القصيدة المطرية في مهرجان بوشكين

0_5b44_861cbacc_xl2

بقلم : أيمن أبو الشعر

علمتني تجربتي في الاتحاد السوفييتي وروسيا الكثير، وأغنتني إبداعيا وروحيا إلى حد كبير، ورغم أنني عشت في موسكو زمن الاتحاد السوفييتي أحد عشر عاما، وبعد انهياره ستة عشر عاما، فقد كانت المرحلة الأولى أغنى بكثير إبداعيا – بالنسبة لي على الأقل – في حين كانت المرحلة الثانية الأغنى ماديا.

جوهر القول أنني لاحظت وعايشت الاهتمام والاحترام الكبيرين اللذين كان يتمتع بهما المبدعون زمن الإتحاد السوفييتي السابق- بغض النظر عن حالات محددة لها حيثياتها وظروفها وتقييماتها المتباينة- ، حتى أن القاص التركي الكبير عزيز نيسين في رصده لمكانة وامتيازات الأدباء في الاتحاد السوفييتي كتب في مذكراته المبكرة : أن على المرء العارف بشؤون الحياة أن يصبح كاتبا في دولة شيوعية أو تاجرا في دولة رأسمالية .

وقد أتاح انخراطي في أجواء الأدباء والشعراء والفنانين في تلك المرحلة فرصا جميلة للمساهمة في الندوات والأمسيات في مختلف جمهوريات ومدن الاتحاد السوفييتي في وقت لم نكن نكتب بجانب هذا الإسم كلمة (السابق)، فتعرفت إلى العديد من الأدباء والشعراء السوفييت الشباب المغمورين ونصف المشهورين وكذلك بعض الأعلام الكبار ، ونشأت مع بعضهم علاقات صداقة حميمة، كما أن العلاقات الثقافية الإبداعية مع العالم العربي كانت نشطة جدا مما أتاح لي اللقاء في موسكو أيضا مع العديد من كبار الأدباء والشعراء العرب ، أو تعميق علاقات قديمة . كانت السهرات عفوية غنية تظهر الجوانب الثرة في شخصيات هؤلاء الأعلام، ناهيك عن الحوارات والنقاشات – الحادة أحيانا – التي تنتهي بقصيدة أو تقييم مسرحية أو أغنية أوعزف على الغيتار ، وهذه الأجواء كانت ظاهرة منتشرة ولم تكن مقتصرة علينا.

إثر انهيار الاتحاد السوفييتي ولسنوات غير قليلة تقلصت إلى حد كبير ثم غدت نادرة تلك النشاطات في جمهوريات الاتحاد السوفييتي (السابق)، والتي كانت تشكل طقسا جميلا منذ لقاءات السفر في المطارات، أو الرحلات المديدة في القطارات التي تجعل من (الكوبيه) أشبه بقمرة في الفضاء الخارجي حيث تستمر هذه الرحلات إلى المدينة التي سنلقي فيها أشعارنا عشرة ساعات أو خمس عشرة ساعة أو أكثر، ويغدو الزمن خارج قوسين من خلال إطلالتك بين حين وآخر عبر نافذة القطار حيث تجري الأشجار والأدغال بعكس اتجاه القطار الذي تخاله متوقفا ، وتظهر بين حين وآخر البحيرات والأنهار والقرى الشبيهة بلوحة زيتية بديعة تذكرك بأجواء الشاعر الروسي المبدع يسينين، وكذلك من خلال القصائد والأغاني وطرائف الحياة وما مر مع هذا الزميل أو ذاك في نشاطاته الإبداعية، وأذكر بشوق كبير مساهماتي المتواضعة مع الشعراء الروس في بعض الندوات الشعرية في الساحات العامة بمناسبات ثقافية محددة وحتى في المروج الواسعة أو قاعات الأوبرا والمسارح الضخمة وهو أمر يوحي بالكثير حول الذائقة الفنية لهذا الشعب ، وإن ينسى المرء فإنني لن أنسى مهرجان بوشكين الذي ساهمت فيه كواحد من الشعراء الضيوف الأجانب وساهم فيه على ما أذكر إلى جانب شعراء أجانب آخرين شاعران جميلان من الجزائر هما أزراج عمر وحمري بحري اللذان احتفا بهما الجمهور أيضا بشكل جيد . أقيم المهرجان في سهوب ميخائلوفسكايا تخليدا للشاعر الروسي الكبير الكسندر بوشكين.

