بقلم: أيمن أبو الشعر
عندما يدرك الإنسان أنه يمارس شرورا تسيء إلى الآخرين ويتابع نهجه الشرير يدخل – إن كان فيه ضمير حي أو بقايا من ضمير- في صراع مع الذات ويشعر بتأنيب داخلي حينا بل وبالعذاب الروحي المرير أحيانا بقدر ما يصحو الضمير وبحجم تلك الآثام والشرور وانعكاساتها وخاصة إن كانت مأساوية مريرة على ضحاياه . وقد سطرت روائع الأدب العالمي صفحات عميقة الغور في رصد هذه الظاهرة المَرضية عبر الزمن مبرزة جوهر هذا الصراع الداخلي الذي كثيرا ما يتوارى خلف مظاهر كاذبة براقة وذلك في محاولة من هؤلاء المبدعين لفضح هذه النماذج المدمرة في الوسط الاجتماعي .
وبغض النظر عن التفاوت في طبيعة ومحاور التناول لهذا الكائن الداخلي الآخر إلا أن معظم الذين تألقوا في السبر النفسي رأوا أن أدق وصف له هو الشيطان الماكر العربيد الحقير الوصولي الدنيء ..!! والذي يصل إلى مرحلة الالتحام مع الإنسان الذي يتماشى مع أهوائه الشيطانية حتى التقمص ، أو يفرض الشيطان سطوته وسيطرته على الشخص المعني حسب الظرف المواتي أو المتغير . وتظهر هذه التجليات بوضوح وعمق لدى غوته حيث يعقد فاوست صفقة مع الشيطان ، ولدى توماس مان حيث يتكرس الشيطان من الذات المشوشة حتى إبداعيا، ولدى غوغول في اللوحة عبر انعكاس المضمون الحقيقي للشيطان المؤثر الطاغي مع لمسات ميتافيزيقية ، وكذلك لدى سيرغي يسينين الذي انتهى إلى قتل هذا الشبح الأسود المنعكس على الزجاج بتحطيم النافذة في ملحمته المثيرة التي تحمل أسم الشبح الأسود – حسب ترجمتي لها ودراستي لمعظم جوانبها المتقاطعة مع الأعمال المذكورة – وانتهى في الحياة واقعيا إلى الانتحار ..لكن الأكثر تمثلا للشخصيات التي أعنيها اليوم هو صورة دوريان غري لأوسكار وايلد مع اختلاف في الخاتمة – حتى الآن على الأقل – .فهناك عدد غير قليل ممن يحسبون على البشر ممن يظهرون على الملأ بأناقة وهيافة ومظهر جميل شكلا وهم أقبح من القباحة ذاتها روحا وكنها، وإذا كان بعضهم يلقي بظله الموبوء على بعض الناس ممن حوله ويسبب لهم الآلام عبر شروره ويحافظ بنفس الوقت على مظهره الخارجي الزائف بأبهة وجمال فإن هذه الآفة الملعونة تبقى في حدودها الضيقة رغم بشاعتها، بل إن يسينين مثلا لم يكن شريرا في حياته بل كان شاعرا جميلا له عثراته الحياتية قياسا بمرحلته ولكنه شعر بالذنب المتنامي حتى المازوخية نتيجة عبثيته وبعض مجونه ليس إلا، وذلك بالدرجة الرئيسية كما ذكرت نتيجة طبيعة المرحلة التي شكلت مفارقة بالنسبة له بين ما عاشه وما كان يود أن يعيشه..
لكن الكارثة حين تلعب بعض الشخصيات دورا محوريا كارثيا في مصائر شعوب كاملة وتستمر في الإثم والعدوان والتنكيل وتحطيم الأسر وسلب الهوية والانتماء وتدمير الثقافة وتشويه التاريخ وتظهر على الملأ بوجه (متآمر) بشوش وثقة مفترس يؤمن بمصداقية الافتراس وارتياح ضمير جزار، لأنهم وصلوا إلى مرحلة التمازج مع ذاك الشيطان فلا يؤرقهم إحساس بالذنب أو شعور بمدى فداحة ما صنعت أياديهم بل إنهم يتبجحون بمدى روعة شرورهم باعتبارها الخلاص والنمط الأفضل هكذا يريدون للآخرين أن يعيشوا أو يموتوا كما يودون هم وعلى الآخرين أن يطيعوا وأن ينفذوا جميع مآربهم صاغرين وراضين بل ومهللين لما يصيبهم من ويل باعتباره الخيار الأجمل هل هناك أكثر شناعة وشرا ..؟ إن الشيطان نفسه يبدو وديعا مقارنة بهؤلاء .
كان دوريان غري يبدو وسيما جميلا أنيقا في الوسط الاجتماعي ولكن لوحة البورتريت لوجهه كانت تظهر قبح ممارساته وخداعه وتتشوه يوما بعد يوم وإثر كل ممارسة شريرة آثمة حتى غدت صورته في اللوحة (حقيقته) مماثلة لصورة الشيطان عندئذ لم يتحمل بطل أوسكار وايلد رؤية هذه الحقيقة فراح يطعن اللوحة بعنف وإذ به يهوي محتضرا وعندما اكتمل موته عادت اللوحة إلى بهائها الأول ذاك أن بعض الموغلين في الشر والإثم حتى النهاية لن تكون صورتهم مقبولة إلا عندما يموتون أي عندما يتوقف النوع (الحقير) فيهم فيتوقف الشر..
النماذج التي تعيث فسادا في العالم اليوم لا تريد أن تقف أمام صورتها الحقيقية وربما بل وهذا الأرجح لأنها في الواقع لا تعاني أساسا من تأنيب الضمير وكيف يمكن أن تعاني من تأنيب ما هو غير موجود لأنها متجانسة بالمطلق مع الشيطان . ولكن المفارقة بين شخصيات الأعمال الأدبية التي تخفي جوهرها ولو إلى حين وشخصيات الواقع الشريرة في أن هذه الشخصيات لا تستطيع أن تخفي صورتها القبيحة عن التاريخ وعن ضحاياها وكثيرا ما تبدو جلية في الدمى التي يحملها أو يحرقها المتظاهرون الرافضون لشرورها وشيطانيتها.