رغم تفاوت آراء الفلاسفة وعلماء الاجتماع في تفسير مفهوم وكنه السعادة إلا أن غالبيتهم يعتبرونها الهدف المنشود للفرد والمجتمعات، وأنها اللذة المطلقة التي يسعى الإنسان طيلة حياته لتحقيقها أو تحقيق جوانب منها حسب طاقته وظروفه، ماديا أو روحيا أو في المجالين المادي والروحي معا، حتى أن السعادة عند الفارابي مثلا هي غاية المنتهى للإنسان لأن كل ما يحصل عليه ماديا ومعنويا هو مجرد وسيلة وجسور لبلوغ هذا الهدف الأسمى، ومن عبقرية الفارابي أنه ربط ذلك بالواقع الحياتي – المجتمع المتعاون – أو الوصول إلى هذا التعاون في العلاقات الاجتماعية ، وحين يتحقق هذا النوع من التعاون (في حياة المدينة) يصل الإنسان إلى المدينة الفاضلة بغض النظر عن مدينة أفلاطون الفاضلة التي استثنى منها الشعراء – سامحه الله – . والتعبير الأول عن هذه السعادة هو الفرح بشتى تجلياته، وهنا ندخل أحيانا أو في معظم الأحيان في دائرة ما يمكن أن نطلق عليه تسمية السعادة التعيسة .
يخطئ من يتصور ان البيروقراطية واللامبالاة والأنانية المشفوعة بالبرغماتية وافتعال الأزمات في المواد التموينية الرئيسية هي حكر على بلدان العالم الثالث وخاصة الوطن العربي، أشدد على ذلك لأن غير قليل من الناس يتبرعون مسبقا بالمقارنة بين ما نعايشه وما تعايشه المجتمعات الأخرى وخاصة الغربية، والحقيقة أن الأكثر تطورا تقنيا يعايش تطورهذه الآفات بأشكال أخرى ربما أقسى أحيانا في صلب الواقع المعاش، لكنها الآن ليست في محور اهتمامنا.
أبو فارس رجل مرح بطبيعته ،وفلسفته في الحياة هي البساطة والرضا وتحويل المجسات الحياتية التي تزعجه إلى ما يشبه الطرفة ، وقد اعتاد أن يضع في يد زوجته صباحا مصروف اليوم وفي أذنيها بيت شعر أو حكمة او مأثورا شعبيا أو آخر طرفة سمعها، لكنه منذ أيام وهو نصف متجهم يضع قليلا من النقود في يد زوجته ويغادر على الفور حتى دون ان يشرب قهوته، فعليه أن يناضل يوميا للحصول على المازوت والغاز. سألته زوجته: واليوم أيضا ألن تقول شيئا قبل أن تغادر، فغنى على الفور (ما أضيع العمر حتى نضيعه بالنضال) وأردف: طبعا عبد الوهاب يغني عن العشق ويقصد النضال اليومي الحياتي وليس السياسي .. وعند الباب توقف قائلا: أكثر ما يزعجني في هذه المسألة هو التبرير والأعذار إنها شبيهة تماما بقصة عذر أقبح من ذنب.. ولكن لا بأس على الأقل فالمواطنون في هذه الحالة يتقمصون هارون الرشيد نفسه بينما يتقمص المسؤولون شخصية أبي نواس.. ويسارع هرولة إلى الشارع .
