زكريا تامر ومحي الدين صبحي

بقلم: أيمن أبو شعر

بداية السبعينات كان مبنى اتحاد الكتاب العرب قرب البنك المركزي – وهو مقر فرع دمشق حاليا- وبحكم عملي المؤقت أنذاك بالاتحاد توطدت بعض العلاقات الجميلة مع عدد من الأدباء والنقاد، وكان أكثرها حميمية تلك التي نشأت مع أسماء متميزة رغم أن بيننا اختلافا كبيرا في الرؤية السياسية والنهج الإبداعي، وأخص اليوم اسمين لعبا دورا جميلا في اهتماماتي الثقافية في تلك الحقبة. الأول الناقد محي الدين صبحي الذي آلمني أنني عندما عدت للوطن وسألت عنه قيل لي أنه غادرهذا العالم، والأسم الآخر هو زكريا تامر والذي حين سألت عنه قيل لي أنه يعيش في أوربا فتلمست في القلب بالذكريات عزاء.

كانت صداقتي بمحي الدين صبحي قوية وغنية جدا فعن طريقه تمعنت في إليوت ومنه تشربت ضرورة أن يعمد المبدع لنقد ذاته قبل أن يقوم بذلك الآخرون وذات ليلة سهرنا حتى الفجر تقريبا وهو يشرح لي أفكاره عن مصطلح التخييل في الصورة الشعرية ، وهو الذي عرفني بالشاعر الكبير نزار قباني ورتب لي لقاءات غنية كثيرة معه ، ومعا في منزل الأديبة الكبيرة كوليت خوري (أميرة العلاقات الاجتماعية) تعرفنا على عمر أبو ريشة وهناك معا أيضا كنا أحيانا نمزج الحوارات والذكريات بالشعر وبأنغام البيانو بأنامل نارة. ورغم أن أحاديثنا – أنا ومحي الدين صبحي – كثيرا ما تتحول إلى جدل صاخب في المجال السياسي والنهج الإبداعي حيث كان يناهض الواقعية بغير حدود – بعيدا حتى عن روجيه غارودي – إلا أننا حافظنا بعمق على ذاك الود والاحترام. وكثيرا ما انتهت حواراتنا بطرفة ظريفة يشبكها محي الدين في خصر الحوار، فنضحك ويبقى كل منا على موقفه ومن البديهي أنني كنت أنا المستفيد لكونه أكبر مني عمرا وتجربة واطلاعا.

لم تصل صداقتي بزكريا تامر إلى نفس مستوى ومتانة صداقتي بمحي الدين صبحي لكن احتراما متبادلا قد نشأ بيننا يعمقه ود جميل وكنا نلتقي كثيرا سواء في اتحاد الكتاب أو في بعض الأماسي وأكثر ما أدهشني آنذاك بزكريا تامر شخصيته الواثقة – العنيدة – وحفاظه على طفولة عذبة طيبة لها خصوصيتها الفريدة التي لا تخلو من مشاكسة، ورغم أن عالمه القصصي مليء بالأجواء – الكافكاوية والإبسينية أحيانا – إلا أنها كانت توغل بذكاء إلى أدق واخطر الأمراض الاجتماعية، يبرزها ليعريها بقسوتها ودمويتها أحيانا ومفارقاتها المرعبة التي تتأتى من رصد انعكاسات التخلف في الواقع المعاش وتألق الفرد المتميز وغربته، هكذا بكل بساطة وكأنه يدين بشكل غير مباشر لا المتخلفين الذين ينحاز القارئ بكل عنفوانه ضدهم من خلال تصاعد الحدث في القصة المعنية وحسب بل وأولئك الذين يرضون معايشة هذا العنف المجاني وكأن شيئا لم يكن .

ومع ذلك فأنا لا أود الحديث هنا عن الجوانب الإبداعية المتميزة لديهما فلذلك مجال آخر ، بل أود الحديث عن طابع الطفولة والاقتحام وعدم التردد في اتخاذ قرارات شخصية قد تبدو للوهلة الأولى غير مألوفة بالنسبة لأسماء كبيرة كما كان محي الدين صبحي وزكريا تامر .

