روسيا أحرقت حصان طروادة الأمريكي في تسخينفالي

بقلم: أيمن أبو الشعر

روسيا تستعد لإنشاء ثلاث قواعد عسكرية ضاربة في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا

شخصيات أمريكية: موقف الغرب منافق، وواشنطن سمحت لإسرائيل بقصف همجي على لبنان أكثر من 30 يوما

الشركات الأوربية لن تكون مرتاحة لدفع ضريبة قرارات سياسية لفرض عقوبات على روسيا

أسفرت لعبة الساعات القلائل التي عربدت فيها العنجهية الأمريكية في شمال القفقاس –عدا عن الضحايا- عن نشوء واقع جديد أرهصت لظهوره المغامرة العسكرية التي قام بها ربيبها سآكاشفيلي الذي سيغدو عبئا على واشنطن والناتو على حد سواء أكثر بكثير من دوره كجسر حربة ضد روسيا، إذ لم تترك هذه المغامرة أمام موسكو سوى وضع نقاط بالغة الحساسية والحسم على حروف مستقبل المنطقة، وفي حال تنامي التناحر على حروف وخطوط خارطة مستقبل العالم ..دون مبالغة ..

خطوات اقتحامية ونتائج معاكسة

رغم التصريحات الأمريكية والغربية التي تشبه الصراخ في ليل سديمي إلا أن الواقع الجديد بدأ يعبر عن نفسه بقوة رغم مخاطره الاستثنائية التي تلغي احتمال وقوعها لمدى هولها.. وليس خافيا على أي متابع أن واشنطن قامرت على ورقة سآكاشفيلي لجعل جورجيا ليس فقط قاعدة متقدمة في المنطقة بل ومنصة لاحتمال ضرب إيران بما يتناسب والمآرب الأمريكية والإسرائيلية ، وكذلك للتوغل في شمال القفقاس وعبره نحو روسيا. ومما له دلالته أن لجورجيا علاقات متميزة جدا مع إسرائيل التي يعيش فيها قرابة 70 ألف جورجي يهودي بل إن جدة شاروون مدفونة في العاصمة الجورجية تبليسة، وبعض الوزراء الجورجيين كانوا يعيشون في إسرائيل ، هذا الإحراج المفضوح سعت إسرائيل لتخفيفه عبر إعلانها وقف توريد أسلحتها إلى جورجيا – بعد فوات الأوان – ويرجح ان يقوم أولمرت بزيارة إلى موسكو قريبا في محاولة لتخفيف وقع المساهمة الإسرائيلية ولكنها ستكون زيارة باهتة النتائج مسبقا لرئيس حكومة يحزم حقائب رحيله لا عن رئاسة الوزارة وحسب بل وعن رئاسة كاديما. وكانت إشارة السيد الرئيس بشار الأسد في الربط بين ما يجري في القفقاس والشرق الأوسط ذكية وفي محلها تماما عمق من مصداقيتها تصريحات سآكاشفيلي نفسه حول فعالية ونجاعة الأسلحة الإسرائيلية في مواجهة القوات الروسية بما في ذلك تأكيده لصحيفة هآرت أن الحرب والسلم في جورجيا بيد يهود إسرائيل مثنيا في غضون ذلك على الدور الذي لعبه الوزراء والعسكريون الإسرائيليون . كل ذلك يلقي بظلاله حتى على خلفيات مشروع الشرق الأوسط الكبير ،ومن الواضح أن الولايات المتحدة لم تكن تتوقع أن تحسم موسكو الأمر عسكريا بهذه السرعة والأرجح أنها كانت تود أن يبقى فتيل النزاع المسلح مشتعلا كبؤرة توتر يفضي إلى إجراءات اخرى تفرض رويدا رويدا حالة الأمر الواقع وفق المنظور الأمريكي – وبهذا المعنى تكون موسكو قد أحرقت حصان طروادة الأمريكي داخل تسخينفالي، وأفشلت خطة أوليسيز المعاصر مع المفارقة في جوهر التشبييه بين حيثيات الأسطورة والواقع وطبيعة الشخصيتين .وهذا من أهم النتائج المعاكسة للاقتحام الجورجي بمباركة أمريكية حسب بوتن الذي أوضح أن التمشيط لمنطقة الأحداث أظهر دون شك وجود ظلال أمريكية مباشرة. والمهم ليس أن تقر واشنطن أو تنفي هذه الحقيقة بل أن موسكو باتت تدرك هذا الواقع تماما ووفق معطيات موثقة وهذا يعني الكثير.

