بقلم : أيمن أبو الشعر
أليس رائعا وبالغ الدلالة ان الحديث عن دمشق لا يمكن أن يكتمل إلا إن تمازج مع الحديث عن الجمال والعشق والإبداع والحضارة ، وكأن هذه الأقانيم أولادها وملامح نضارتها الدائمة وعطاءاتها المتجددة دائما مما يعطيها مصداقية كبرى لتسلم الراية كعاصمة للثقافة العربية.
ولا أبالغ إن قلت أن أحد أسرار هذا التماهي الإبداعي موجود في البيت الدمشقي القديم العريق الذي ينضح جمالا وثقافة متألقة تنطق حجارته وتكاوينه كبصمات من أنامل مبدعيه بعد أن تغادره أجيالا إثر أجيال، فيستمر كسطور وضاءة في سفر دمشق التي يمكن اعتبارها بحق ملهمة المبدعين سواء من خلال الشعراء والكتاب الذين تغنوا بها بوله حقيقي او من خلال الذين احتضنتهم ورعتهم وأرضعتهم ذاك الدفء الحميم الذي تنامى في عطاءاتهم المتنوعة الغنية .
وبما أن الحديث عن كل ذلك حتى من خلال البواعث الثقافية وحدها لا يكفيه مجلدات كاملة فسأتوقف باختصار شديد عند البيت الدمشقي كمعلم حضاري وثقافي وإرث جمالي كان له أكبر الأثر في احتضان السيرة الحياتية والإبداعية لهذه المدينة العملاقة جمالا وعطاء .
يتوغل تاريخ دمشق في الغابر من الزمن باعتبارها أقدم عاصمة في التاريخ ، ومعظم المعطيات تشير إلى انها كانت حاضرة ببهائها القديم حتى قبل عشرة ألاف من السنين، بل يذهب البعض إلى أن اسمها مشتق قبل ذلك بكثير من سام بن نوح(شام). ومما له دلالته أيضا في الإطار الحضاري أن اسمها في الأصول الآشورية القديمة يعني العامرة أو المزدهرة. لكنني أقفز مباشرة إلى القرون الأخيرة حيث لعب البيت الدمشقي دورا بالغ الخصوصية في حياة المجتمع الثقافية الإبداعية، فقد جسد المعماريون فيه التوجه الجمالي السائد في المرحلة المعنية، حيث بدا متحفا من نوع خاص يمثل النمط الفني لساكنيه وذوق عصره سواء في تداخل حجارته وتلونها أو في تكوينه الذي يعكس بنفس الوقت طبيعة المرحلة الانتاجية الاجتماعية حيث كان إمارة صغيرة متكاملة للجد والجدة الريادة فيها سواء في الإرشادات الرئيسية أو في حسم القضايا المحورية، سواء في التشكيلات الفنية بما في ذلك توزع مزروعات قصيدة الخضرة التي ترافق كل بيت، أو في حل بعض الخلافات أو الحسم في قضايا الزواج والعلاقات (الخارجية) فيما يتعاضد الأبناء والأحفاد وأحفاد الأحفاد الذين يعيشون بآن معا في هذا الحضن الآسر في استكمال شؤون هذه الإمارة الصغيرة، والتي كثيرا ما تكون بوتقة انتاجية أيضا في المجالات الصناعية أو الزراعية أو التجارية أو العمرانية، ومن هنا فإن البيوت الدمشقية عديدة الغرف وما إن تتجاوز الباب حتى تنفتح مشاهد جنة حقيقية بألوان خضرتها المتنوعة من الليلك إلى الياسمين إلى الفل والنارنج والكباد وتوزع الردهات والمهاجع (وتتوزع هذه الأجنحة بدقة في البيوت الكبيرة التي لها شأنها الاجتماعي السياسي للسلملك، والحرملك، والخدملك). وهكذا يبدو البيت الدمشقي بما يحفل به من اللمسات الإبداعية بمثابة رسالة فنية للأجيال القادمة، كأنها تقول لقد عشنا هنا بألق وهذا توقيعنا.
