بقلم: أيمن أبو الشعر
لعلي لا أجانب الصواب إن قلت أن أحد أهم أسباب استمرار حيوية معظم الأقوال المأثورةنثراً وشعراً وأمثالاً في مختلف المراحل الزمنية.
ولدى معظم الشعوب والأمم بتناولها المتنوع هو تعظيم الإنسان ـ السوي ـ للمثل العليا التي تعني كنه الإنسان ككائن اجتماعي، أما الاستثناءات في تقبّل وتفسير هذه القيم وفق الظروف الذاتية والموضوعة فهي ليست قياساً ولسنا في صددها الآن.
يتحدث فيلم (الساموراي الأخير) للكاتب جون لوغان والمخرج إدوارد زويك عن جوانب حساسة من تاريخ اليابان في القرن التاسع عشر ومحاولات تسلل النفوذ الأمريكي طارحاً عدة محاور جوهرية لتمجيد قيم الشهامة والبسالة والفداء والشجاعة النبيلة مع ما يقابلها في سياق تطور الأحداث كالنذالة والخداع والمكر والنفعية الجشعة، وأفلح المخرج في جعل كل هذه المقابلات متكاملة في لحمة واحدة. والأهم أنه يطرح بطلاً إيجابياً(أمريكياً) يختلف كثيرا عن معظم أبطال الأفلام الأمريكية الذين يقومون بالخوارق وينتصرون على الجميع ولا يهزمون أبداً، وهو أمر بالغ الأهمية لأن هذا الفيلم قدم لنا هذا البطل الواقعي غير الخارق في سياق تطوره من خلال تفاعله مع الحقيقة التي يكتشفها يوماً بعد يوم منذ أن يقع في الأسر ويتعايش مع الناس الذين كان يدرّب جيوش الامبراطور للقضاء عليهم كمتمردين، لكنه يرى بعينه أنهم الأنقى والأطهر والأصدق والأكثر حرصاًً على مصالح بلادهم أي أن صحوة الضمير تتأتى من الواقع بمعطياته لا برغبة توجيهية من المؤلف.. وجوهر ما أرمي إليه يتلخص في اتجاهين: الأول أن (الغرن) النقيب الأمريكي الذي يمثل دوره توم كروز ينتقل بقناعة تامة إلى جانب هؤلاء الناس، أي إلى جانب ضميره إلى جانب الضحية لا الجلاد، وإلى جانب قضية عادلة رغم قناعته كعسكري بأنها معركة خاسرة حربيا، وهو أمر ملفت للنظر تماما في زحمة ما يقدم في تبرير سحق الشعوب (المتخلفة..!!)، والأمر الثاني هو اختيار الموقف الباسل في مواجهة الموت وإمكانية تطوير حتى العادات والتقاليد لمفهوم الكبرياء والبسالة بحيث لا تبقى مجّرد تنفيذ أعمى للتقاليد بل جعلها جسرا لتحقيق الهدف النبيل، فمنذ أن يهين أمورا (مستشار الأمبراطور الذي يتمتع بكل صفات الدناءة والحقارة) كاتسوموتو في جلسة الأعيان بوجود الامبراطور يعرض عليه الانتحار على طريقة الخاراكيري، وهي عادة متأصلة لمحو العار والهزيمة بالنسبة للساموراي.. هنا يتدخل (إلغرن) وتبدأ نقطة التحول بإقناعه بضرورة محو عاره بالقتال ضد (أمورا) الخائن وأن يموت في المعركة لا بخنجر يمزّق به أحشاءه بنفسه ـ أن يوقع بموته خسائر في صفوف أعدائه لا أن يقدم موته هدية لهم، الأمر الذي يمكن ترجمته بالعمليات الانتحارية التي يقوم بها المقاتلون الفلسطينيون مثلا..ـ ثم تتالى الأحداث إلى أن يعود قبيل نهاية الفيلم إلى قمة هذا الاختيار الباسل في المواجهة الأخيرة حيث يقود (أمورا) بمساعدة الجنرال الأمريكي كاستر (الذي ظل على أمريكيته منذ تاريخه الدامي ضد الهنود الحمر) قوات كبيرة جرارة مسلحة بأحدث أنواع الأسلحة التي جاءت لتدعيم نظام يبرم اتفاقيات تضمن مصالح الولايات المتحدة ـ مع اليابان في تلك المرحلة التاريخية، ومع آخرين كما يجري حالياـ.. وغدا واضحا تماما أن (إلغرن) وكاتسوموتو ورجال الساموراي الشجعان المسلحين بالسيوف والنبال سينهزمون لا محالة، عندها ينطلق من تبقى منهم على ظهور جيادهم بقوة كبريائهم نحوالآلة الحربية الجهنمية فيخترقون النسق الأول ويوقعون القتلى والجرحى بمن فيهم الجنرال كاستر نفسه، ولكن الرشاشات في النسق الثاني تحصدهم فيموتون بشرف مما يذكرك بقول المتنبي أيضاً:
عش عزيزاً أو مت وأنت كريم…. بين طعن القنا وخفق البنود
هذا الموت الباسل لم يكن عبثيا، ولم يكن تهورا رغم أن المشهد يجسد في الواقع عملية انتحارية في مواجهة غير متكافئة على الإطلاق ـ كماتحاول أصوات غير قليلة في عالمنا العربي تصوير النضال في وجه قوة بالغة الجبروت بأنها مجرد انتحار عبثي ـ ذاك أن النهاية تثبت شيئا آخر، حيث يقدم ألغرن ـ الذي أصيب وبقي وحده حياً في تلك المجزرة ـ سيف الزعيم كاتسوموتو إلى الامبراطور(الذي كان ضمنياً يحبه ويحترمه) مبينا أن آخر أماني الزعيم الساموراي هو ان يصون الامبراطور سيف الساموراي (الانتماء) سيف الأجداد وكرامتهم، يأتي ذلك في وقت استقبال الامبراطور للسفير الأمريكي لتوقيع المعاهدة، هذا الموقف يستنهض لدى الامبراطورشعورا عميقا بانتمائه ويقرر رفض العروض الأمريكية فينهزم أمورا الحقير، وتسطع حقيقة أن التضحية ليست مجرد انتحار وثمارها ستأتي ولو بعد حين.
ترى ألا يستنهض هذا المشهد في ذاكرتنا المعاصرة مشاهد أكثر دموية ومكرا وسادية، ونماذج من أمثال أمورا وكاستر والجيوش الجرارة والأسلحة المتطورة الفتاكة في مواجهة الساموراي العربي بأسلحته نصف البدائية الضعيفة، وإيمانه الهائل بعدالة قضيته واستعداده للموت المشرف حتى بتفجير نفسه؟ أليس هذا الاستنهاض هو الذي يجعلنا أكثر تأثرا بفيلم سينمائي تاريخي عن اليابان؟ متى سندرك حقيقة أن الساموراي العربي لا يقل قيد شعرة عن الياباني لا أن نكتفي بربط ما نشاهده سينمائيا بما نعايشه في الواقع اليومي؟