على الصعيد الاقتصادي

زوبعة الإعلانات عن ضرورة فرض عقوبات على روسيا ستتراجع جديا أمام حسابات الخسارة والربح للطرفين، وهو ما يفسر تصاعد أصوات أوربية تدعو لمتابعة الحوار مع موسكو لا إحراق الجسور رغم الانحياز الواضح الذي عبر عنه الاتحاد الأوربي مؤخرا إبان مناقشة الوضع الناشئ من خلال جعل القضية تقف على رأسها لا على قدميها.ولروسيا تجربة غنية في مجال الإنحياز الأمريكي التعسفي ضدها من هنا فإن دعوة بعض الشخصيات الأمريكية لعدم إلغاء ما يسمى بتعديل فينيك جاكسون الذي يفرض عقوبات اقتصادية على روسيا مثير للضحك بالنسبة لموسكو حيث ظهر هذا التعديل عام 1974 – إن لم تخني الذاكرة- لمعاقبة روسيا بحجة تضييق الاتحاد السوفييتي على هجرة مواطنيه إلى الخارج – المقصود اليهود – وقد جاءت مرحلة غورباتشوف ومن ثم يلتسن وسياسة الانفتاح عموما لتفتح باب الهجرة على مصراعيه وخاصة نحو إسرائيل ، لكن العقوبات استمرت عشرات السنين وحتى الآن..!! يدخل في هذا الإطار تصريحات وزير التجارة الأمريكية كارلوس غوتيريس حول أن الأحداث الأخيرة ستجعل مسار انضمام روسيا إلى منظمة التجارة العالمية في خطر، ولكن الأمر معقد أساسا بتأثير مباشر من واشنطن وسبق لروسيا مرارا أن طالبت بالكف عن المعايير المزدوجة في هذه المسألة وشددت على ضرورة التحلي بالموضوعية والتكافؤ في معالجة شروط الانضمام ، بل ولجأت مؤخرا إلى إلغاء بعض الاتفاقات مع المنظمة انطلاقا من كونها ضارة بمصالحها الوطنية كتخفيض استيراد اللحوم والدواجن الأمريكية( التي تسمى في روسيا سيقان بوش ) لعدم تناسبها مع المواصفات الصحية، ونافل أيضا الحديث عن إيقاف التعاون في مجال الطاقة الذرية فروسيا دولة نووية عظمى وليست بلدا يدخل النادي النووي حديثا ، وخطوة كهذه ستتيح لروسيا العمل على المسرح الدولي بحرية أكبر خاصة أنها بدأت بإنشاء مركز دولي لانتاج الوقود الذري للأغراض السلمية معلنة أن الحصول على هذا الوقود سيكون لجميع الدول الراغبة دون استثناء ، ومن المؤشرات التي لها دلالتها أن زيارة العاهل الأردني الأخيرة إلى موسكو – إثر الأحداث – تناولت حتى مثل هذا التعاون مع موسكو وكما يقال الحبل على الجرار.. رغم احتمالات المخاضات العسيرة.

