بقلم: أيمن أبو الشعر
– الاعتراف بأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وحد القوى السياسية الروسية ورفع وتيرة المشاعر الوطنية
– الوضع الناشئ سيضع واشنطن والناتو أمام واقع إعادة انتشار القوات الروسية خلافا لمعاهدة باريس
– الشعب الروسي بدأ يكشف زيف الشركاء الأمريكيين مما يرهص لسقوط أوهام الشراكة
– الناتو وواشنطن بحاجة لروسيا أكثر من احتياج روسيا لهما
أميل إلى الاعتقاد بأن قرار الرئيس الروسي مدفيدف بالاعتراف بأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية كدولتين مستقلتين كان صفعة طال أمد استحقاقها تجاه سياسة العنجهية التي اعتمدتها واشنطن وحلفاؤها منذ انهيار الاتحاد السوفييتي ،وهو ما يفسر هذا الإجماع الشامل في البرلمان والشارع الروسي بجميع قواه السياسية على تأييد هذا القرار .
مجسات لا بد منها لفهم ما جرى وآفاقه
أبخازيا بلد صغير تقل مساحته عن مساحة لبنان قليلا، وعدد سكانه لا يصل إلى مائتي ألف نسمة لكنه بلد سياحي بامتياز ،ومعظم الذين عاشوا ردها من الزمن في الاتحاد السوفييتي السابق قضوا مرحلة الاستجمام في شواطئه وأنا منهم .. وأوسيتيا الجنوبية بلد أصغر تقارب مساحته نصف مساحة أبخازيا وكذلك السكان .. وهو بلد فقير عموما يعتمد على الزراعة وبعض الصناعات الخفيفة ومعظم سكان هاتين الجمهوريتين من الروس .. الذي حدث هو أن انهيار الاتحاد السوفييتي صعـّد من النزعة الشوفينية لدى بعض جمهورياته – ليس دون مساهمات دعائية وبسيكولوجية محمومة من واشنطن والغرب – وبالمقابل أخاف الشعوب الصغيرة في الجمهوريات ذات الحكم الذاتي لأن مواطنيها كانوا يعتزون بكرامتهم وفق انتمائهم إلى دولة عظمى هي الاتحاد السوفييتي، وشعروا فجأة بأن مصير المواطن من الدرجة الثانية او الثالثة هو الذي ينتظرهم في الانتماءات الجديدة التي تغيب حقوقهم ، فنشأت بؤر توتر ونزاعات مسلحة في عدد من المناطق كبريدني ستروفي في ملدوفيا، وقره باخ بين أرمينا وأذربيجان ،وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية مع جورجيا، وهو ما يعنينا هنا – ناهيك عن إشكالات تحت الرماد بالنسبة لشبه جزيرة القرم التي تحتاج إلى وقفة متأنية خاصة .
غطرسة القيادات الجورجية واللغم الأمريكي
الشعب الجورجي شعب طيب جميل المعشر في علاقاته مع الآخرين ، ولي مع مثقفيه تجارب وذكريات رائعة. ولكن القيادات المتطرفة أشعلت الفتيل بداية التسعينات من القرن الفائت حيث رفع أول رئيس لجورجيا بعد انسلاخها عن الاتحاد السوفييتي وهو غمساخورديا شعار جورجيا للجورجيين، وأرسل قواته إلى أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية ملغيا حتى الحكم الذاتي، وأسفرت الحرب الأهلية تلك عن سقوط آلاف الضحايا وعشرات آلاف النازحين وخراب ودمار هائلين. وللحقيقة فإن موسكو لعبت دورا هاما مع فصائل المقاومين والمتطوعين من جبال القفقاس في ردع هذه العنجهية لتبدأ مرحلة جديدة لقوات حفظ السلام الروسية بتفويض من رابطة دول التجمع ومن ثم بمباركة دولية ..كانت تلك الهزيمة النكراء بداية التسعينات للقوات الجورجية جسرا أتاح لشفرنادزة الإطاحة بغمساخورديا بمساهمة جدية من المخابرات الأمريكية – ليس هذا الأمر موضع اهتمامنا الآن – لكن شفارنادزة انجز المرحلة الوسيطة للاتكاء على الدعم الأمريكي، وحين نضجت الظروف الموضوعية باعته واشنطن بثمن بخس،ودعمت سآكاشفيلي المدروس جيدا من قبل أجهزتها ومؤسساتها فيما عرف آنذاك تمويها بثورة الورود ، وهي في الواقع تسعى لزرع لغمها الاستراتيجي وربما تثبت الأيام انها مستعدة أيضا لبيع سآكاشفيلي بثمن بخس أيضا.