يا ألله هتف أبو فارس بعد حصوله على قارورة الغاز بعد انتظار غير مديد نسبة للأيام السابقة وقال في نفسه: حتى رائحة الغاز ممتعة وخازة.! لماذا لا يفكرون بتركيب عطور منها. ويشعر بسعادة سريعة محببة لأنه عانى سابقا وعاد مرارا بين حين وآخر بخفي حنين، ويبدو أن السعد قد ابتسم له هذا الأسبوع حيث تمكن في اليوم الثاني من تعبئة نصف احتياجاته من المازوت دون عناء كبير جدا جدا، وبدفع (إكرامية) مرهقة لكنها لا تقارن قياسا بسياط الصقيع، وهو جائزة كبرى في الشتاء، تتعمق هذه السعادة لدرجة أنه يشعر بأن العالم جميل والناس جميلون ويردد أغنية فريد الأطرش الحياة حلوة دون انقطاع، يتذكر أبو فارس حديث جاره أبي خالد: بعض الجيران وزعوا ملبس وآخرون (مهلبية) واعتبروا تعبئة المازوت سعادة تحتاج إلى فرح جماعي، يدغدغه شعور بأنه رغم وصوله إلى سن التقاعد ما زال يتألق حبا، وتعود به الذكريات نتيجة هذه السعادة التراكمية إلى سنين خلت إبان الخطوبة وليلة الزفاف، ثم يبتسم كمن ضبط نفسه في مبالغة غير منطقية: قارورة غاز وتعبئة المازوت يجعلانه في مصاف العشاق؟؟ (في ريبورتاج مصور جميل ومعبر نشرته تشرين عن أزمة الغاز والمازوت يصف أحد المواطنين بصدق عفوي سعادته بالحصول على حاجاته هذه بأنه شعر بفرح ذكره بسعادته يوم عرسه).. ولايطول انتظار أبي فارس أمام الفرن فتزيد سعادته التي كان يعوضها أوقات الإزدحام بشراء ربطة خبز محسن ويقنع نفسه بأن هذا الحل منطقي وعملي كسبا للوقت رغم أن السعر مضاعف، ويبدأ في اليوم التالي رحلة ماجلان في الدوائر الحكومية لإنجاز بعض المعاملات الضرورية والمصيرية والتي يتابعها منذ عدة أشهر، ينظر إلى المبنى الكبير الشاهق ويفكر أليس رائعا لو كانت أفلام الخيال العلمي واقعية، ما ذا لو كنت سوبرمان، أو الرجل العنكبوت أو الوطواط على الأقل؟؟ وبعد صعود أدراج كالأبراج ، وتنقل بين العديد من المكاتب والنزول إلى الشارع مرات لتصوير هذه الوثيقة أو تلك ثم الحصول على الطوابع اللازمة – فلكل موظف مطالبه لاستكمال مستلزمات هذا الملف الضخم – الذي لا يدخل في ملفات الأمم المتحدة – والموظف ليس مجبرا على أن يوضح لك ضرورة شراء هذه الطوابع أو تلك مسبقا وتصوير مستندات إضافية لدى الموظف الآخر في الغرفة المجاورة – بعد كل ذلك وقبيل انتهاء وقت الدوام يفوز بختم وتوقيع مدير الدائرة المعنية، فيشعر بسعادة غامرة أيضا لأن إحدى مراحل هذه المعاملة قد انتهت، ويسترجع في ذهنه معاملة الحصول على الجرار الزراعي في مسرحية غربة ويبتسم قائلا في نفسه: على الأقل لم يطلبوا مني توقيع مدير قلعة حلب.! وينسى لبرهة كل الإرهاق والمعاناة التي عايشها.. ويعود إلى المنزل فتخبره زوجته أن فاتورة الكهرباء لم تتجاوز ربع الراتب هذه المرة، وأن الصيدلانية اللطيفة استطاعت تأمين الدواء اللازم لابنتهما من الخارج ولكن بسعر مرتفع، فيشعر أيضا بطيف من هذه السعادة الآسرة فالمهم الحصول على هذا النوع من الدواء تحديدا.. ثم إن استخدام اللمبات الاقتصادية كان مجديا.. وانقطاع الكهرباء لعدة مرات في الأسبوع رغم غلاظته وتسببه في إفساد بعض الأطعمة في البراد قد ساهم في تخفيف قيمة الفاتورة.
يلفت نظره غياب الأواني التي كانت ممددة على الأرض منذ أيام عديدة بنغماتها الموسيقية التي تذكره برحلة قام بها أيام الشباب إلى مغارة جعيتا، ويفكر كيف غاب هذا النغم – القادم من اعماق البحر، مع الاعتذار لنزار قباني – فينادي زوجته فرحا متسائلا فتجيبه بأن الجيران أصلحوا الأنابيب المهترئة ولم يتعللوا كعادتهم بأن على المرء تحمل بصمات متعهدي مشاريع الدولة، وزفوا لها الخبر مع التركيز على أن ذلك كلفهم كثيرا، فيشعر بسعادة هائلة وينسى غضبه وتذمره من مباني الجمعيات..!!.. وتود زوجته أن تزف له خبرا جيدا مفرحا آخر فيهتف: لا ..لا.. أرجوك اقرصيني أولا. ويتابع: تخيلي بعض الناس الأغبياء يؤكدون أن كل هذه الأمور من الاحتياجات اليومية ولا علاقة لها بالسعادة الحقيقية، ثم هل تعتقدين ان الذين يعيقون معاملات الناس ومن يقفون وراء هذه الأزمات المفتعلة يسعون للحصول على اموال غير مشروعة ..ها .. ها.. إنهم يسعون لمنح الناس الاحساس بالسعادة، بالله عليك ألا تشعرين بسعادة رائعة؟ أجابت زوجته نعم – نظر أبو فارس إليها بعينين واسعتين وهز رأسه – : إذن اقرصيني والأفضل أن تلطميني.