على أن تصاعد الرغبة في معاقبة روسيا وتقييم الوضع باعتبارها معتدية.!! ليس أحادي الجانب حتى داخل الولايات المتحدة ذاتها حيث أعلن باتريك بيوكينين المرشح السابق للرئاسة الأمريكية في حوار مع قناة روسيا اليوم باللغة الإنكليزية أن موقف الغرب من أحداث أوسيتيا يتسم بالنفاق، وأن جورجيا بدأت الحرب وروسيا أوقفتها، وردا على اتهام روسيا باستخدام القوة المفرطة ذكـّر بأن واشنطن سمحت لإسرائيل باستخدام القوة المفرطة جدا وقصف لبنان أكثر من ثلاثين يوما، واتخذ ارميتاج أحد الشخصيات الأولى في الخارجية الأمريكية سابقا موقفا مقاربا منوها بأن سآكاشفيلي لم يكن ليقدم على مغامرته العسكرية دون إحساسه بالدعم الخارجي .

وإذا كانت دول البلطيق – وبريطانيا – متحمسة جدا للعقوبات ضد روسيا ودفع واشنطن وأوربا إلى مزيد من التناحر معها انطلاقا من بواعث بسيكولوجية يمكن إدراكها – مع رفضها -، فإن أوربا نفسها لا تستطيع الركون لهذا الحماس وهي تعي ما تعنيه القطيعة مع روسيا بالنسبة لمصانعها ومجمل احتياجياتها(وخاصة مع اقتراب الشتاء) لمصادر الطاقة الروسية والمشاريع العديدة الجديدة قيد التنفيذ لضخ النفط والغاز الروسيين وحتى الكهرباء إلى أوربا بما في ذلك المشروع الكبير لضخ مصادر الطاقة الروسية من الشمال عبر قاع البلطيق نحو أوربا وخاصة ألمانيا هذا المشروع الذي يترأسه المستشار الألماني السابق شرويدر – والذي عبر بالمناسبة عن تفهمه للموقف الروسي – .كما عبر الرئيس الإيطالي السابق السيناتور فرانتشيسكو كوسيفا كذلك عن تفهمه للموقف الروسي منوها بحق الشعوب في تقرير مصيرها .نذكر هنا بأن حجم التبادل التجاري بين روسيا والاتحاد الأوربي يعد بمئات مليارات الدولارات ويشكل 50% من مجمل التبادل التجاري الروسي الخارجي وهذا أمر حساس جدا بالنسبة لموسكو لكنه حساس جدا أيضا بالنسبة للدول الأوربية ، وخاصة ألمانيا وفرنسا وإيطاليا ذاك أن قسما كبيرا من هذا التبادل هو مشاريع كبرى بتمويل مشترك وصادرات إلى روسيا ولن تكون الشركات الأوربية مرتاحة لأن تدفع من أرباحها ضريبة قرارات واضحة التوجه السياسي وبإملاءات من واشنطن حتى ان بوتن سخر بوضوح من هذه التبعية المذلة منوها في حوار مع قناة تلفزيونية ألمانية بأنه ربما يتحتم على موسكو إن تبحث شؤون علاقاتها مع أوربا في واشنطن وليس مع الأوربيين ..