تلميذ نجيب للأمريكان مورط لشعبه وشركائه
جاء سآكاشفيلي حاملا مشروعا أمريكيا ناتويا واضحا تماما من أهم عناوينه استعادة الجمهوريات الثلاث أدجاريا وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية (لأدجاريا وضع استثنائي يمكن أن نتناوله في مقالة مستقلة)، وبدأت مرحلة عصيبة بالنسبة لقوات حفظ السلام الروسية شهدت ليس التحرشات فقط بل والاختطاف والاعتقال والقتل للضباط الروس والاعتداء بعمليات استعراضية، ترافق ذلك مع دعم بغير حدود من واشنطن والناتو بما في ذلك تسليح مفرط للقوات الجورجية وتدريبها وتقديم المعونات العسكرية حتى دون مقابل ، وكانت موسكو تحذر دائما ومرارا من خطل هذه السياسة دون جدوى واستمرت حتى في الوقوف على الحياد والإقرار بوحدة وسيادة الأراضي الجورجية الأمر الذي ركز عليه الرئيس مدفيدف حتى في بيان الاعتراف باستقلال أبخازيا واوسيتيا الجنوبية ، لكن استمرار دعم واشنطن والناتو للمغامر خلـّف ذيولا لا بد من دفع أثمانها .وتدل الأحداث أن سآكاشفيلي ورط شعبه وقواته المسلحة ومؤسساته الحكومية بوهم قاتل ، وهو اليوم يحاول توريط الناتو والولايات المتحدة في مغامرة أكبر تتناسب حاليا مع الحملة الانتخابية الأمريكية للجمهوريين. والحقيقة ان أي عاقل لا يخامره شك في أن الهجوم الجورجي على أوسيتيا الجنوبية تم ليس بمباركة أمريكية وحسب بل وبتنسيق وتخطيط أمريكيين، والهدف الحقيقي ليس إخضاع الجمهوريتين – العاصيتين حسب التعبير الجورجي – أي ما يريده سآكاشفيلي ، بل أبعد من ذلك بكثير حيث أعلنت الولايات المتحدة منذ سنين أن هذه المنطقة تدخل في جوهر مصالحها القومية، وخاصة بعد إقرار وتنفيذ مشروع أنابيب باكو تبليسة جيحان من بحر قزوين إلى المتوسط بمساهمة أمريكية كبرى لتجاوز وتهميش الخط الروسي التقليدي من قزوين نحو نوفوروسيسك، واستكمالا لحصار روسيا من خاصرتها الجنوبية . ويرجح الخبراء بمن فيهم راغوزين ممثل روسيا الدائم لدى الناتو أن الشركاء الأوربيين ليسوا على علم – واضح – بالمخططات الأمريكية وهو أمر سيتجلى في تباين المواقف الأوربية لاحقا ، ويلفت النظر في الأيام القليلة الماضية أن القوات الروسية اعتقلت مجموعات مسلحة جورجية كانت تستخدم سيارتين عسكريتين من نوع هامرالأمريكية في منطقة النزاع الدامية واكتشفت فيهما أجهزة اتصالات متطورة، وسارعت واشنطن للمطالبة باستعادتهما ، ناهيك عن كشف وجود خبراء ومرتزقة أجانب وأسلحة أجنبية بما في ذلك أسلحة إسرائيلية .
من أهم التداعيات على الصعيد الداخلي والإقليمي:
– أن روسيا أفهمت واشنطن والناتو أن اللعب على حبال الخطوط الحمراء لن يمر وفق سيناريو واشنطن كونه يمس المصالح الروسية الأمنية العسكرية الاستراتيجية وأمن مواطنيها بشكل مباشر.
– أن ردع القوات الروسية للقوات الجورجية ودحرها السريع ثم الاعتراف بأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا أفهم تلك القوى وخاصة التي توحدت فيما يسمى بمنظمة – غوام – والتي تضم ملدوفيا وجورجيا وأوكرانيا المعادية لروسيا بأن الدعم الأمريكي والناتوي لن يجدي فتيلا عندما تكون المصالح الروسية العليا في كفة الميزان، ومن أولى هذه النتائج أن الرئيس الملدوفي فورونين سارع للقاء الرئيس الروسي في سوتشي قبل أيام مقرا بأن حل مشاكل النزاع يجب أن يتم عن طريق الحوار السياسي حصرا.
– الوجه الآخر هو أن الأوساط الأمريكية والناتوية حاولت العزف المعاكس محذرة من أن روسيا لن تتوانى عن استخدام القوة لحل النزاعات وبالتالي فعلى الدول التي تعاني من إشكاليات من هذا النوع الانضواء تحت جناح واشنطن والناتو، لكن الدرس في جورجيا كان أكبر من التصريحات حتى التي جاءت على لسان رايس التي تصر حتى الآن بأن أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية جزء لا يتجزأ من جورجيا أو تشيني الذي أعلن أن تصرفات روسيا لن تمر دون عقاب ..!!.
