كان من الصعب علينا، إن لم نقل من المحال، أن نصدق النبأ الذي نشر في صحيفة اسرائيلية، والذي يقول: أن من المنتظر أن تحضر مؤتمر الفلاسفة الذي يعقد في إسرائيل يوم 4 نيسان القادم)

الذكاء الوقاد دفع بسهيل إدريس أن لايكتفي بما قدم من مسوغات لهذا الطرح، بل شعر ان عليه ان يقدم مسوغات ما بعد وضوح ما يريد، خاصة انه يعرف تماما أنه يوجه حديثه إلى أحد عمالقة الفكر في القرن العشرين. وهكذا ينطلق من التأكيد على منطق أن هذا الخبر لا يصدق نتيجة معرفة العرب لشخصية سارتر، هنا يركز على احتمال أن يكون الخبر عار عن الصحة .. ويلمح بمدى حساسية زيارة سارتر إلى إسرائيل فيضيف أن الخبر قد يكون لغايات دعائية، وأن العرب يتمنون أن يكون ذلك، حتى لا يمس التقدير الكبير الذي يكنونه لسارتر .

ويقلب سهيل إدريس الأمور من جميع الجهات، فماذا إن كان الخبر صحيحا؟ ولذا يتابع في تقديم المسوغات المتلاحقة التي تجمع بين الدبلوماسية المتأنية في الطرح وبين النداء المنطلق من الحب والاحترام، مركزا على أن لكاتب كبير مثل سارتر الحق الكامل في المشاركة في أي مؤتمر وفي أي مكان، ثم يقوم بانعطاف مفاجئ في محله، بمعنى نعم هذا مفهوم وصحيح: (ولكني واثق من أن تبصركم، والإحساس العميق الذي تملكونه لنفسية الشعوب يتيحان لكم كذلك أن تتبينوا إلى أي حد أصبح الشعب العربي حساسا بكل ما له صلة من قريب أو بعيد بقضية فلسطين)

ويجد إدريس الفرصة مناسبة لحديث مكثف مختصر عن مدى معاناة الشعب الفلسطيني من ظلم لم يشهد التاريخ له مثيلا مبينا أن المكان الذي سينعقد فيه المؤتمر لا يمكن أن ينفصل عن قرينته السياسية. ولكي لا يخدش مشاعر مفكر عالمي كبير كسارتر يستنطق أحد أهم الجسور للوصول إلى مقصده، حيث ينوه لسارتر بأنه: أي سارتر بالذات هو من علم الناس في مؤلفاته أن أسلوب أي كاتب يلزمه ويجعله (في موقف) أي صاحب موقف.

إثر ذاك يبدأ سهيل إدريس بطرح تصوراته بوضوح ومباشرية حول انعكاس زيارة كهذه في نفوس العرب الذين هم في صراع مع إسرائيل إلى أن يعود اللاجئون إلى أراضيهم، وأن المثقفين العرب يأملون بدعم أكبر مفكر في القرن العشرين لكفاحهم من أجل غد أفضل .

ولكي لا يبدو في الأمر أي ملمح عنصري ينوه وبألمعية رهيفة بأن ما كتبه سارتر في مؤلفه (تأملات في القضية اليهودية) كان عن اليهودي كإنسان مظلوم في مراحل محددة مذكرا سارتر بأنه لم يناد في يوم من الأيام بخلق دولة غاصبة.

ويختتم سهيل إدريس رسالته بتوجيه دعوة إلى سارتر لزيارة بيروت مشيرا إلى أنه كمصداقية لما يقول سيأخذه في جولة إلى مخيمات الفلسطينيين لشاهد الواقع المأساوي بنفسه.

أديب عربي كبير يكتب إلى مفكر عالمي – فرنسي – عملاق وفي قضية كبيرة، كان ذلك قبل أكثر من أربعين عاما ولم تكن إسرائيل قد احتلت المزيد من الأراضي العربية، ولم تكن قد شردت المزيد من الفلسطينيين ولم تكن قد قامت بمزيد من المجازر والقصف والدمار والاعتداءات .. وكل الدلائل تشير إلى أن الرسالة قد فعلت فعلها وأن سارتر لم يحضر ذاك المؤتمر .. هل ننتظر اليوم ان تتوجه رسائل من كتاب وأدباء أجانب إلى بعض المثقفين العرب الذين يتباهون بزيارة إسرائيل؟ .

تحية إلى ذكراك أيها – السهيل إدريس – يامن عاش حياته مدافعا عن الأدب الحر والمسؤول تحية إلى دورك الثقافي الذي لا ينسى.