التشظيات العسكرية المحتملة

كان بديهيا أن يعاود الغرب وواشنطن تعميق التناحر بين موسكو وكييف التي ترى فيها الولايات المتحدة (وكذلك بريطانيا بشكل خاص) أحد فكي الكماشة المستقبلية الناتوية حول روسيا وقد بدأ مثال كييف يعبر عن نفسه مباشرة من خلال وعود بتقديم دعم عسكري تقني بقيمة مليار دولار ولكن الرئيس يوشينكو ليس بأحسن حال في موطنه من سآكاشفيلي ، وشعبيته تردت إلى حد مخجل، ولا يستبعد أبدا أن يكون هذا الدعم مؤشرا معاكسا بالنسبة لقسم كبير من الشعب الأوكراني بحيث يرهص ذلك لرحيله المبكر، والغرب يدرك مدى مخاطر اللعبة مع أوكرانيا ضد روسيا على المدى الاستراتيجي من جميع الجوانب بما فيها العسكرية. من جهة ثانية فإن التلويح بالقبضة العسكرية من خلال تواجد قطع الناتو في البحر الأسود لن يعدو- رغم مخاطره الظاهرية- عن كونه فقاعة صابون مؤقتة وستنهار هذه الاستعراضات التي تهدف لدعم معنويات القيادة الجورجية وتشكيل ضغط بسيكولوجي على موسكو بعد حين ذاك أن هذه السفن لن تستطيع البقاء في البحر الأسود طويلا وفق الاتفاقات الدولية، وهي لم تحصل على تفويض من مجلس الأمن وحتى إن سعت واشنطن لذلك فإنها ستواجه بالفيتو الروسي ، زد على ذلك كله أن الداوائر الروسية المختصة – كما توقعنا في مقالة سابقة – بدأت خطوات عملية لتوقيع اتفاقات تعاون وصداقة مع أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية بما في ذلك في المجال الأمني والحديث يدور – حسب زاتولين نائب رئيس لجنة الدول المستقلة في البرلمان الروسي – حول إنشاء ثلاث قواعد عسكرية روسية اثنتان في أبخازيا وواحدة في أوسيتيا الجنوبية بما في ذلك قوات المظليين وقوات جوية وقوات بحرية وقوات مشاة مؤللة وقوات دفاع جوي وقد يصل عدد هذه القوات إلى عشرة آلاف عسكري ..كما نبهت هذه الأحداث موسكو إلى ضرورة إيلاء اهتمام جدي بآسيا الوسطى خاصة مع وجود القوات الناتوية والأمريكية في أفغانستان المتصلة جغرافيا بطاجكستان ، والعراق غير البعيدة عن آسيا الوسطى والقفقاس، وقد تم الاتفاق قبل أيام بين الرئيس الروسي ميدفيدف والرئيس الطاجيكي رحمونوف على استخدام مطار غيسار لصالح القوات الروسية مما سيكون دعما إضافيا للقاعدة العسكرية الروسية – كانت – في قرقيزيا والتي لا تبعد سوى ثلاثين كيلومترا عن قاعدة – ميناس – الأمريكية هناك لإمداد قوات التحالف في أفغانستان.. ومن البديهي أن تثير تحركات موسكو الأمنية العسكرية حفيظة الناتو وواشنطن- التي قد تلجأ قبل رحيل إدارة بوش لقرارات مجنونة أحادية بعيدا عن مجلس الأمن – لكن روسيا حسب تصريحات بوتن عندما توضع في خيار بين الحفاظ على حياة الناس وتسويق المارتديللا الروسية فإنها دون شك ستختار حياة الناس. من جهة ثانية لا يستبعد أبدا أن تعمد واشنطن إلى توقيع اتفاق مع جورجيا لإنشاء قاعدة عسكرية فيها يدرك المحللون العسكريون سلفا أنها ستكون أضعف بكثير من القدرات الروسية في البحر الأسود الذي تساحله روسيا بشكل مباشر مما يؤمن الإمدادات اللازمة من العمق الروسي نفسه.

بقي أن نشير إلى أن استمرار واشنطن والغرب باستخدام المعايير المزدوجة أعطى روسيا فسحة للسخرية اللاذعة وحتى التهكم المهين لهذه المواقف حيث سخر ممثل روسيا الدائم في مجلس الأمن تشوركين من مواقف أعضاء مجلس الأمن قائلا بأنه لو قيض لكائن فضائي أن يحضر مناقشة أحداث أوسيتيا لتوقد قلبه فخرا بتلك المواقف المدافعة عن المعايير الشرعية والقيم الإنسانية – يقصد العكس تماما – ولم ينس التهكم الحاد على ما قاله المندوب الأمريكي بشأن احترام سيادة الدول وعدم التلويح بالقوة سائلا إياه بشكل مسرحي واضح : ما ذا هل وجدتم أسلحة دمار شامل في العراق أم ما زلتم تبحثون ؟؟ مذكرا بغطرسة واشنطن التي تلجأ دائما للتهديد بالقوة وبمسح دول بكاملها عن وجه الأرض..!!