– الاعتراف بأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية ترافق مع إيضاح الرئيس الروسي مدفيدف بأن موسكو ظلت طيلة السنوات السابقة ملتزمة حتى بوحدة أراضي جورجيا ، وحافظت على دورها كوسيط وضامن لحفظ السلام، لكن سآكاشفيلي اعتمد خطا آخر أدى إلى تلك النتائج بمعنى: يداك أوكتا وفوك نفخ ، وهذه النتيجة ستنعكس بشكل حاد ومتسارع على الأوضاع الداخلية في جورجيا نفسها مهما حاولت واشنطن مساعدة الرئيس الجورجي في إزالة هذه الصفعة وهذه الهزيمة النكراء بعد أن انهارت وعوده باستعادة أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية بأقرب وقت، مما يعني ان العد التنازلي لسقوط نظامه قد بدأ واقعيا خاصة مع تصاعد الأصوات الجورجية المطالبة بالتحقيق في هذه الأحداث وحقيقتها ، او تحوله إلى بينوتشيت ثان .
– قرار كهذا وحد القوى السياسية الروسية بجميع أطيافها الأمر الذي يعكسه قرار البرلمان ومجلس الشيوخ بالإجماع، وحفز الشعور الوطني وفضح زيف الشركاء الأمريكيين مما يرهص لسقوط هذه التأثيرات والأوهام داخل المجتمع الروسي نفسه وخاصة لدى الشريحة العسكرية التي اكتشفت قبل غيرها زيف الشريك الذي يحمل خنجره وراء ظهره بتوسع الناتو والدرع الصاروخية الأمريكية ..
– الاعتراف بأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا من شأنه أن يمهد لاتفاقيات ومعاهدات أمنية عسكرية تأخذ روسيا خلالها بعين الاعتبار الواقع الجديد الذي يفترض ضمان التوازن مهما بالغ الناتو وواشنطن بدعم جورجيا وإعادة تسليحها ، وهذا سيعني إعادة نشر القوات الروسية بما يتناسب والوضع الناشئ في المنطقة مما سيخلق إشكالات جدية لمعاهدة باريس حول تحديد الأسلحة التقليدية من الأطلسي حتى الأورال، والتي لروسيا ملاحظات جمة عليها نتيجة اختلاف الواقع الموضوعي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ، وعدم مصادقة دول الناتو على ملحقاتها واضطرار روسيا لتجميد العمل بها، وبهذا المعنى ستكون يدها مطلقة في هذا التوزيع الجديد.
– من الواضح تماما أن الدرس بهذا الاعتراف والأجواء السابقة والمرافقة لم يكن لجورجيا وحدها كربيبة لواشنطن، بل هو كذلك لأوكرانيا التي ذهب رئيسها بعيدا في دعم التوجهات الأمريكية والناتوية لجورجيا فقد كانت معظم الدبابات التي صادرتها القوات الروسية إبان أحداث أوسيتيا الجنوبية من صنع أوكراني ناهيك عن صواريخ إس 200 التي كان وراء منصاتها خبراء أوكرانيون، كما أنه حاول إعاقة الأسطول الروسي بقرارات همشتها موسكو كأنها لم تكن بالنسبة لتحركات سفنها من ميناء سيفاستوبل في القرم، وإن استمر يوشينكو في خطه هذا فإن موسكو تستطيع خلال أيام فقط دفعه للصراخ ومعه الشركاء الغربيون بإغلاق خطوط ضخ النفط والغاز، ناهيك عن احتمال اشتعال أزمة انتماء القرم ذي الغالبية السكانية الروسية واحتمال تمزق أوكرانيا إلى شرقية وغربية ..
– بهذا المعنى يبدو ان موسكو درست الأمور من جميع وجوهها ومن هنا جاء قرارها حاسما ومنيعا وغير قابل للنقاش فهي – كما قال راغوزين ليست بحاجة للناتو بقدر احتياج الناتو لها .
هذه التداعيات الداخلية الإقليمية سواء بالنسبة لجورجيا أو روسيا لا تعني أن الرياح ستجري حتما وفق ما تشتهي السفن الروسية تكتيكيا واستراتيجيا، فهناك التداعيات الدولية وستواجه روسيا ظروفا صعبة للغاية في علاقاتها مع الغرب وستخل حيثيات هذه المعضلة في حسابات الانتخابات الأمريكية والمحافظين الجدد ومنطق الصقور، وكذلك الديمقراطيين إذ لاخلاف كبيرا بينهما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية وهناك آفاق حسابات أوربا واحتمالات الشرخ بين اوربا وواشنطن، ولكن ذلك موضوع آخر تماما يحتاج إلى وقفة متأنية من زاوية أخرى أيضا، فلعبة شطرنج من هذا النوع لا تختصر ببيدق مغامر ولا حتى بفيل أرعن وفق توازنات العالم الجديد الذي بدأ يفلت من أصابع البنتاغون في لعبة لا يحمل قاموسها عبارة كش مات.. والأهم في هذا وذاك أن روسيا أفهمت (الأعدقاء) أنها تدرك جيدا قوانين لعبة الشطرنج الدولية هذه.