ذات يوم كنا نسهر في منزلي، وكان الصيف شابا يفوح بدفئه المتصاعد. قال زكريا: الحر يزداد يبدو أن الثلج نفسه لم يعد قادرا على تبريد شراب الليمون فتدخل محي الدين صبحي ملتقطا هذه الفكرة وقال: لا علاقة للثلج هنا فأجسادنا هي التي تكاد تغلي وتحتاج إلى بحر كي يرطبها، قلت على الفور ما رأيكم إذن أن نذهب إلى البحر. نظر محي الدين إلى الساعة وكانت تقارب الحادية عشرة ليلا فابتسم زكريا وقال له تطرح الفكرة وتسارع بالتهرب منها، فرد محي الدين: أبدا أنا جاهز ولكن متى وكيف، قلت لهما على الفور: الآن عندي خيمة متوسطة الحجم وتجهيز الأغراض لا يحتاج إلى أكثر من نصف ساعة.. لم أكن أعتقد أنهما مستعدان بالفعل لأنني كنت أعتقد أنني وحدي الأكثر حبا للمغامرة والمشاريع المفاجئة ولكني دهشت تماما حين نهضا بحيوية وعزم كما لو أن أحدا خفيا أعطانا إيعازا مفاجئا بالوقوف.. واتفقنا أن اتصل بسيارة تكسي لكي تأتي إلى منزلي بعد ساعة حيث كان منزل كل منهما قريبا من منزلي وذهبا على الفور لجلب بعض شؤون البحر والمؤونة البيتية.

اتصلت بسائق تكسي أعرفه واتفقت معه حسب ما قررنا، وبعد مضي حوالي خمسين دقيقة ساورني شك في أنهما أرادا إحراجي كدعابة خاصة عندما عاودت الاتصال هاتفيا عدة مرات ولا من مجيب – لم يكن قد عرف الموبايل بعد – ..في ساعات الصباح الأولى كنا نتابع تسربات الشعاع الفجري الأولى بتدرج مذهل للألوان وهي تتبدل من الأحمر حتى البرتقالي وكأنها ترقص وتغني وترسم بآن معا رمال وأمواج رأس البسيط الوادعة، هناك أمضينا بضعة أيام لا تنسى مرح وحبور وأحاديث عن الوطن والمستقبل والفن والجميلات، كل وفق مشاربه وتصوراته إلى أن اتخذنا قرارا بعدم مناقشة أي شيء سوى البحر.. كيف نراه وكيف يرانا.. وأضاف محي الدين صبحي وكيف نعانقه ويعانقنا.. أما زكريا الذي كان يدخن بنهم كبير فكان كثيرا ما يخلد للصمت وهو يرسم لوحات بديعة متداخلة الظلال بأقلام الفلوماستر: نقاط ودوائر وتشكيلات ملونة صغيرة في تكوينات غريبة لها ألقها الذي لايترجم، وكأنه ينقل ما يجول من أفكار في رأسه قبل أن تتجسد في معنى وسياق وأبطال واضحين .

قبل أسابيع قليلة زرت اتحاد الكتاب العرب وكنت قد وعدت الصديق وليد معماري – جميل القلب والقلم – بقصيدة للأسبوع الأدبي..عندما دخلت لم أكن أتخيل أنني سأرى زكريا تامر فقد مضى أكثر من ربع قرن على آخر لقاء بيننا، حاول وليد بلهفته المشهودة تقديم واحدنا للآخر، وعندما تأكدنا من ان ما نراه حقيقة تعانقنا طويلا وأحسست بعظامه الناحلة كما كان دائما، فهتفت: زكريا ياللروعة وقال زكريا: أيمن معقول، أنت حي ترزق، وأردف: ماذا تفعل، قلت أنا الآن بلا عمل أقضي معظم أوقاتي في مزرعتي المتواضعة تعال زرني هناك ففيها أرتب مكتبتي لأنصرف للقراءة وقليل من الكتابة، ولعلي أقيم مشروعا صغيرا لتربية الأبقار أو العجول فيها لتدبير مصاريف العيش فقال على كعادته في اللقطات اللاذعة الذكية هذا مشروع مربح يا أيمن فما أكثرهم في عالمنا المعاصر.