وفي كل مدينة في العالم بالطبع معالم أثرية رائعة، لكن معظمها ذو طابع شمولي عام لهذه المدن كأن تكون مأثرة الحاكم أو الفاتح أو إشادة صرح بمناسبة معينة لكن هذه الرسالة الفنية الإبداعية في دمشق تتسع لتشمل معظم البيوت الدمشقية القديمة العريقة بل وأحياء كاملة تحول الكثير من دورها إلى مطاعم لجلب السواح والزائرين الذين يدخلون عبر الزمن إلى تلك الفترات التاريخية المبدعة حيث الزخارف والمنمات والرسوم ووعبارات دينية أو مأثورة تصاغ بالخط العربي الذي يصوغ لوحات فنية إضافية، وعناقات حنونة حتى من الحجر نفسه حتى أن نزار قباني العاشق الدمشقي الجميل يعتبر أن أن هندسة البيت الدمشقي يعتمد أساسا عاطفيا (فكل بيت يسند خاصرة البيت الآخر وكل شرفة تمد يدها للشرفة المقابلة فالبيوت الدمشقية بيوت عاشقة)
ويقال أن أول دار دمشقية عريقة في طرازها المتميز بنيت للخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان وسميت آنذاك دار الإمارة. وأيا كان تباين المعطيات عن البيوت الأولى الدمشقية فإن بعض الشواهد على تلك الأوابد الفنية ما زالت ماثلة للعيان، ومن أشهرها في إطار متفرد يقارب القصور بيت جبري (الذي كما علمت تحول إلى مطعم) وبيت النعساني وبيت نظام ومكتب عنبر الذي لعب دوره كمرجل ثقافي فعال بما في ذلك في النضال ضد الاستعمار الفرنسي وقد غدا قصرا للثقافة، وقصر العظم الذي شيد فوق أحد أجزاء من معبد جوبيتر الروماني وهو اليوم متحف للتقاليد الشعبية، والمقاهي العريقة وخاصة النوفرة وتقاليد الحكواتي وكركوز وعواظ في مسرح الظل، والمدارس ذات البنيان العمراني المتميز والحضور الثقافي الفكري كالعادلية والتي شهدت تأسيس أول مجمع علمي عربي وكذلك الظاهرية وغيرها كثير، هذه البيوت التي غدت جسرا محوريا لتسجيل الأفلام والمسلسلات التلفزيونية التي تتحدث عن تلك المراحل، وحسب المهندس العاشق لدمشق والحاضن لمكنونها الحضاري صبحي كحالة فإن هذا الطراز أصبح صفحة زاهية من الماضي وميزة فريدة في تراث دمشق ، وليس صدفة والحال كذلك أن تحتل دمشق مكانتها البارزة في سجل اليونيسكو كأحد أهم معالم الآثار القديمة المتميزة في العالم.
ألم تكن ساحة البيت الدمشقي (الديار) المسرح الأول لأبي خليل القباني حيث حضر الوالي العثماني باكورة أعماله فيها ، ثم ألم تكن بيوت دمشق موئل العلماء في تألقهم والمناضلين في مقارعة الاستعمار .
وعندما نتحدث عن البيت الدمشقي العريق المحرض لكتابة الشعر والإبداع نتذكر ذاك الإبداع الفني الثر الذي ظل شاهدا على تلك العطاءات التي ما زالت تغني بصوت الزمن المتألق كباعث ثر لعطاء نوعي ربما نتيجة ذاك الإنغلاق الاجتماعي في مرحلته المحددة، والذي يتفتح من الداخل فمن أهم مجسات هذا المشهد أنه يبدو متواضعا جدا من الخارج كما هو حال نقاب الجميلة الحسناء، وما إن تدخل البيت الدمشقي القديم حتى تشعر بأنك كشفت سرا صوفيا من أسرار ابن عربي الذي احتضنته دمشق، أو عثرت على كنز مخبوء في مغارة علي بابا الخيالية المتواضعة في مظهرها الخارجي المدهشة بمحتوياتها المذهلة في الداخل، هناك خلف طين وحجارة الجدران الخارجية باحة تحوطها قصائد الخضرة من كل صنف بهي الطلعة وكل مختمر فائح العبير تتوسطه البحرة التي لا يخلو أي بيت دمشقي قديم منها وكأنها إناء وضوء الجمال في محراب القداسة العشقية، حتى أن نزار قباني بعد أن أسرته هذه الحضرة الجمالية في تناغم نوافير البحرة الداخلية ودالية العنب هتف من روح إبداعه قائلا:
النوافير في البيوت كلام والعناقيد سكر مطحون