لقد تعودت في بلدي على إقامة أمسيات يسعدني- بكل تواضع – انها كانت تشكل حالة جماهيرية معقولة ، لذا كنت أتصور ان الوضع سيذكرني بأمسيات الوطن، لكن المفارقة هنا أنني وقفت لأول مرة أمام جمهور مذهل جاء من مختلف المناطق الروسية إلى هذه البلدة الجميلة حرصا على حضور هذا المهرجان الشعري، ومن البديهي أنهم جاؤوا ليستمعوا إلى الشعراء الروس بالدرجة الرئيسية، وبنفس الوقت ليكونوا انطباعا عن شعر الضيوف .. جمهور غفير لا يمكن أن يتخيله المرء امتد في هذا السهل الكبير .. عشرات وعشرات الآلاف من عشاق الشعر من مختلف الأعمار جلسوا على العشب الأخضر، وأقيمت منصة واسعة مظللة أمامهم حيث جلس الشعراء.. وكان الجمهور الضخم يستمع بإصغاء واحترام كبيرين رغم أن الندوة استمرت ساعات عديدة…تخيلوا فقط ذاك الإصغاء والهدوء والمتابعة الجميلة من أكثر من خمسين ألف مستمع .. لاضوضاء ولا أحاديث جانبية كانوا بالفعل يتمثلون طقس الإبداع والرهافة.

عندما جاء دوري، وكنت قد اعددت قصيدة قارع الطبل الزنجي لهذا اللقاء، قرأت مقاطع بالعربية ثم بدأت بإلقاء القصيدة بالروسية، وكنت سعيدا جدا لتفاعل الجمهور مع إيقاعاتها باللغة العربية.. ولكن حدث أمر انحفر في ذاكرتي تماما ، وأربكني لثوان شعرت أنها مدة طويلة جدا .. فرغم الجو الصيفي الجميل إلا أن السحب المتناثرة سرعان ما تجمعت .. وقبل أن أصل إلى المقطع الأخير والذي يحمل تصاعدا تصويريا وإيقاعيا سيكولوجيا ، ويحتاج إلى أداء مناسب، هنا بالذات بدأت الأمطار تهطل وبغزارة .. أسقط الأمر في يدي وتوقفت قليلا عن القراءة، وظننت أن الجمهور سينسحب بسرعة نحو الغابات القريبة، وفكرت للحظة أن علي الإنسحاب أيضا .. عندها ظهر مشهد أسطوري عجيب ، فهؤلاء الناس يعرفون جيدا مناخ بلدهم وتقلبات الطقس المفاجئة، وكما يحدث في تبدل اللوحات التعبيرية الجماهيرية في ملاعب المهرجانات الكبرى، وقف الجالسون على العشب وفتحوا مظلاتهم هكذا خلال ثانية أو ثانيتين .. وبما أن المظلات متنوعة الألوان شعرت وكأن ربيعا خياليا فردوسيا قد انبثق فجأة في هذا المرج الفسيح .. واقترب مني الشاعر الروسي الكبير إيغور إيسايف الذي كان يرعى المهرجان وهو يحمل مظلته…وقف بجانبي تماما لكي تغطينا المظلة معا وهمس مشجعا ومنقذا للموقف .. تابع يا صديقي .. تابع .. أنهيت إلقائي للقصيدة وعدت إلى مكاني قرب صديقي الشاعر المولع بالعرب إيغر لابن الذي سألني بابتسامة ود: هل أزعجك المطر؟

أجبته: وكنت أتصبب عرقا ..أبدا أبدا .. هذا رائع وفوق التصور، يبدو أن الطبيعة نفسها أحبت أن تساهم في المهرجان بقصيدة مطرية .