بقلم: أيمن أبو الشعر
الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشة علم فكري شغل الأوساط الثقافية في العالم منذ نهاية القرن التاسع عشر، وأخذت آراؤه مداها أواسط القرن العشرين، حيث اعتبرها البعض من بواعث ظهور فكر التفوق القومي والنازية، ورغم ذلك لم يكن مصادفة أن يدعو عدد من أهم المثقفين والمفكرين العرب إلى ترجمته ودراسته، ومن بينهم مصطفى صادق الرافعي وأحمد حسن الزيات، لعلهم رأوا في بعض أطروحاته استنهاضاً من زاوية محددة لرفض الخنوع والاستسلام، حيث مجّد نيتشه الحرية ودعا إلى رفض الاستسلام والعبودية، ولكن وفق مفهومه الذي حاول فيه أن يقارع فلاسفة القرن التاسع عشر في أوج انتشار الفلسفات المطلقة والدينية والمادية. ولكنا هنا نركز ـ بشكل مكثف طبعا في هذه العجالة ـ على ثلاثة نقاط مثيرة للتأمل: الأولى استنباط بعض الجوانب ذات الطابع الإشكالي والمتناقض أحياناً في بعض أطروحاته، والثانية تشبيهه للتعصب اليهودي بالعنكبوت، وأخيرا هذه الشاعرية الفذة في صياغة بعض أطروحاته في إطار رمزي مفعم بالمجاز والتصاوير والرؤى الإبداعية، وهو أمر اعتمده كثير من كبار المفكرين عبر التاريخ لعل طاغور واحد من أشهرهم.
اعتمد نيتشه كما هو معروف على فلسفة القوة، واعتبر في حومة طرح آرائه لخلق جيل الأقوياء المطلقين أن ذلك يتحقق عندما يتفوق الإنسان على إنسانيته، ودخل في تناقضات عديدة بين دعوته إلى العنف والغرور والتعالي عن المعاش اجتماعيا، وبين دعوته إلى الحرية والإبداع والثقة بالنفس ورفض العبودية، حيث لاتتحقق هذه المعاني إلا في حركة المجتمع الذي ابتعد عنها نيتشه منغمسا في ولع الفوقية وضرورة تحقيق حتى التميز الجسدي الخارق، واقد انهزمت فلسفة التفوق العرقي كآلة حربية وحتى كعقيدة، وواجه نيتشة مصيريا جسديا مروعا، حيث قضى الربع الأخير من حياته يهده المرض والشلل ثم الجنون.
ولكن نيتشة في كتابه المميز ـ هكذا تكلم زارادشت ـ يعود بين حين وآخر إلى تألق إنساني وفق المعاش اجتماعيا، فتظهر بين تعاليمه الفوقية أحياناً شذرات وآراء تخالف تماما توجهه الفلسفي المحوري، أو تبدو متناقضة في صياغة هذا الرأي أو ذاك، فهو يدعو إلى قتل الضعفاء الذين لايصلحون للحياة إنقاذا لهم ـ منتهى الأنانية ـ ، وبالوقت نفسه يؤكد أن على السائرين نحو تكريس الإنسانية المتفوقة أن يمهدوا آفاق السعادة لمن هم دونهم من خلال حتى التضحية بملذاتهم ـ وهنا تكريس للغيرية ـ وينظر نيتشة إلى المرأة باعتبارها مجرد جسم وجد للولادة (آلة تفريخ) ويعتبر الحب فخا خاصا بالمرأة، ويطالب بالتعامل مع المرأة بكثير من التعالي وأن قلبها مكمن للشر، لكنه أيضاً في حالة صفاء ـ إنساني ـ يقر بأن الحب هو المقياس الأوحد كالأبدية (إنني لم أجد حتى اليوم امرأة أريدها أماً لأبنائي إلا المرأة التي أحبها لأني أحبك أيتها الأبدية)، ورغم تأكيده على قوة وعظمة الرجل وهو في نظره خلق ليكون محاربا إلا أنه يعود فيقول (في كل رجل حقيقي يحتجب طفل يتوق إلى اللعب، فلتعمل النساء على اكتشاف الطفل في الرجل).
ويلفت النظر من جانب آخر أن نيتشة الذي رفض الفكر الديني، واتخذ من الفيلسوف الشرقي زارادشت شخصية يتقمصها لطرح أفكاره الجديدة حول العقل والنفس والموروث رافضا كل الظلال الغيبية يصب فجأة ـ كما اعتقد حيث يجيء ذلك في إطار رمزي متوار ـ جام غضبه على شخصية اليهودي المتزمت المتعصب في فقرة العناكب في الجزء الثاني من هكذا تكلم زارادشت باعتبارهم مضللين ومستودع للانتقام (أيها العنكب إنني أرى على ظهرك شعارا أسود مثلث الزوايا.. ومايخفى عني أيضاً ماتضمره من النقمة في سريرتك.. هاأنذا أمزق نسيجكم حتى إذا تملككم الغضب خرجتم من مغاور أكاذيبكم.. العناكب يقولون لا عدل إلا في عواصف انتقامنا تهب على العالم لتلقي العار على كل من هو ليس معنا.. هاهي مغارة العناكب وقد لاحت فيها خرائب هيكل قديم..) ومن الواضح أنه رمز إلى نجمة داوود في الشعار الأسود مثلث الزوايا على ظهر العناكب، وإلى هيكل سليمان في إشارته إلى خرائب هيكل قديم في مغارة العناكب.
أخيراً لابد من لفت الأنظار إلى تلك الصياغة البديعة والصور الرمزية والتألق الشعري في بعض فقرات كتابه هكذا تكلم زارادشت، ذلك أن نيتشة في تقمصه (لزارا) دخل في حومة رؤى خيالية حتى بات يقدم فكره عبر الصور، وأحد أهم تعريفات الفن أنه التفكير بصور، ومما يقوله في نشيد الليل: (لقد أرخى الليل سدوله فتعالى خرير المياه المتدفقة ولنفسي ينبوعها المتفجر.. تعالت الأناشيد من أفواه جميع المغرمين وما روحي إلا نشيد من هذه الأناشيد.. لو كنت ظلاما لكان لي أن أرسل بركتي إليك أيتها النجوم المتألقة كصغيرات الحباحب في السماء..)، ويقدم أكثر من لوحة صوفية في نشيد الرقص، حيث يشعر أنه تحول إلى غابة قاتمة الأشجار من يدخلها دون وجل ستنكشف له دروب الورود وسيجد إلهاً صغيرا تشتاق إليه الصبايا نائماً بهدوء قرب الينبوع.. وفي نشيد آخر للرقص في الجزء الثالث مشهد حركي، تخاله يتدفق بحيويته أمامك بأجوائه الفردوسية في رصده الإبداعي للحياة المعشوقة التي سرعان ماتتحول رعبا إلى ميدوزا اسطورية: (.. ورشقت قدمي المصابتين بجنون الرقص بنظرة مسكرة مذيبة ضاحكة مستفهمة، وما قرعت يداك الصغيرتان ضربتين على دفك حتى تحفزت قدماي للوثوب وتنصت عقب كل منهما لأوزانك، وأذن كل راقص مفتوحة في عقب قدمه وثبت إليك أيتها الحياة، ولكنك تراجعت عني وتوليت فإذا بغدائر شعرك المتطاير تسمعني فحيح الأفاعي وتريني من ألسنتها نصالا..).